يولد الإنسان في العالم العربي، ويرضع من ثدي أمه اهتماماً بمسألة
فلسطين. وكما في الملاحم الإغريقية فإنه يسمع عن بطولات خارقة وأحداث مروعة، وعن
فارس كان وآخر سيكون، ثم يشب العربي عن الطوق فلا يجد من حوله فارساً أو فرسا، بل
وجوهاً جهمة عبوسة، عليها غبرة ترهقها قترة، تفترس الحلم قبل أن يتشكل في الصحو
والمنام، ومن ثم لا يجد الصحافيون العرب بُدّاً من ممارسة أحلام اليقظة بالتحدث عن
"بلورة الموقف وتوحيد الصف". و"مواجهة العدو المتغطرس الذي يتلقى
دعماً بلا حدود من واشنطن". وترديد الموال المعتاد عن "القضية
المصيرية" و"المصير المشترك". و"الموقف العربي الموحد".
كان إرهاص وضع القضية الفلسطينية في الأرشيف، هو الحديث عن
"قضية/ أزمة الشرق الأوسط"، مع أن الشرق الأوسط يعاني من أزمات جعلت
المسألة الفلسطينية مجرد فولكلور مثل الأندلس، التي ما زال البعض يبكي على
أطلالها، فالشرق الأوسط يعاني من الجهل والتخلف والفساد والكبت والقهر والظلم
والاستبداد، وهي أمور يتعذر طرحها في أوسلو أو إيكالها الى نادي ريال مدريد، ثم
أصلا ما هو الشرق الأوسط؟ أوسط من أي منظور؟ وهل هو مختلف عن الشرق الأدنى؟
وقياسا على ذلك ما هو الشرق الأقصى؟ هل يتحدث الصينيون عن جارتهم
اليابان على أنها في الشرق الأقصى؟ الإجابة على هذه الأسئلة هي أن الشرق شرق بقرار
من البريطانيين الذين رسموا خطوط الطول والعرض، ولكن وعندما يقال الغرب في عالم
اليوم، فالمقصود هو كتلة الدول المرتبطة بحلف الأطلسي أي مجموعة من الدول الأوربية
والولايات المتحدة، والتي تقع في أقصى الغرب الجغرافي على بعد آلاف الأميال من تلك
المجموعة.
أعني أن تقسيم العالم إلى شرق أدنى وأوسط وأقصى إلخ تقسيم جزافي
هلامي، وتبعا لذلك فإن الاستمرار في الحديث عن أزمة/ قضية الشرق الأوسط مقصود منه
القول بأن تشريد أهل فلسطين وضياع معظم أرض فلسطين جزء من مشكلة عامة ولم يعد لب
المشكلة، وهذا منطق يقول بأن الدول المحيطة بإسرائيل جزء من القضية، بافتراض أنها
تعادي إسرائيل وفي حالة حرب معها، على الأقل على الورق، بينما العرب الرسميون وبعض
صحافتهم يتعاملون مع القضية الفلسطينية كـ "آداء واجب" ومن باب
"ابراء الذمة"، ولهذا ما التقى زعيمان عربيان او مجموعة من الزعماء
العرب، إلا وكان استهلال البيان المشترك بالعبارة المستهلكة "مناقشة القضايا
ذات الاهتمام المشترك وعلى رأسها القضية الفلسطينية"، ويفعل ذلك حتى من نفضوا
أيديهم من تلك القضية وصاروا "سمن على عسل" مع إسرائيل.
كان إرهاص وضع القضية الفلسطينية في الأرشيف، هو الحديث عن "قضية/ أزمة الشرق الأوسط"، مع أن الشرق الأوسط يعاني من أزمات جعلت المسألة الفلسطينية مجرد فولكلور مثل الأندلس، التي ما زال البعض يبكي على أطلالها،
ولأننا شعوب على دين ملوكها لم نعد نتفاعل مع حال فلسطين وحال شعبها
إلا لبرهة قصيرة بين الحين والحين، عندما تتعرض غزة للغارات الجوية والقصف
المدفعي، او تتعرض نابلس او جنين للاجتياح، وفي المقابل فإن
الرأي العام الأوربي،
وإلى حد كبير الأمريكي، صار شديد التعاطف مع الشعب الفلسطيني لأنه خرج في العقود
الأخيرة من بيوت الطاعة الحكومية، ولم يعد خاضعا لسطوة وسائل الإعلام التقليدية،
ومن ثم لم يعد يرقص كما نفعل نحن على إيقاع طبول رب البيت.
تأييد حقوق ونضالات الشعوب المقهورة، يأتي صادقا إذا كان منطلقا من
منصة أخلاقية، وتأسيسا على هذا فتأييد الحق الفلسطيني يكون ليس لأنك عربي او مسلم
او مسيحي، بل لأنك تدرك أن من حق الفلسطيني ان يكون له وطن، وأن يعيش آمنا في
وطنه، وقياسا على ذلك يأتي التعاطف مع أوكرانيا، بغض النظر عن لون حكومتها
السياسي، لأن بعضا من أراضيها تعرضت للاحتلال قبل سنوات، وبقية أراضيها تتعرض
للاجتياح، وحتى لو كنت خصما لدودا لتيارات الإسلام السياسي، ترفض انقلاب قيس
السعيد على حركة النهضة التونسية، واختلاقه لمختلف الذرائع لجعل الخصومة مع الحركة
وسيلة للانقلاب على الدستور، وإخضاع تونس لحكم ديكتاتوري مدني، يديره العسكر من
وراء ستار.
سأختم مقالي هذا بواقعة تؤكد مدى استخفاف العرب الرسميين بالقضية
الفلسطينية، بينما ما هو معلن من جانبهم أنهم مع الحق الفلسطيني ومن ثم "لا
تعامل مع إسرائيل إلا بعد رد الحقوق كاملة للفلسطينيين"، فعندما التقى عبد
الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة
السوداني، وبقرار شخصي برئيس الوزراء الإسرائيلي
بنيامين نتنياهو في يوغندا في شباط/ فبراير من عام 2020، وتفجرت نوافير الغضب
الشعبي في وجهه برر فعلته تلك بأنه استخار ثم أقدم عليها مطمئنا.
يعني، صلى البرهان ركعتين ثم دعا "اللهم إني أستخيرك بعلمك،
وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم،
وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن (لقائي بنتنياهو) خيرٌ لي في ديني ومعاشي
وعاقبة أمري فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني
واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به"، ثم أحس بصدره ينشرح وأنه
حصل على مباركة من السماء على "هذا الأمر".
وقبل أسابيع قليلة، وبعد أن انقلب التحالف بين البرهان ونائبه في
رئاسة مجلس السيادة محمد حمدان دقلو حميدتي إلى عداوة أسالت الدماء أنهارا، قال
حميدتي عن البرهان إنه يستعين في حربه عليها بالإسلاميين رغم أنه (البرهان) لا
يصلي.