كان يوم الخميس الماضي، الموافق 15 حزيران/
يونيو، هو اليوم الأول من الشهر الثالث من
حرب السودان، وعنوان هذا المقال مقولة
مختلف على نسبتها ـ كما هو شائع ـ للإمام علي كرم الله وجهه عن النساء، واستعارها
الشاعر السوري ميخائيل خير الله في أرجوزة تقول:
يَتَمَنَّعنَ وَهُنَّ الرّاغِبات /
وَيُحَدِّثنَ وَهُنَّ الكاذِبات
كَم تَسَلَّينَ بِأَنّاتِ الهَوى / ساخِراتٍ
مِن دُموعٍ هامِلات
وأستعيرها بدوري بعد "تذكيرها"
لأتحدث عن قطبي الحرب الدائرة الآن في السودان: قائد الجيش السوداني عبد الفتاح
البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وموقفهما من دعوات
وقف الاقتتال، فكلاهما يريدان إيهام
الرأي العام الخارجي بأنهما ينشدان السلام،
ولا يقيمان وزنا للرأي العام الداخلي، الذي تساقط عشرات الآلاف من أفراده بين قتيل
وجريح، ويعاني الملايين منهم من ويلات التشرد والنزوح.
ستون يوما ونيف من القصف والضرب بالراجمات
والصواريخ والقذائف اليدوية والموجهة، ولا يستطيع أي طرف أن يزعم أنه حقق انتصارا
ولو جزئيا؛ ومعلوم أنه في جميع الحروب لا يقبل الخصمان بالتفاوض لوقف القتال، ما
لم تكن لأحدهما اليد العليا، ويحس الآخر بأنه موشك على الانهزام التام، وليس ثمة
دليل على أن الجيش السوداني أو خصمه قوات الدعم السريع، على مشارف الانتصار أو
الاندحار، فالجيش لم يعد معنيا إلا بالدفاع عن مواقعه وحامياته، وهكذا ظلت مدينة
الجنينة تنزف طوال أكثر من سبعة أسابيع، هلك خلالها أكثر من ألف شخص، وجرح الآلاف،
وتشرد عشرات الآلاف، وما زال جنجويد الدعم السريع يمطرون الحمم عليها، كل ذلك
وفرقة مشاة كاملة في المدينة متحصنة في
مقراتها، وقال والي ولاية غرب دارفور خميس أبكَر إنه ناشدها مرارا لتهب لحماية
المدنيين، ولكن لقد أسمعت لو ناديت حيّاً/ ولكن لا حياء (بالهمزة) لمن تنادي،
واضطر خميس إلى حمل السلاح للدفاع عن أهل مدينته، وانتهى به الأمر قتيلا بعد أن
وقع في أسر الجنجويد الذين مثّلوا بجثته.
ليس ثمة دليل على أن الجيش السوداني أو خصمه قوات الدعم السريع، على مشارف الانتصار أو الاندحار
في ما يخص معارك مدن العاصمة السودانية
الثلاث (الخرطوم وبحري وأم درمان) ّتدعي قوات الدعم السريع الانتصار، فقط لكون
عناصرها ترابط في معظم الأحياء والشوارع الرئيسة، مستغلة في ذلك الغياب التام
للقوات النظامية من شرطة وجيش ومخابرات في مناطق السكن والأسواق، مما أتاح
للدعّامة، (وهي التسمية الشائعة لعناصر الدعم السريع في السودان مرادفة
لـ"الجنجويد")، أن يستولوا على مئات السيارات المدنية لاستخدامها للتنقل
من مكان لآخر دون الانكشاف، مع تهريب الكثير منها إلى قراهم وبلداتهم
لـ"الاستخدام الشخصي"، وما يؤكد أن حميدتي يدرك أن انتصاره هذا زائف، أنه
لجأ خلال الأسابيع الأخيرة إلى "الخطة ب"، وهي نقل الحرب إلى المواقع
التي يعرف تضاريسها جيدا، وهي مختلف أجزاء إقليمي دارفور وكردفان، فإلى جانب
الجنينة المحاصرة منذ الأسبوع الأول لاشتعال الحرب، فإن قواته تهاجم ومن جميع
الاتجاهات جميع المدن الكبيرة في دارفور (كُتُم وزالنجي ونيالا)، ونجحت الأسبوع
الماضي في السيطرة تماما على النقاط الحدودية مع جمهورية أفريقيا الوسطى حيث بعض
حلفائه ومرتزقة فاغنر الروسية، وإذا وقعت الجنينة في قبضته فسيكون قد ضمن ممرا آمنا
لإمدادات تأتيه عبر الصحراء من تشاد وحفتر ليبيا، وها هي تشاد تستشعر خطر
الجنجويد، وتستدعي قوات فرنسية لتحرس حدودها مع السودان، لإدراكها أن هناك الآلاف
من عناصر المعارضة التشادية المسلحة يقاتلون حاليا من قوات الدعم السريع.
كلما تمت استضافته في أداة إعلامية يؤكد
البرهان استعداده لوقف العدائيات، وبما أنه لا يملك أداة إعلام محلية، لأن الحرب
حرمته منها، فإنه يوعز لجماعته بأن يؤكدوا لأهل الداخل عبر الوسائط المتاحة أنه لا
سلام قبل محو الدعم السريع من الوجود، ولكن لا هو ولا من ينبرون ليكونوا أبواقا
له، قالوا طوال الشهرين الماضيين ما يفيد بأن عملية المحو تقدمت قيد أنملة، ومؤخرا
طرحت دول الإيغاد مبادرة لوقف الحرب في السودان، رحب بها البرهان على استحياء، وإن
كان قد نفى ما صرح به نائبه في المجلس السيادي بأنه سيلتقي بحميدتي في غضون أيام
قليلة، ثم فضح جهله للمرة الثانية بأصول العمل الدبلوماسي حين طالب بنزع رئاسة
اللجنة المناط بها تسويق المبادرة من كينيا، وإسنادها لسلفا كير رئيس جمهورية جنوب
السودان وبهذا طعن في أهلية الرجل للمنصب، لأن الطرف الثاني (حميدتي) سيشكك بداهة
في حيدة الرئيس كير، وكانت السقطة الدبلوماسية الأولى عندما قرر طرد المندوب
الأممي المكلف بإدارة ملفات الحكم الانتقالي في السودان، دون أن يدري أنه ما من
دولة تملك حق طرد ممثلي الأمم المتحدة من أراضيها، لأن قرار تعيينهم يصدر من مجموعة
دول، وتختلف وضعيتهم عن الدبلوماسيين الذين يمثلون بلدانهم في دول أخرى.
وهناك الكثير من المؤشرات التي تفيد بأن
البرهان وحميدتي باتا يدركان أنهما دخلا الحرب بتقديرات خطأ، ورغم أن الرأي العام
السوداني في مجمله يرى أن الدعم السريع عصابة إجرامية مأجورة، إلا أن ذلك لم يُترْجم إلى وقفة صلبة خلف الجيش، لأن الأخير لا يُبدي أي عناية بسلامة المواطنين، ولأن
أداءه لا يشي بأنه يستحق المرتبة العاشرة بين جيوش أفريقيا، كما يفيد تقييم دوريات
عسكرية متخصصة ومحكَّمة.
ظل البرهان وعلى مدى الأسابيع الأخيرة، يرسل
إشارات بأنه على استعداد لوقف الحرب، ولكن ولأنه دخلها وجرَّ معه الجيش اليها
لتحقيق طموحه بالانفراد بالسلطة، فإنه يريد لموافقة وقف الحرب أن تأتي من الكتلة
الأفريقية التي يحسب انه يستطيع التأثير عليها لتنحاز الى خياراته، بينما يتعلق
حميدتي بقشة الرياض-واشنطن، لأنها تطرح وقف الحرب على أن يلي وقفها تشكيل حكومة
مدنية، وليس مرد ذلك أن حميدتي من أنصار الحكم المدني، بل من باب عليّ وعلى
البرهان، لأنه يدرك أنه لا مكان له في أي هيكل حكم مرتقب، لأنه- حتى أنصار الحكم
المدني- ينادون بحل قوات الدعم السريع وإخراجها وقياداتها من المشهدين العسكري
والسياسي.
والشاهد هو أن طرفي الحرب في السودان باتا
يدركان، بعد أن ألحقا دمارا شبه شامل بمختلف مرافق البلاد، وقتلوا وجرحوا الآلاف، وشردوا الملايين،
وأهلكوا الزرع والضرع، أن الحسم العسكري لم يعد ممكنا، فصارا من ثم يرسلان على استحياء
إشارات في مختلف الاتجاهات بأنهما على استعداد لوقف العدائيات، ولكنهما وبموازاة
ذلك يمارسان عنتريات لفظية موجهة الى الرأي العام المحلي توحي بأنهما قادران على
الانتصار، وهكذا يعملان بمنطق الحكمة الشعبية المصرية "التُقل صنعة"، أي إن تصنُّع التقل الذي هو عدم التهافت، يحتاج الى مهارات عالية، وهكذا فهما يرغبان في
وقف الحرب بمعادلة تحفظ ماء الوجوه، ولكن مع كثير من الدَّل والتمنع، كي لا يبدوا متلهفين للسلام لضعف فيهما.