في مطلع عام 2021 غادر دونالد
ترامب البيت
الأبيض، بعد ان قضى فيه أربع سنوات عاصفة، كرئيس لأقوى دولة في العالم، دون ان
يكون في سجله انجاز يدعو الى التباهي، وصار ترامب منبوذا بعد
فوز غريمه جو بايدن
بالرئاسة، بينما كان هو (ترامب) يحلم بولاية ثانية، وذلك بعد أن حرك مسانديه
لاجتياح مبنى الكابيتول في كانون الثاني/ يناير من عام 2021 للاحتجاج على تزوير
مزعوم للانتخابات.
وإذا بترامب بسجل خيباته الجسام، يعاود
الكرة ويخوض الانتخابات الرئاسية في مواجهة نائبة الرئيس الحالي كامالا هاريس،
ويفوز عليها فوزا كاسحا، أثار الكثير من الحيرة والدهشة: كيف لرجل مدان في 34
جريمة ويواجه اتهامات جساما أخرى، وحياته الشخصية في معظمها فضائح جنسية، بسبب
علاقاته مع عاهرات، وبسبب تحرشه بالعديد من النساء. رجل يرفض الكشف عن سجله
الضرائبي، وقال عنه كبار مساعديه إبان رئاسته للحكومة إنه لم يكن يقرأ التقارير،
ولا يحسن الإنصات لما يقوله مستشاروه ووزراء حكومته. كيف له ان يفوز في مواجهة
امرأة ذات سجل مهني مشرف في المجال القانوني، ولها دراية بأمور الحكم لأنها ظلت
نائبة للرئيس الحالي طوال اربع سنوات، وأثبتت خلال مخاطباتها الجماهيرية وحواراتها
الإعلامية أنها ـ بعكس ترامب ـ تعي ما تقول وتتمتع بحضور البديهة وسعة الأفق
الثقافي؟
الولايات المتحدة تربة خصبة لكل أنواع الهوس الديني والسياسي والثقافي، ومن ثم فليس من المستغرب أن يحظى شخص موسوس مثل ترامب بشعبية كاسحة
قيل الكثير في الرد على هذا السؤال، ومنه ان
ترامب ركز على موضوع "الهجرة"، وأثار الحمية الوطنية بتكرار القول بأن
ملايين الأجانب يدخلون الأراضي الأمريكية بسهولة، وينالون حق المواطنة، جالبين
معهم شتى صنوف الجريمة، وأنه توعد الصين بإجراءات قاسية تحدّ من دخول سلعها الى
السوق الامريكية، بينما ظلت هاريس تلت وتعجن في مواضيع لا تهم معظم الناخبين
الامريكان، مثل حق الإجهاض وحقوق مثليي الجنس، وتقول كلاما هلاميا عن انعاش الطبقة
الوسطى.
ولكن هناك أمور لا تُخطئها حتى عين أعمى
المعرّة، فكون كمالا هاريس امرأة لعب دورا كبيرا في نفور الناخبين، خاصة في
الولايات الجنوبية وجنوب الوسط منها، وهذه الفئة من الناخبين التي يعيش معظمها
فيما يسمى بالحزام المسيحي، لم يكن يعنيها قط أن سجل ترامب حافل بالمخازي التي
تخالف تعاليم الانجيل، بل من قساوستهم من أعلن عبر المنابر ان ترامب هبة السماء
لأمريكا، ويتباهي الأمريكان بأن بلادهم هي أكثر اقطار الأرض احتضانا للمسيحيين
(224 مليون من سكان الولايات المتحدة مسيحيون)، وأن بها نحو 400 ألف كنيسة،
وبالمقابل أثبت تاريخ الولايات المتحدة على مر العقود أنها تربة خصبة للأنبياء
الكذبة، فل"كنيسة المسيح"، والمورمون، وشهود يهوه وقديسي اليوم الأخير،
أناجيل خاصة وأنبياء يزعمون أنهم يحملون توكيلا من المسيح لمواصلة رسالته، هذا
بالطبع الى جانب الأغلبية البروتستانت والكاثوليك.
في سبعينيات القرن الماضي كانت طائفة بوابة
السماء هي "الموضة الأمريكية"، ثم وفي آذار/ مارس من عام 1997 أمرهم
مرشدهم الروحي بتناول أقراص مخدرة ووضع أكياس بلاستيكية حول رؤوسهم فكان ان مات
منهم 39 على الفور. ومن جانبه قرر القس جيمس وارين جونز ان يصبح زعيما روحيا ذا
تعاليم خاصة، ولهذه الغاية هاجر مع مريديه الى غيانا في أمريكا الجنوبية، ولما
أرسلت المباحث الأمريكية فريقا للتحقيق فيما تردد من انتهاكات لحقوق الانسان في
المعسكر الذي أقامه لأتباعه، أمر جونز بقتل أعضاء الفريق، ثم أقنع جميع الأتباع
بتناول سم السيانيد فكان ان مات 918 منهم على الفور، ومن بينهم 304 طفلا، وفي شباط (فبراير) من عام 1993 توجهت الشرطة
الاتحادية لاعتقال ديفيد كوريش زعيم طائفة
الداووديين في واكو في ولاية تكساس بعد وصول معلومات تفيد بأنه يتحصن وأتباعه في
مبنى أشبه بالقلعة، ولديهم مخزون هائل من الأسلحة غير المرخص بها، وبأن النساء
الداووديات من جميع الأعمار يتعرضن للعنف الجنسي، فأشعل كوريش النار في المبنى،
فكان ان هلك 75 منهم حرقا، واتضح ان كوريش اختار وسيلة اسرع للموت بأن أطلق النار
على رأسه.
ترامب هو فتى اليمين المتطرف المدلل، فقد أثبتت الوقائع أنه على صلة بتنظيمات يمينية عنصرية تمارس الاستعلاء على السود واللاتينيين، ولا شك أن هؤلاء طربوا وهم يسمعون ترامب يقول في سياق حملته الانتخابية إن المهاجرين من هاييتي يأكلون الكلاب والقطط والحيوانات المنزلية لجيرانهم،
والشاهد فيما سلف هو أن في الولايات المتحدة
تربة خصبة لكل أنواع الهوس الديني والسياسي والثقافي، ومن ثم فليس من المستغرب أن
يحظى شخص موسوس مثل ترامب بشعبية كاسحة، والمؤشر الآخر المُهم لتفسير شعبيته، هي
ان 75% من حملة الدرجات الجامعية فما فوقها صوتوا لهاريس، فقد فاز ترامب بأكبر من
76 مليون صوت، مما أهله للفوز ب312 من أصوات الكلية الانتخابية (مقابل 74 مليون
226 لهاريس على التوالي)، ويقدر عدد حاملي الدرجات التعليمية العالية في الولايات
المتحدة ب24 مليون، وإذا افترضنا ان جميع هؤلاء أدلوا بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية
الأمريكية الأخيرة، فإن نصيب ترامب منهم هو فقط 8 ملايين، وبهذا فليس من العسف
والشطط ان نقول ان ال68 مليون الآخرين من مؤيدي ترامب هي تلك النوعية التي رفضت
التداول السلمي للسلطة بعد ان فاز بايدن على ترامب في مطلع 2021، واجتاحت مبنى
الكابيتول لقتل النواب الذين باركوا فوز بايدن.
وترامب هو فتى اليمين المتطرف المدلل، فقد
أثبتت الوقائع أنه على صلة بتنظيمات يمينية عنصرية تمارس الاستعلاء على السود
واللاتينيين، ولا شك أن هؤلاء طربوا وهم يسمعون ترامب يقول في سياق حملته
الانتخابية إن المهاجرين من هاييتي يأكلون الكلاب والقطط والحيوانات المنزلية
لجيرانهم، ومن ثم لم يكن غريبا ان يناصره "الآريون" وهم حملة لواء هتلر
المنادون بنقاء العرق الأبيض، وجماعة كوكلاكس كلان التي ولغت في دماء السود في
أمريكا على مدى قرن كامل.
كتبت هنا في عربي21" في الخامس من
تشرين اول أكتوبر الماضي مقالا بعنوان "العلة في الناخب الأمريكي" قلت
فيه إنه لن يدهشني ان يفوز ترامب لأن "ملايين الأمريكان ينقادون لترامب كما
قطيع الضأن، ولا يكفون عن التبجح بأنهم من انصار "ماغا MAGA" وهو الشعار الذي يرفعه ترامب "لنجعل
أمريكا عظيمة مجدداً"، ويرون ان عظمة أمريكا تعني وصايتها على بقية دول
العالم، لجعلها تقتدي بالنهج الديمقراطي الأمريكي، ولا عليهم ان نهجا يعطي الرئاسة
لرجل من شاكلة ترامب، يعاني من إعاقة وعاهات فكرية وأخلاقية، لا يليق بأمم ذوات
عقول، ان تهتدي به".