ما يؤكد انتماء السودانيين للعرب، أو على الأقل رجاحة جينات العرب عندهم على ما عداها، هو أنهم، وما أن يموت لهم زعيم أو رئيس إلا ودفنوا معه خطاياه، بل يجدون في "اذكروا محاسن موتاكم" رخصة لفبركة المحاسن ونسبتها إلى المرحوم، وهكذا تجد كثيرين منهم ينظرون إلى حال البلد اليوم في ظل حكم البراهنة والدقالوة (عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي)، فيستعيدون بحسرة أمجاد الرئيس المشير جعفر نميري ومن قبله الرئيس الفريق إبراهيم عبود، وتسألهم عن أثر واحد لأي من الرجلين يجعل التحسر على زوال حكمه مبررا، فتصاب ألسنتهم بالشلل الرعاش، ولا تثريب عليهم، فهُم كما أسلافهم لا يرون بأسا في الوقوف طويلا عند الأطلال والبكاء عليها.
كنت أحكي لنفر من الأصدقاء عن كيف أننا في مدينة كوستي الواقعة جنوب الخرطوم على النيل الأبيض، كنا نعرف ـ في زمن كانت فيه المساجد ذات مكبرات الصوت قليلة في المدينة ـ موعد صلاة العصر من صافرة القطار المتجه إلى إقليم كردفان، والذي كان يشق المدينة في تمام الرابعة والنصف عصرا بزيادة أو نقصان دقائق قليلة، فانبرى نفر منهم للترحُّم على الاستعمار البريطاني "الذي شيد خطوط السكك الحديدية وأدار مرافق الدولة بانضباط وحزم".
وسودان اليوم يندفع نحو الهاوية عموديا، كثر البكاء على أطلال السودان القديم الذي كانت تحكمه بريطانيا، والتحسر على أيام الاستعمار، ويحضرني هنا مقال قديم محكم السبك للأستاذ محمد نبيل في موقع الجزيرة نت بعنوان "قل احتلال ولا تقل استعمار" ويبرر ذلك بقوله: "فالشائع بالخطأ هو استخدام كلمة (استعمار) للدلالة على استيلاء العدو ـ وبخاصةٍ الغرب الأوروبي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ـ على أراضينا العربية والإسلامية بالقوة، في فترة سُباتٍ كانت من أشد حِقَبِ تاريخنا ظلامًا. هذا على الرغم من أن كلمة استعمار لها مدلولٌ لغوي طيب للغاية. فالاستعمار لغةً يعني: طلب الإعمار أو العمران… استعمره في المكان؛ أي جعله يعمره… استعمر الأرض: عمّرها، أي أمدها بما تحتاج إليه من الأيدي العاملة لتصلح وتعمُر… استعمر اللهُ عبادَه في الأرض، أي جعلهم ساكنيها وعُمّارًا لها. يقول تعالى: "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" من الآية 61 ـ سورة هود.
نعم شيد الحكم البريطاني للسودان شبكة للسكك الحديدية ما بين عامي 1884 و1887، ولكن وكما انتبه لذلك الروائي الطيب صالح فقد كان ذلك لتسهيل نقل الجنود والعتاد الحربي في سياق الإعداد لاحتلال السودان، وتم لهم ذلك في 1889، ثم لنقل المواد الخام إلى موانئ التصدير إلى بريطانيا، ولتلك الغاية أيضا أنشأ البريطانيون مشروع الجزيرة الزراعي في وسط السودان بين النيلين الأزرق والأبيض في عام 1925، ليصبح أكبر مشروع مروي انسيابيا في أفريقيا وأكبر مزرعة في العالم تحت إدارة واحدة. وكان كل ناتج المشروع من القطن يغذي مصانع الغزل والنسيج في لانكشير في إنجلترا، ولهذا أصبحت تلك المصانع أثرا بعد عين بعد استقلال السودان وتعدد وجهات تصدير القطن السوداني.
ليس من الشطط القول بأن لحم أكتاف أوروبا في معظمه من خيرات السودان والهند وغانا والكونغو وغيرها، وأن التباكي على الحقبة الاستعمارية منشؤه تلك الحالة النفسية المضطربة التي تجعل الرهينة المختطف متعاطفا مع من يحتجزه.
ويتحدث هواة الوقوف على الأطلال بحسرة أيضا عن الجيش السوداني "الذي كان" في زمن الحكم البريطاني وكيف كان منضبطا، وكيف كان الجندي السوداني محل إشادة من الإعلام البريطاني، ولا عليهم أن بريطانيا أنشأت قوة دفاع السودان (نواة جيش البلاد الحالي) في عام 1925، لخدمة استراتيجيتها الامبريالية، وهكذا حارب البريطانيون إيطاليا التي احتلت مناطق شاسعة في شرق أفريقيا بالجنود السودانيين، وأدى ذلك إلى تعرض مدن وقرى سودانية لقصف جوي ومدفعي من قبل الجيش الإيطالي، ثم تم الزج بقوة دفاع السودان في معارك شمال أفريقيا على الأراضي الليبية والتونسية في سياق الحرب العالمية الثانية، بين قوات المحور وحلفاء بريطانيا، والشاهد هنا هو أنه لا يجوز للسودانيين التباهي ببطولات جنودهم خلال تلك الحرب، لأنهم كانوا ـ في واقع الأمر ـ يدافعون فقط عن مصالح بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وليس مصالح وطنهم.
ولعل الهند هي أكثر بلدان الأرض تعرضا للاستنزاف من قبل بريطانيا التي حكمتها منذ مطلع القرن التاسع عشر وحتى عام 1947، وجاء في كتاب أصدرته دار كولمبيا للنشر أنّ بريطانيا نهبت نحو 45 تريليون دولار من الهند خلال الفترة ما بين عامَي 1765 و1938. (يعادل هذا المبلغ أكثر من 17 ضعفَ الناتجِ المحلي الإجمالي السنوي للمملكة المتحدة الحالي) فحتى قبل خضوع الهند للاحتلال المباشر من قبل التاج البريطاني، كانت هناك شركة الهند الشرقية وهي أصلا مخلب القط لطموحات بريطانيا التوسعية، وأعطت الشركة نفسها حق جمْع الضرائب في الهند، ثم استخدمت جزءًا من هذه العائدات لتمويل شراء البضائع الهندية للاستهلاك البريطاني. أي أنه وبدلًا من دفع ثمن البضائع الهندية من أموال البريطانيين الخاصة، حصَل التجار البريطانيّون عليها مجانًا، لأنهم قاموا "بشرائها" من الفلاحين والنسّاجين باستخدام الأموال التي أخذوها منهم في صورة ضرائب.
والناظر إلى خارطة أوروبا الاقتصادية، يرى أن عمالقة التصدير والتصنيع فيها، هي الدول التي احتلت وحكمت دولا في القارات الأخرى (ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا نموذجا)، بينما الدول الأوروبية التي لم تمارس "الاستعمار"، مثل اليونان ورومانيا والتشيك وبلغاريا تتأرجح ما بين العالمين الثاني والثالث، ولهذا فليس من الشطط القول بأن لحم أكتاف أوروبا في معظمه من خيرات السودان والهند وغانا والكونغو وغيرها، وأن التباكي على الحقبة الاستعمارية منشؤه تلك الحالة النفسية المضطربة التي تجعل الرهينة المختطف متعاطفا مع من يحتجزه.
الاتفاقية الليبية مع تركيا في عمق الصراع السياسي
هل سيستخدم بوتين السلاح النووي في أوكرانيا؟