إذا ألقيت بحجر في الماء، فإنه يهبط في خط متعرج حتى يصل الى القاع، وإذا قال لك سوداني إنه سيغطس حجرك، فإنه يعني القضاء عليك بصورة أو بأخرى، وعبد الفتاح البرهان حاكم عموم السودان (ما عدا حلايب وشلاتين التي تنازل عنهما لكفيله عبد الفتاح السيسي)، هو من الناحية الفعلية والتطبيقية رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، والقضاء والنيابة العامة، وقائد الجيش والشرطة، وراعي عدد من المليشيات المسلحة، على رأسها قوات الدعم السريع، وهو الذي يعين مدراء الجامعات وعمداء الكليات، ويوزع العطايا على أهل الولاء وروسيا.
وشأنه شأن كل الديكتاتوريين، فإن لديه دائرة صغيرة من المساعدين أهم مؤهلاتهم أنهم لا يعصون له أمرا، ولا يشورون عليه إلا بما يراه ويريده هو، وعلى رأسهم مستشاره الإعلامي، وهو ضابط برتبة عميد، لا ينطق إلا عن الهوى، ولكن بما يهواه البرهان، وقد وجد هذا المستشار في مشاركة البرهان في تشييع جثمان الملكة اليزابيث الثانية، ثم حضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، فرصة للتباهي بأن البرهان، وبحذقه الدبلوماسي وكارزمية شخصيته نجح في إخراج السودان من العزلة الدولية التي تخنقه منذ أن استولى البرهان على السلطة، بانقلاب عسكري في 25 تشرين أول / أكتوبر من العام الماضي، بينما أجمعت وسائل الاعلام البريطانية على أن مشاركة البرهان في العزاء هي أول سقطة للملك الجديد تشارلز الثالث، ومنها من قال إن البرهان من نفس طينة ديكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون.
ثم إن المستشار هذا فضح جهله، إذ حسب أن المشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة تتم بدعوة من حكومة واشنطن، ولا يدري أن للأمم المتحدة في نيويورك نفس وضعية الفاتيكان، من حيث أنها شبه دولة داخل دولة، ثم تلقى المسكين لطمة مباشرة عندما قال السفير الأمريكي في الخرطوم، إن ذهاب البرهان إلى نيويورك ليس مؤشرا بأي حال على صفاء العلاقات الأمريكية السودانية، وأن واشنطن ما تزال تطالب برحيل البرهان والعسكر عن قصور الحكم.
أطاح البرهان في انقلابه الأخير بحكومة مدنية، كانت قد نجحت في استقطاب دعم دولي لإنعاش الاقتصاد السوداني، في شكل منح وإعفاءات من الديون الخارجية، وفي استرداد مبالغ ضخمة استولى عليها أعوان الرئيس المخلوع عمر البشير بغير حق، وهكذا قطع البرهان شعرة معاوية الرفيعة التي ربطت السودان بالمجتمع الدولي، فتوقفت المعونات والمنح، ثم ترك أمر الخزينة العامة بيد قائد مليشيا متحالف معه، فصار يدير أمورها بنفس الأسلوب الفظ الذي كان يتعامل به مع من خرجوا عن طاعته من مقاتلي المليشيا، فكانت النتيجة سلسلة من الإضرابات شلت الكثير من مناحي الحياة في البلاد.
دخل العاملون في قطاع الكهرباء في إضراب شامل تضررت منه المتاجر والمصانع والمساكن والمكاتب، وتبعهم العاملون في وزارة التجارة والتموين، فتوقفت حركة الصادر والوارد، ثم صغار الأطباء الذين لم يتقاضوا رواتبهم طوال الأشهر التسعة الماضية، ولكن الضربة الساحقة والماحقة التي ألحقها الوزير، بأمر البرهان، إلى الوطن والمواطن، تمثلت في رفع الضرائب المفروضة على التجار بنسب تتراوح ما بين 600% و1000%، ومعنى هذا ان ترتفع أسعار جميع السلع بما هو أكثر من تلك النسب، حتى يحقق التجار بعض الربح، ومعناه الآخر هو ان يفقد المواطن القدرة على الشراء، فيفقد التاجر القدرة على البيع وتعم الخسارة الجميع، وهكذا دخلت أسواق ست ولايات تضم زهاء 15 مليون نسمة في إضرابات تمثلت في الإغلاق التام لأول مرة في تاريخ السودان، في غير سياق عصيان مدني تشارك فيه جميع القطاعات والشرائح.
أطاح البرهان في انقلابه الأخير بحكومة مدنية، كانت قد نجحت في استقطاب دعم دولي لإنعاش الاقتصاد السوداني، في شكل منح وإعفاءات من الديون الخارجية، وفي استرداد مبالغ ضخمة استولى عليها أعوان الرئيس المخلوع عمر البشير بغير حق، وهكذا قطع البرهان شعرة معاوية الرفيعة التي ربطت السودان بالمجتمع الدولي..
ويشهد السودان حاليا انهيارا متسارعا في قطاع العقارات، فبعد أن تعذر توفير القوت والعلاج والتعليم داخل البلاد، عمد الآلاف إلى بيع عقاراتهم والهرب بعوائد بيعها إلى مصر وتركيا، وبسبب كثرة المعروض من المباني للبيع، تضاءل الطلب عليها ونجم عن ذلك هبوط حاد في أثمانها، وهناك أحياء في القاهرة صار السودانيون يتملكون معظم مساكنها، وترتفع في مصر حاليا أصوات تشكو من ان السودانيين صاروا يشكلون عبئا على المرافق والخدمات والبنى التحتية.
تفيد تقارير اليونسيف بأن أربعة ملايين طفل في السودان يعانون من سوء التغذية، بينما تحذر منظمة الأغذية العالمية من أن 17 مليون سوداني باتوا مهددين بمجاعة عارمة خلال الأشهر الستة المقبلة، ولكن ذلك يصل إلى أذن البرهان الصماء، فالرجل ما زال يكابر ويلقي باللائمة في كل شيء على القوى المدنية والأحزاب السياسية المطالبة بعودة العسكر إلى الثكنات، ولأنه لا يؤمن بجدوى الجزرة، ويحسب أن العصا وحدها هي التي أوصلته إلى قصر الرئاسة، فقد صدر عن أحد أعوانه، وهو ضابط في الجيش يشغل منصب رئيس تحرير صحيفة القوات المسلحة، إنذار بأن صبر الجيش قد نفد، وأن ساعة صفر جديدة مطروحة على الطاولة، ومعنى ذلك أن البرهان يعتبر انقلابه الأخير ناقصا، لأنه اصطحب في قاربه بعض المدنيين (هم في واقع الأمر لوردات حرب بملابس مدنية)، ويفكر في جعل السلطة بكاملها في يد الجيش، وربما يفسر هذا لماذا لجأ البرهان مؤخرا إلى إبعاد العشرات من كبار الضباط من الجيش، وترقية نفر من أهل السمع والطاعة من الضباط إلى رتب عليا لأنه يدَّخرهم لـ "ساعة عوزة".