كانت الثورة الإسلاميَّة في إيران، خصوصا إبَّان لحظتها النماذجيَّة الأولى؛ مصدر خطر حقيقي لا على أنظمة الدول ما بعد الكولونيالية التي ترسف في أغلال التبعيَّة فحسب، وإنما خطر جسيم تهدَّد النظام العالمي الكُفري بأسره، خطر النموذج الذي يُمكن احتذاؤه للخروج من أسر هذا النظام، والاستقلال الحقيقي عنه. لذلك، لزم حصار النموذج وعزله، والتعتيم عليه وتشويهه، ثم المساهمة في إطلاق عناصره الذاتية التي تستطيع إكمال المهمة.
ويُمكن لمن اطَّلع على مقالات الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو" عن الثورة الإيرانية(1)، أن يتبيَّن بيُسر بعض مواطِن التهديد التي مثَّلتها الحركة الإسلاميَّة في إيران؛ إذ إن مقالاته البصيرة تكشِفُ المتتالية العمليَّة للثورة، وتكشِف من ثم خطورة هذه المتتالية. وهي خطورة واقعيَّة حقيقيَّة، تتجاوز بكثير تجريد "نظريَّة ثوريَّة" من مسار الثورة(2).
لكنَّ فوكو نفسه لم يُرتِّب المتتالية ترتيبا مكتوبا، وربما لم تتبيَّن له على الوجه الذي وفِّقنا لترتيبها حسبه، من واقع معرفتنا بالثورة وخلفيَّاتها النظريَّة والعقديَّة، والقوى الفاعِلة فيها؛ بما يجعل مقالات فوكو أشبه شيء بمسوَّدة أوليَّة -غير مُرتَّبة- لمانيفستو الثورة العملي. وهو ما لا يُمكن قطعا استعماله بغير إدراك الخلفيَّات التاريخيَّة للثورة، ولا الإفادة منه دون الاطلاع على بعض محاولات التأطير النظري لها(3).
وقد وجدنا أن المتتالية العمليَّة للثورة قد تكوَّنت من خمس مراحِل أساسيَّة، قد لا يُشتَرَط فيها هذا الترتيب بالضرورة، وإنما يُشترط تمام تحقُّقها جميعا بدرجة ما، وفي لحظة واحدة؛ لنجاح الحركة، وحتى تُصيب بعض الفعاليَّة المذهِلة التي أصابتها في إيران.
المتتالية العمليَّة للثورة قد تكوَّنت من خمس مراحِل أساسيَّة، قد لا يُشتَرَط فيها هذا الترتيب بالضرورة، وإنما يُشترط تمام تحقُّقها جميعا بدرجة ما، وفي لحظة واحدة؛ لنجاح الحركة، وحتى تُصيب بعض الفعاليَّة المذهِلة التي أصابتها في إيران
والمرحلة الأولى، التي نرى أن تحقُّقها نظريّا وعمليّا، كان هو مبدأ الحركة؛ هي: تبلور فكرة "القيمة الملاذ"(4)، أي تحول الإسلام إلى ذخيرة روحيَّة عمليَّة، تستعين بها الجماهير استعانة صادقة على مواجهة الواقع. ولم تكن تجليات ذلك هي مجرَّد عمارة المساجد بالمصلين، وازدحام الأضرِحة بالزوار، أو تحول المقابر والجنازات إلى أماكن تجمُّع للنقاشات والفعاليَّات السياسيَّة فحسب، ولا كان التجلي الأهم هو التفاف الإيرانيين جميعا -حتى العلمانيين وغير المتدينين منهم- حول شخص الإمام
الخميني، وثقتهم فيه وفي تجرُّده ثقة عمياء (ص 76)، وإنما كان الأهم، كما وصف فوكو نفسه (ص 93)؛ أن الإيرانيين حين انتفضوا كان لسان حالهم: علينا أن نُغير أنفسنا. "يجب أن يتغيَّر أسلوب حياتنا كليّا، وتتغيَّر علاقاتنا مع اﻵخرين... ومع الله. إذ لن تصير الثورة حقيقيَّة، إلا إن حدث هذا التغيير الجذري في حياتنا ووجودنا". ويعتقد فوكو أن هذا هو ما مكَّن الإسلام من أداء دوره بالكامل؛ إذ "كان كالوعد والضامن للعثور على ما يُغيرون به أنفسهم جذريّا". لذا، لم يكن الإسلام بالنسبة للإيرانيين -إبَّان الثورة- أفيونا، بل روح عالم لا روح له.
يُعبر فوكو عن ذلك إذ يتساءل: فأين -سوى في الإسلام (ص 43)- كان بوسع الإيرانيين "البحث عن الحماية والعثور على الهويَّة إن لم يكن في هذا الإسلام، الذي نظَّم -بعناية وعلى مدى قرون- الحياة اليوميَّة والروابط الأسريَّة والعلاقات الاجتماعيَّة؟". وقد أدرك الشاه ذلك هو اﻵخر (ص 42)؛ فحاول الاستيلاء على بعض هذا التيار، فشيَّد، بالقُرب من مرقد شاه عبد العظيم الحسني (في الرِي، جنوب طهران)؛ ضريحا لأبيه، "لكنَّ سعيه ذهب أدراج الرياح.. ففي صراع الموتى؛ يتفوَّق ابن الإمام على أبي الشاه".
ومن ثم (ص 48)، فقد جسَّد التشيع للإيرانيين آنذاك "ما جسَّده عبر تاريخه كله"؛ أي كونه شكلا "من أشكال التعبير، ونمطا للعلاقات الاجتماعيَّة، وتنظيما أوَّليا، مرِنا ومقبولا على نطاق واسع، وطريقة للتآزُر، وأسلوبا للتحدُّث والإصغاء، وصلة تسمح للجميع بأن يسمع بعضهم إلى بعض، وتتوحَّد إرادتهم".
لقد صار الإسلام -في صيغته الشيعيَّة- لا مُجرَّد شعائِر كهنوتيَّة ميتة حبيسة المسجد، ومنفصلة عن الحياة، وإنما أمسى إطارا للعلاقات الاجتماعيَّة، وزادا لا ينفد للفعاليَّة الاجتماعيَّة.
صار الإسلام -في صيغته الشيعيَّة- لا مُجرَّد شعائِر كهنوتيَّة ميتة حبيسة المسجد، ومنفصلة عن الحياة، وإنما أمسى إطارا للعلاقات الاجتماعيَّة، وزادا لا ينفد للفعاليَّة الاجتماعيَّة
أما المرحلة الثانية، فكانت صعود القيادة الاجتماعيَّة للعلماء(5). ورغم أن فوكو لم يَستَفِضْ في المسألة، استفاضة كبيرة، إلا أنه من المقطوع به أنه لولا ترسُّخ هذه القيادة اجتماعيّا، منذ ملئها الفراغ الذي خلفه سقوط الدولة الصفوية، مرورا بانتصار التيار الأصولي، واختبار قوَّة هذه القيادة إبَّان عهد القاجار، خصوصا في أثناء انتفاضة التبغ ثم الثورة الدستوريَّة؛ لولا زخم هذه المتتالية لما انتصرت ثورة 1979م.
لقد تكوَّنت القيادة العُلمائيَّة للثورة عبر قرنين تقريبا، وذلك كما تراكمت الخبرة الثوريَّة اجتماعيّا خلال ما يقرُب من القرن. وكانت الصورة النهائيَّة -التي بلغتها نظريَّة ولاية الفقيه- نتيجة لتطورات معرفيَّة واجتماعيَّة استغرقت قرونا، وهي التطورات التي بدأت في الحواضر الشيعيَّة العربيَّة بالأساس.
هذه القيادة الاجتماعيَّة كانت شديدة التجذُّر في وعي الجماهير قبل واقعهم، وهذا مكمن قوتها الأكبر. يؤكد فوكو (ص 47) أن "الشعب لا يتَّبع إلا من يرغب في الإصغاء لدعوته، وآيات الله، الذين استطاعوا اليوم إخراج شعبٍ بأكمله إلى الشارِع في مواجهة الشاه وشُرطته وجيشه؛ لم يُنصبهم أحد، بل أصغى إليهم الناس طواعية". وقد اختُبِرَ ترسُّخ هذه القيادة الثوريَّة خلال مُناسبتين مُتأخرتين (ص 60)؛ أولاهما عودة الدراسة إلى الجامعة، والثانية إطلاق سراح عدد من السجناء السياسيين، إذ لم يُفضِ الحادثان إلى تراجُع نفوذ "ملالي الأرياف"، وتصدُّر المثقَّفين المتغرِّبين والماركسيين للمشهد، بل إن أشرطة الكاسيت، التي تحوي خُطب العلماء الناريَّة، والمتاحة للبيع أمام أبواب معظم المساجد (ص 78)، صار بالوسع الاستماع إليها في كل مكان، إذ أتخمت الشوارع المزدحمة بأطفال يحملون أجهزة تسجيل تتفجَّر منها الأصوات القادمة من قُم ومشهد وأصفهان. وقد كانت تسجيلات الإمام الخميني -القادمة من خارج إيران- على رأس هذه التسجيلات، وذروة تلك الظاهرة(6).
وقد أفعم الأثير بهذا الحضور القيادي للعلماء، لا عبر التسجيلات فحسب، وإنما بالخطابة اليوميَّة في المساجد (ص45)؛ إذ "خلال ساعات النهار، كان الملالي يخطبون في المساجد، يَحدوهم الغضب على الشاه والأمريكيين، وعلى الغرب وماديته؛ ويدعون -باسم القرآن والإسلام- إلى محاربة هذا النظام عن بكرة أبيه. وأينما كانت المساجد أصغر من أن تتسع للحشود المجتمعة؛ وُضِعَت مكبرات الصوت في الشوارِع، فإذا القرية بأكملها، أو الحي بأسره؛ يَضجُّ بأصوات مهيبة تُشبه صوت الراهب الإيطالي جيرولامو سافونارولا في فلورنسا، أو المعمدانيين في مونستر، أو أتباع المشيخيَّة في عهد أوليفر كرومويل. وقد سُجلت العديد من هذه الخطب على أشرطة كاسيت؛ ذاعت في أنحاء إيران".
هذا الحضور الملحمي للعلماء -في كل ذرات الأثير، كما في كل تفاصيل الحياة اليوميَّة- لم يُقلِّص فحسب الحضور "الثقافوي" للماركسيين، بل جعل كلامهم الساذج عن الدين -بوصفه أفيونا للشعوب- أمرا مُثيرا للسُخرية. فقد كان العُلماء يَخطبون في المساجد بألسنتهم، وإلى جوار كل منهم بندقية (ص 46).
هذا الحضور الملحمي للعلماء -في كل ذرات الأثير، كما في كل تفاصيل الحياة اليوميَّة- لم يُقلِّص فحسب الحضور "الثقافوي" للماركسيين، بل جعل كلامهم الساذج عن الدين -بوصفه أفيونا للشعوب- أمرا مُثيرا للسُخرية
فإذا ما بلغنا المرحلة الثالثة، أي رفض العملية السياسية أو الإضراب عن الحياة السياسية(7)؛ وجدنا أنها كانت من أفعل الآليَّات وأنجعها في تجريد نظام الشاه من كل أسلحته، إذ كان احتواء الحركة أو السيطرة عليها؛ يستلزِم معرفة اتجاهها، والمدى السياسي الذي تتغيَّا بلوغه (ص 51). لكنَّ الإمام الخميني، برفضه للعمليَّة السياسيَّة برمتها؛ قد "أفشل كل الخطط"، وهو مُتربِّع على سجادة الصلاة في ملاذه المؤقَّت في باريس.
يَصِف فوكو (ص 61) الحركة في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر 1978م بأنها: "إضرابٌ موجَّه للواقع السياسي، وهو ما يتجلَّى في اتجاهين اثنين: رفض إطالة عُمر النظام بأي حال، ورفض استمرار أجهزته وإدارته واقتصاده في العمل بصورة طبيعية"، ورفض "إفساح المجال لمعركة سياسية يكون مدارها على الدستور المستقبلي، والخيارات الاجتماعية، والسياسة الخارجيَّة، والبديل المرتَقَب. وليس ذلك لأن الإيرانيين لا يُناقشون هذه المسائل، بل رغبة منهم في التأكد من أنها لن تخضع لمنطق السياسة من أي طرف كان. لقد أشهر الشعب الإيراني كل أسلحته المعنوية، والتفَّ حول نفسه كدرعٍ واق؛ بحيث غَدَت إرادته السياسية هي الإفلات من قبضة السياسة".
يؤكد فوكو أن "ثمة قانونا تاريخيا يكمُن ها هُنا: إذ كلما كانت إرادة شعب ما بسيطة؛ صارت مهمة السياسيين أشد تعقيدا. ولا ريب أن سبب ذلك هو أن السياسة ليست كما تدَّعي، أي التعبير عن الإرادة الجماعيَّة؛ فحقيقة الأمر أن السياسة لا تتنفَّس تنفُّسا طبيعيّا مُريحا، إلا حيثُ تكون هذه الإرادة الجماعيَّة مُشتَّتة ومُترددة ومشوَّشة وغامضة".
هذا الاحتشاد الفذ للإسلام في المجال العام، يقوده العلماء العاملون ويوجِّهونَ حركته، جنبا إلى جنب مع مُقاطعة "العمليَّة السياسيَّة" بالكامِل؛ أفضى إلى المرحلة الرابعة، وهي: تبلور إرادة جماعيَّة حقيقيَّة(8)، شديدة الجلاء والبساطة. لقد كان تجسُّد هذه الإرادة، بحسب توصيف فوكو (ص89-91)؛ أهم معالم هذا الحدث الثوري بإطلاق: انتفاضة شعب على بكرة أبيه. وهو، من ثم؛ يُشَبِّهُ ما حدث في إيران بالتراجيديات الإغريقية: "إذ يترافق الاحتفال الجماعي وإعادة تحديث مبادئ الحق جنبا إلى جنب. وفي شوارع طهران حدث الشيء نفسه؛ إذ ثمة فعل سياسي وقانوني أنجز جماعيّا، داخل إطار الطقوس الدينيَّة؛ وقد كان هذا الفعل هو الإطاحة بالشاه". إن "قلَّة من الشعوب قد أتيحت لها مثل هذه الفرصة في التاريخ. إن الإرادة الجماعيَّة هي الأسطورة السياسيَّة التي يستخدمها القانونيون والفلاسفة في تحليل المؤسسات أو تبريرها. إنها أداة نظريَّة؛ إذ أن أحدا لم يشهد الإرادة الجماعيَّة يوما، وقد اعتقدتُ شخصيّا أنها كالإله، أو الروح؛ تستحيل رؤيتها.. لكننا رأينا بأم أعيننا الإرادة الجماعيَّة للشعب في طهران، بل وفي شتَّى أنحاء إيران".
وقد كانت هذه الإرادة الجماعيَّة من القوَّة والانسجام، بحيث وصفتها الصحفيَّة الفرنسيَّة كلير بريار، في حوارها مع ميشيل فوكو (ص 97 من نفس الكتاب)؛ بأنها "قد اتَّخذَت إيقاعا يُمكن مُقارنته بإنسان يتنفَّس، ويُنهك، ثم يستعيد أنفاسه، قبل أن ينطلِق كرَّة أخرى، لكن كأنه يتنفَّس في جماعة؛ إذ كان الجميع يسيرون كأنهم رجل واحد". ثم تُضيف (ص 98)؛ "وحين يواجه الفرد الأجنبي هذا التوحُّد، وهذه الإرادة المشتركة؛ فإنه يُصاب بصدمة مهيبة. وهي صدمة أخلاقيَّة وماديَّة، فكأن هذا التوحُّد يُطالبه بالانسجام معه، وويلٌ له إن لم يفعل".
وقد كان الإمام الخميني هو نقطة ارتكاز هذه الإرادة الجماعيَّة الكاسِحة، كما يؤكد فوكو. لكنَّ الحركة، التي صار الإمام نقطة ارتكازها (ص 82-83)؛ لم تكن "انتفاضة عفوية تفتقرُ إلى التنظيم السياسي، بل هي حركة هدفها التخلُّص من الهيمنة الخارجية ومن السياسة الداخلية في آن واحد". إنها "حركة لا تسمح للخيارات السياسية بأن تُشتِّتها"، حركة "تتخلَّلها نفثات مذهب ديني لا يتحدَّث عن اﻵخرة، بقدر ما يروم تغيير وجه هذا العالم" الدنيوي!
كان فوكو قد حمل إلى إيران سؤالا واحدا: "ما الذي تريدونه؟"، وهو السؤال الذي حرص على عدم طرحه على السياسيين، بل فضَّل طرحه على المتدينين والطلاب، والمثقفين المهتمين بمشكلات الإسلام. يقول (ص 52-57)؛ سألت: "ماذا تريدون؟ فلم أسمع بالمرَّة لفظ الثورة، ردّا على هذا السؤال.. لكني أُجِبتُ لأربع مرات، من أصل خمسة؛ بعبارة: الحكومة الإسلامية. لم تكن تلك مفاجأة؛ إذ إن آية الله الخميني كان قد سبق بهذه الإجابة البليغة للصحفيين، ولم يَزِد على ذلك".
وهو يُحاوِل من ثم قراءة حمولة الاصطلاح في ضوء ما خبره من احتشاد لإرادة جماعيَّة نماذجيَّة، وغير مسبوقة؛ فيقول؛ "إن الحكومة الإسلامية تُجسد شيئا موغلا في القِدَم، لكنه في الوقت نفسه يكمُن في المستقبل، إذ هي العودة إلى عهد الإسلام المبكر زمن النبي، وفي الوقت نفسه حركة باتجاه نقطة مضيئة وبعيدة. إنها حركة تميل إلى إيكال دور دائم للبنى التقليدية -للمجتمع الإسلامي- في الحياة السياسيَّة". ثم يُضيف: "وأنا لا أستسيغ وصف الحكومة الإسلامية بأنها فكرة، أو حتى مثل أعلى؛ لكنها أبهرتني بوصفها إرادة سياسيَّة. فقد خَلبَت لُبي في سعيها لتسييس أبنية، يمتزج فيها الاجتماعي والديني؛ استجابة لإشكالات راهنة، كما فتنتني محاولتها إضفاء بُعد روحي على السياسة".
لقد أدرك فيلسوف التفكيك أن تبلور الإرادة الجماعيَّة على هذه الصورة الاستثنائيَّة، لم يكن مُجرَّد ثمرة من ثمار مسار ثوري "تقليدي" -على الطريقة الغربيَّة- ومن ثم يُمكن تجريده نظريّا. وإنما كانت هذه الإرادة تجلِّيا لطاقة الإمام الروحيَّة الهائلة، بوصفها سببا ونتيجة لصرامة التزامه بتعاليم الإسلام. لقد كانت هذه الإرادة تعبيرا عن "روحانيَّة سياسيَّة" نبويَّة لا تَنشَغِلُ بوضع أهداف استراتيجيَّة طويلة المدى، بقدر ما ترتكِزُ إلى أفعال عباديَّة يوميَّة، واضحة مُطَّرِدة ومنتظمة؛ تحفظ على الفرد قوَّة علاقته بالله. وهذا هو سر الإجماع الملتحم الذي نَضَحَت به. بل وهذا هو ما جعل الإمام -بطاقته الروحيَّة النفاذة- محور ارتكاز للحركة.
لقد كان الدين في هذه التجربة المذهِلة مُرادفا للحياة، أو كان حياة نابِضة، كما كان خُلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو القرآن
هذه الروحانيَّة السياسيَّة(9)، بوصفها المرحلة الخامسة في المتتالية العمليَّة للحركة؛ قد جعلت من الثورة تجربة نورانيَّة (ص94)؛ "فكأنها نورٌ أشرق في باطن كل إيراني فانغمسوا فيه جميعا"، لكنَّها لحظة نماذجيَّة ستخبو وتنحسر و"تُدشَّن مسارات تنتمي إلى مستوى آخر من الفعل، ولواقع آخر على نحو ما".
وقد كانت هذه "الروحانيَّة السياسيَّة" هي أهم ما اكتشفه فوكو في هذا الحدث الثوري البراني، الذي اعتبره (ص 88) في الوقت نفسه "تجربة جوَّانيَّة، وضرب من الطقوس الدينيَّة التي تتكرر بلا هوادة". وهذا ما جعل للدين هذا التأثير المذهل على الجمهور، وأكسبه موقع الصدارة في مواجهة السُّلطة، إذ لم يؤد الدين دورا أيديولوجيّا (ص 99) "تتخفَّى وراءه التناقُضات، أو يضمن نوعا من الاتحاد المقدَّس بين مجموعة من المصالح المتباينة؛ بل جسَّد الدين المفردات، والطابع الطقوسي الاحتفالي، ودراما لا تخضع للزمن، بحيث يُمكن أن تتنزَّل فيها الدراما التاريخية لهذا الشعب". لقد كان الدين في هذه التجربة المذهِلة مُرادفا للحياة، أو كان حياة نابِضة، كما كان خُلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو القرآن.
* * *
وفي مقاله المعنوَن: "مستودع بارود اسمه الإسلام"، والمؤرَّخ 13 شباط/ فبراير 1979م (ص 101-104)؛ يؤكد فوكو أن الأهميَّة التاريخيَّة لهذه الحركة، التي حقَّقت نتيجة لا نظير لها خلال القرن العشرين؛ ليست في مدى تطابُقها مع النموذج الثوري الغربي -المعترف به نظريّا- بل "بقُدرتها على خلخلة المعطيات السياسيَّة في الشرق الأوسط، ومن ثم تغيير التوازُن الاستراتيجي العالمي".
ومن المرجَّح أن فرادتها، ومصدر قوتها؛ هو "صفتها كحركة إسلاميَّة"، وهي الصفة التي "ستمكنها من إشعال فتيل المنطقة بأسرها، والإطاحة بالأنظمة غير المستقِرَّة، وإثارة قلق الأنظمة الأكثر صلابة"، إذ بهذه الحركة "من المرجَّح أن يُشكِّل الإسلام -وهو ليس مجرَّد دين، بل نمط حياة وانتماء لتاريخ وحضارة- مستودع بارود بحجم مئات الملايين من الرجال"، بعد أن "بات مُمكنا لأي دولة إسلاميَّة أن تقع فيها ثورة من الداخل، انطلاقا من تقاليدها العلمانيَّة". أي إن روح الإسلام وتقاليده الجوانيَّة نفسها هي مكمن القوة، ومستودع البارود القابِل للانفجار، إن تهيأت الظروف؛ مهما أحاطت بها التقاليد العلمانيَّة البرانيَّة.
ــــــــــ
الهوامش:
(1) تجدها كاملة في: المقالات الإيرانية، ميشيل فوكو، نقله إلى العربية عومرية سلطاني، تنوير للنشر والإعلام (القاهرة، 2020م). وأرقام الصفحات التي سنُشير إليها في مقالنا هذا، هي أرقام صفحات الكتاب في هذه الطبعة، وكل ما بين ظفرين اقتباسٌ نصي من الكتاب نفسه.
(2) جرَّد أستاذنا كليم صديقي -منتصف التسعينيات- نظريَّة ثوريَّة من مسار الثورة الإسلاميَّة في إيران. وبقدر ما هو نموذج نظري مفيد، فهو عسير التطبيق بغير إدراك المتتالية العمليَّة للثورة (أو دليلها العملي)، التي كشفها لنا فوكو في مقالاته المشار إليها. وللمزيد حول نموذج كليم صديقي؛ راجع تعريبنا لكتابه: نظرية الثورة الإسلاميَّة، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي (بيروت، 2018م).
(3) أشرنا في الهامش السابق إلى النموذج النظري لكليم صديقي. أما الخلفيَّة التاريخيَّة؛ فإن أهم المصادر التحليلية البديعة -على اختصارها الشديد- التي أفاد منها الرجل في بناء نموذجه النظري -آنف الذكر- هو كتاب: حامد الگار، جذور الثورة الإسلاميَّة في إيران، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي (بيروت، 2021م)، الذي كان في أصله أربع محاضرات ألقيت في المعهد الإسلامي بلندن (آب/ أغسطس 1979م)، بدعوة من الدكتور صديقي رحمه الله.
(4) لاحظ أن هذا التبلور كان هو جوهر ظهور ما سُمي بـ"الصحوة الإسلاميَّة"، التي بدأت معالمها تتضح أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات. وكان من أهم العوامل المركزيَّة في تلك الصحوة (بوصفها فعل اللياذ بالإسلام) لا الفشل الذريع للتحديث والتغريب فحسب -كما في إيران وتركيا- وإنما أدّت هزيمة الأنظمة العربيَّة في عام 1967م، واندحار أيديولوجياتها المستوردة؛ دورا لا يُمكن التغاضي عنه في إعادة قطاعات كبيرة من الجماهير إلى الله، أي في تبلور الإسلام بوصفه "ملاذا آمنا"، من شيطانيَّة التحديث وإجراءاته؛ كما يصفه فوكو.
(5) رغم اختلاف السياقات، وقِدَم تقليد المرجعيَّة الشيعي -نسبيّا- فإن اجتياح قامات مثل الشيخ المحلاوي والشيخ كشك والشيخ حافظ سلامة، للمجال العام المصري؛ كان يُبشر بتبلور قيادة قريبة من هذا النوع، بل وبتغير شكل "الصحوة الإسلاميَّة" السنيَّة كليّا. وكان الشيخ عبد الحليم محمود -رحمه الله- سيؤدي دورا مركزيّا في ذلك، إن أمهله الأجل بعض الشيء (توفي 1978م). صحيح أن نمط القيادة العلمائيَّة السنيَّة في مصر كان سيُفيد إفادة عظيمة من النموذج الشيعي- الإيراني، لكنه كان سيحتفِظ بخصوصيته بسبب طبيعة العلماء أنفسهم، وطبيعة مكانتهم في المذهبين.
(6) وقد كان هذا تقريبا هو حال أشرطة طبقة العلماء المصريين الثلاثة -المذكورين آنفا- مع تأكيد الفارِق في كثافة الحضور، ومقدرته الإلزاميَّة.
(7) وهو طبعا ما كان يُخالِف تطلُّعات الإخوان -وسائر "الإسلاميين" السنَّة المسيَّسين- على طول الخط! رغم أن رفض العملية السياسية، ورفض الانجرار إلى ألاعيبها؛ كان أهم مكامن القوة بإطلاق في الثورة الإيرانيَّة. بل هو أهم مكامن قوة أي مفاوض؛ ألا يكون جزءا من النظام الذي يحاربه، ولا مُستفيدا منه بحال؛ فلا يفاوض على بقاء أي من شظاياه.
(8) وهي حالة نظريَّة، أو نماذجيَّة؛ نادرة التحقُّق، مثلها مثل الإجماع الفقهي. بيد أن الراجح أن نجاح المراحل الأولى يُفضي إليها بحول الله تعالى.
(9) هي المعامِل "س"، الذي كان يفتقِد إليه "الربيع العربي" المغبون.