قضايا وآراء

هل تُعادي إيران العرب؟

عبد الرحمن أبو ذكري
"وحَّد وجود الخميني وطبيعة شخصيَّته الشعب الإيراني إلى حدٍّ كبير، ولعبت الحرب دورها في ترسيخ قيادته الدينيَّة والسياسيَّة"- جيتي
"وحَّد وجود الخميني وطبيعة شخصيَّته الشعب الإيراني إلى حدٍّ كبير، ولعبت الحرب دورها في ترسيخ قيادته الدينيَّة والسياسيَّة"- جيتي
وصف الصحافي السوري رياض الريس -في بعض كتبه- طبيعة العلاقات بين أمراء الخليج وشاه إيران، فإذا هي علاقات تبعية كاملة كان عصبها عُمق علاقة الشاه بأمريكا وإسرائيل، ومقدرته على إغراق هؤلاء الأمراء في حياة الترف المفسد واللذائذ المحرَّمة، خصوصا قبل أن تجري أموال النفط من بين أيديهم أنهارا، بل وبيَّن الريس كذلك كيفيَّة دخول الجزر الخليجيَّة "المتنازَع عليها" إلى حيازة إيران.

وعليه، كان موقف هؤلاء الحكام جميعا من الثورة، التي سعت إلى استعادة سلطة الإسلام في إيران، وإزاحة هذا الطاغوت؛ موقفا متوقعا، وإن كان مُخزيا. إذ تآمروا عليها، وحاصروها بكل طريق، وحاربوها في كل محفل، حتى موَّلوا عدوان صدام عليها، وشجَّعوه طوال ثماني سنوات -كما وثَّقت المدونات التاريخيَّة الغربية والعربية- وذلك رغم تحذيرات بعض العقلاء من أهل الخليج بأن هذا الخَبَل الغادِر سيرتد عليهم لاحقا، وهو ما حدث فعلا بمجرَّد أن أنهى البعث مُغامرته المشؤومة في إيران.

ومن جهة أخرى، وإن كانت متصلة؛ رصد الدبلوماسي والأكاديمي المصري وليد عبد الناصر مواقف الحركات الإسلامية المصريَّة من الثورة الإيرانية، والتي كانت تدور في مُجملها حول التأييد المطلق، ثم بدأت بالتراجُع إلى تأييد مشروط، أعقبه صمتٌ وتجاهُلٌ، وصولا إلى الشجب والتنديد؛ خصوصا الحركات المسيَّسة التي كانت تطمع في السماح لها بالتواجُد في البرلمان. ففي حين كان تراجع التأييد الشيوعي للثورة سببه التكشُّف التدريجي لطبيعتها الإسلاميَّة، وكان تراجُع تأييد منظمة التحرير الفلسطينية سببه رغبتها في استمرار الحاضن القومي العربي وتمويله؛
إذا كانت أهم عوامل الاحتفاظ بالروح القوميَّة، وتغذية شعوبيتها؛ هي الشعور الاجتماعي باستمرار تاريخي -حقيقي أو مُتخيَّل- يمتد من زمان الأمجاد القوميَّة "البائد" إلى الحاضر؛ فإن القوميَّة الإيرانية التي لم تكن إسلاميَّة الثورة قد وأدتها بعد قد اهتَبلَت الفرصة لتقفز مرة أخرى إلى واجهة الحياة السياسية والثقافية، في ردَّة أو انتكاسة "أيديولوجية" كان العداء العربي المخزي أحد أهم أسبابها
فقد كان التغيُّر في مواقف تيارات الإسلام السياسي المختلفة مبنيّا على طبيعة علاقات هذه التيارات والتنظيمات بدويلات الخليج، واعتماد شبكات تمويلها على ما يُضَخُّ فيها من حكومات تلك البُلدان منذ ستينيات القرن العشرين، إضافة إلى مُراعاتها لتحالفات نظام السادات مع تلك "الأنظمة الرجعيَّة".

وعليه، كان تراجع التأييد الأولي العفوي حفظا لاستمرار التمويل، وضمانا لاستمرار اللعبة السياسيَّة الهزليَّة، والتي صار الإسلاميون المصريون مكونا أساسيّا من مكوناتها منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين. بل شرع هؤلاء الإسلاميون أنفسهم ببناء مشروع لـ"أسلمة المعرفة" -بتمويل سعودي- يتغيَّا الشوشرة على الثورة/ الحركة بالسفسطات النظريَّة، وذلك كما شارك عدد من الممثلين المصريين المشهورين في أفلام البروباغاندا السينمائية التي أنتجها العراق البعثي كجزء من معركته العربيَّة ضد "المجوس"!

وقد كان هذا "التوحُّد القومي" للأنظمة العربية خلف أمريكا وإسرائيل في مواجهة إيران -سياسيّا وعسكريّا- من العوامل الرئيسة التي أسهمت في تشكُّل وعي جيل الثورة من السياسيين الإيرانيين -وهو الجيل الذي لا زال مُهيمنا على الحكم إلى اليوم- علاوة على بلورته لسياساتها الخارجيَّة بل وإعادة تشكيل أيديولوجيتها ببطء فيما يُشبه الانتكاسة. إذ رغم استمرار شعارات إيران الأممية الوحدويَّة الإيجابية لفترة أطول، فإن العداء "العربي" أدى إلى انتكاس أيديولوجي وسياسي سريع.

لقد كانت النعرة القوميَّة الفارسيَّة المتجذِّرَة بعمق أخطر أعداء الثورة الإسلاميَّة الأممية على الإطلاق؛ أخطر من أمريكا ومن إسرائيل، لهذا؛ صار الرهان الأكبر على تحفيزها واستثارتها، وإبقائها نشطة عبر استفزاز قومي عربي مُستمر؛ يضمن سُرعة انتكاس أية نزوع إسلامي أممي سريعا، ومن ثم؛ تستمر عُزلة إيران ثقافيّا وسياسيّا عُزلة لا تُقارَن بالعُزلة التي تُسببها اللغة في وسطها العربي-الإسلامي. وهي مهمَّة تيسَّرَت نسبيّا بسبب الشحن القومي الكثيف الذي اعتمده نظام بهلوي، وتغذيته لحالة الاستمرار التاريخي التي يستشعرها الإيراني المسلم بسبب حضور الزرداشت في الحياة اليومية في إيران.

فبما أن الزرداشتية كانت الديانة الساسانيَّة الرسمية إبَّان الفتح الإسلامي؛ فقد احتفظ بعض أهلها بدينهم ولم يُسلموا، وذلك مثلا كما أبقى المسيحيون في مصر والشام على دينهم. بيد أنه في حين كانت المسيحيَّة المصرية تُمثل قطيعة حقيقيَّة تحول دون شعور الاستمرار التاريخي الذي يُعزز "القومية الفرعونية"، بل كانت هي القطيعة التي أدَّت فعلا إلى اندثار الثقافة الفرعونية، وانعدام شعور المصريين المعاصرين بأية استمرار تاريخي مع هذا التاريخ السحيق؛ فإن الإسلام قد أفسح المجال لمن لم يقبل التديُّن به من الزرداشت فاستمرَّ وجود ديانتهم وبعض مُعتنقيها، واستمرَّت تغذية الشعور بالاستمرار التاريخي من العهد الساساني البائد وما قبله. ولعلَّ هذا هو ما يفسِّرُ نجاح البعث القومي التدريجي الذي كانت منظومة "شاهنامه" لأبي القاسم الفردوسي -التي نُظمت في العهد الغزنوي- أحد أبرز مؤشرات نُضجه.

وإذا كانت أهم عوامل الاحتفاظ بالروح القوميَّة، وتغذية شعوبيتها؛ هي الشعور الاجتماعي باستمرار تاريخي -حقيقي أو مُتخيَّل- يمتد من زمان الأمجاد القوميَّة "البائد" إلى الحاضر؛ فإن القوميَّة الإيرانية التي لم تكن إسلاميَّة الثورة قد وأدتها بعد قد اهتَبلَت الفرصة لتقفز مرة أخرى إلى واجهة الحياة السياسية والثقافية، في ردَّة أو انتكاسة "أيديولوجية" كان العداء العربي المخزي أحد أهم أسبابها. ذلك أن أهم واجبات التيار الرئيس والقطاع الغالب في أيَّة أمَّة/ ملَّة؛ هو احتواء الأقليات والفِرق والطوائف الأصغر، لاحتواء غلوّها، والأهم لتقليص مقدرتها على تغذية هذا الغلو بالعُزلة والإقصاء. وهذا هو ما راهن عليه الأمريكان وحلفاؤهم من الأعراب: تحفيز القوميَّة الفارسية التي ستُفضي إلى انكفاء إيران على نفسها في مُحيط عربي معاد، ومن ثم؛ انتكاس كل نزوعاتها الأممية، وإجهاض ثورتها بأيدي أبنائها.

فقد كان الاحتواء العربي السُّني كفيلا بتقليم أظافر الغلو، وتبديد أصوات الغلاة وإحباط مساعيهم. وقد كان ذلك ليؤتي ثمارا عظيمة في كل المجالات، حتى إن استمرَّ الحصار الغربي لإيران؛ إذ كانت ستصير مثالا عمليّا يُحتذى -عربيّا وإسلاميّا- على الأقل في تحقيق الاكتفاء الذاتي في كل شيء تقريبا، برغم قسوة الحصار العالمي. لكنه مَثَلٌ أريد له الإجهاض سياسيّا وعسكريّا وثقافيّا، ومن ثم؛ جرى التنفير حتى من نجاحاته الاقتصاديَّة المهمة. لقد كان المثال الذي تصبو إليه الثورة مرفوضا على كل المستويات، إذ كانت المثُل التي تبشر بها تهديدا للنظام العالمي على كل المستويات.

وعلى عكس الشائع، فقد وحَّد وجود الإمام الخميني وطبيعة شخصيَّته الشعب الإيراني إلى حدٍّ كبير، ولعبت الحرب دورها في ترسيخ قيادته الدينيَّة والسياسيَّة، بل وكانت خصوصيَّة رمزيَّته القياديَّة أحد أدوات استدعاء الهويَّة القوميَّة، خصوصا حين بدأ العدوان البعثي في 1980م متبوعا بحصارٍ كامل. هذا البروز القيادي المطلوب صار أزمة في حد ذاته؛ إذ جعل الحصار من الالتفاف حول القيادة التفافا قوميّا، أو في أفضل الأحوال التفافا مذهبيّا؛ عاجزا عن الخروج إلى النطاق الأممي العام. فصارت إسلاميَّة الثورة المحاصَرَة قُطريّا أداة لتكثيف إيرانيتها بتكثيف مذهبيَّتها، كما كانت أداة لتحييد المعارضة السياسيَّة جزئيّا جراء هذا الاستدعاء الكثيف لإيرانية المواجهة مع الخصوم القوميين.

هذه الجروح التي لم يلتئم أغلبها عند الجيل الحاكم، زادت مُعدلات تسييس الإنسان الإيراني إلى درجات غير مسبوقة، جعلت من الشأن السياسي شأنا شخصيّا يوميّا، لكنها عمَّقَت مُطلقيَّة الدولة القُطريَّة وأجهزتها التي كانت مدموغة بالطابع القومي الذي خلفه عليها النظام البهلوي، والأسوأ من ذلك أنها جعلت تزايُد معدلات تحديثها مطلبا عامّا لا بسبب المزايدة على "المنجزات القوميَّة" لنظام الشاه فحسب، وإنما بسبب توسعة النطاق العام على حساب الخاص، وإسقاط الحواجز بين الشخصي والسياسي؛ ليذوب الفرد تماما في قبضة السلطة المتغولة إيذانا بتسارُع مُعدلات العلمنة البنيويَّة.

تلاقى العلمانيون والإسلاميون في إيران على تعزيز العناصر القوميَّة -العلمانية بطبيعتها- في هذه المواجهة. وفي حين اكتسبت العناصر القومية شعريَّة رومانتيكية ترتبطُ بجاهلية إيران عبر جسر الفردوسي وجمهرة من الشعراء القوميين "المسلمين"، فإن الشعريَّة الرومانتيكية التي زادت عمق العناصر القومية في روع الإسلاميين قد انبثقت من سرديَّة "المظلومية الشيعيَّة" التقليديَّة وطبيعتها الأسطورية

 ومن ثم؛ تلاقى العلمانيون والإسلاميون في إيران على تعزيز العناصر القوميَّة -العلمانية بطبيعتها- في هذه المواجهة. وفي حين اكتسبت العناصر القومية شعريَّة رومانتيكية ترتبطُ بجاهلية إيران عبر جسر الفردوسي وجمهرة من الشعراء القوميين "المسلمين"، فإن الشعريَّة الرومانتيكية التي زادت عمق العناصر القومية في روع الإسلاميين قد انبثقت من سرديَّة "المظلومية الشيعيَّة" التقليديَّة وطبيعتها الأسطورية التي ربطت زواج إحدى حفيدات كسرى بالإمام الحسين بن علي عليهما السلام.

وقد اكتمَل نُضج المآلات الكارثيَّة للعداء العربي بالانفجار الأخلاقي الذي تشهده المجتمعات في مثل تلك الظروف. فقبل انتهاء الحرب بقليل، فاض المجتمع الإيراني بمن خلعن ملابس الحداد على موتاهن، ولبسن المزركش، وأسرفن في مساحيق التجميل، وتفشَّت الحفلات الخاصَّة بموسيقاها الصاخبة، وانتشرت مُعاقرة الكحوليَّات سرّا في طبقات كثيرة. وقد أجبر النظام لا على إرخاء قبضته الأخلاقيَّة فحسب، حتى كاد حرس الثورة أن يختفي من الشوارع تقريبا؛ بل كان هذا الانفجار الأخلاقي عامل ضغط رهيب على الإمام الخميني للقبول بإيقاف الحرب بأي ثمن، حتى رُوي أنه قال إن قبوله بتوقفها في ظل جور الأصدقاء والأعداء كان كتجرُّع السم. وهو سم قتل الثورة عمليّا، ومهَّد لإعادة إيران ثانية إلى مدار الدول القوميَّة القُطريَّة، وقوَّض كافة الاتجاهات الأممية التي ظهرت في ذلك البلد تحدوها آمال كبيرة، مُعيدا إيران إلى عُزلة أكبر وأشد وحشية، تنهشها العلمنة البنيوية التي خلف الغرب بذرتها، ووقف يترقَّب استواء الجيل الذي تمَّت علمنته في المهد ليأكل النظام من داخله.

ومن بين الإسلاميين، لم يحتفظ بعلاقة صحيَّة مع إيران سوى التنظيمات المسلَّحة بأطيافها، خصوصا "جيش تحرير البوسنة"، والفصائل الإسلامية الفلسطينية؛ إذ ظلَّت إيران هي المصدر الوحيد لتسليح هؤلاء المجاهدين وتدريبهم، كأنها بذلك تحاول الاحتفاظ بجذوة ضئيلة من مشعل الثورة الذاوي، أو، وهو الأمَرُّ؛ أنها تؤدي فرض العين عن الأنظمة العربية الخائنة التي لا تُرسل لمنكوبي المسلمين إلا أقل القليل من المعونات العينيَّة فحسب، والتي تحفظ الحياة -بالكاد- في أوقات الكوارِث، وتضمن استمرار السيرك السياسي في أنحاء العالم.

x.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry
التعليقات (0)