قضايا وآراء

هل نحتاج إلى سلاح المقاطعة؟

عبد الرحمن أبو ذكري
"شجاعة الوعي وصدقه قد تُحول المقاطعة (المؤقتة بتعريفها) إلى خلاصٍ (دائم بطبيعته) من النمط الضار على كل المستويات"- إكس
"شجاعة الوعي وصدقه قد تُحول المقاطعة (المؤقتة بتعريفها) إلى خلاصٍ (دائم بطبيعته) من النمط الضار على كل المستويات"- إكس
"العِفَّةُ ليست مسألة حُسن خُلُقٍ فحسب، وإنما هي كذلك مَطلَبٌ من مطالِبِ حُسن الذائقة. إن تجليات الفجور عادة ما تكون كذلك تعبيرا عن ذائقة مُتدنية" (علي عزتبيغوڤيتش؛ هروب إلى الحرية)

على امتداد ثماني مقالات، وابتداء من المقال الذي عَنونَّاهُ بـ"كيف فسدت الذائقة المصريَّة"؛ تناولنا أمورا شتَّى تخصُّ الطعام من مُختلف جوانبه. ومع بلوغ رحلتنا القصيرة هذه إلى نهايتها، على الأقل في الوقت الحالي؛ فإنما يَجدُر بنا تناول مسألة "المقاطعة" الملحة في اللحظة الراهنة، خصوصا في ظلِّ القيم التي جرَّدناها في مقالاتنا السابقة، وذلك بما أن هجر السلع الغريبة والأنماط الدخيلة والأطراف المتواطئة؛ تُشكل عنصرا تكوينيّا -كامنا على الأغلب- لعله أهم عناصر تأسيس البنية المعرفيَّة والقيميَّة التي جاهدنا لكشف جمهرة من قواعدها في هذه السلسلة.

والمقاطعة لُغة هي ترك المواصلة القائمة أصلا، والامتناع عن المعاملة الجارية ابتداء، والإمساك عن المشاركة في شيء بعد اعتيادها؛ ومنها: المقاطعة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهذه المقاطعة، بوصفها امتناعا إراديّا اختياريّا يهدفُ إلى تحقيق غاية معينة؛ تعني أن الإنسان المقاطِع مُستوعَبٌ ابتداء في مُعاملة مَنْ قاطَعَه، ومأسورٌ في هذا النمط من المعاملة، وإنما لجأ رغما عنه إلى هذا الإجراء الاحتجاجي "السلبي"، بوصفه سلاحا مؤقتا للضغط يتَّخذهُ أداة لبلوغ غرضٍ مُعيَّن. أي أنه -في الغالب- لا يرى فيما قاطعه بأسا اللهم إلا حادثا طارئا، تتعيَّن إزالة أسبابه وتدارُك مآلاته؛ حتى تنتهي المقاطعة ويعود الوئام ثانية!

شجاعة الوعي وصدقه قد تُحول المقاطعة (المؤقتة بتعريفها) إلى خلاصٍ (دائم بطبيعته) من النمط الضار على كل المستويات، وذلك إذ يُغير هذا الوعي الصورة الذهنيَّة عن السلع، فإذا ازداد عمقا نفر حتى من الألوان والأشكال الموجَّهة دعائيّا التي يحرص عليها النظام الاستهلاكي الضار، والمقصود منها التلاعُب بغرائزه ومشاعره؛ فكان ذلك أول طريقه لتغيير نمط حياته وطريقة استهلاكه، واستعادة نفسه وإنسانيته

هذا اللون من المقاطعة يعني أيضا أن الكائن المقاطِع قد يكون مُستوعَبا داخل نظام خبيث مُؤذ من الاستهلاك؛ نظام خادع، يوهمه بأمورٍ ويُداعب أوهامه ويستغلها ضده، وأن هذا الكائن رغم غفلته الكاملة عن الأضرار الصحيَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة المباشرة، فإنه حين يتنبَّه -بين الحين والآخر- إلى المآلات اللاأخلاقيَّة غير المباشرة لهذا النظام؛ فإنه يَفزَع ويُقاطعه، بغير إرادة حقيقيَّة للتخلي الكامل عنه، بل وربما بغير شجاعة حقيقيَّة لبلورة وعي بالأضرار الموضوعيَّة للتركيب الخبيث لهذا النظام، وآثاره الكارثيَّة على شتى جوانب حياته. بيد أن هذا الانتباه الأخلاقي النبيل، وإن كان مُتقطعا وغير مطَّرد؛ يخلف أملا بإمكان تنبُّه "المستهلك" يوما إلى سائر أضرار النمط على حياته، ومجاهدة نفسه للخروج من دائرته.

وهذا يعني أن شجاعة الوعي وصدقه قد تُحول المقاطعة (المؤقتة بتعريفها) إلى خلاصٍ (دائم بطبيعته) من النمط الضار على كل المستويات، وذلك إذ يُغير هذا الوعي الصورة الذهنيَّة عن السلع، فإذا ازداد عمقا نفر حتى من الألوان والأشكال الموجَّهة دعائيّا التي يحرص عليها النظام الاستهلاكي الضار، والمقصود منها التلاعُب بغرائزه ومشاعره؛ فكان ذلك أول طريقه لتغيير نمط حياته وطريقة استهلاكه، واستعادة نفسه وإنسانيته، عوضا عن الرغبة الكسولة في إيجاد بدائل "صديقة" للعلامات التجارية "المعادية" داخل النمط الخبيث نفسه! وهو تغيير عميقٌ أشبه بتغيير الرؤية الكونية، بيد أن مقوماته قد صارت متوفرة في قطاعات سكانية كبيرة من العالم لا من أمة الإسلام فحسب. لكنَّ الأشق على الإطلاق ليس هو مجرد تغيُّر هذه الرؤية الكونية، بل هو الصدق في الاطراد مع النفس بغير فصام، وتغيير السلوك والنمط؛ للتحرُّر من آصار النظام العالمي الكفري بل ومن بدائله "الإيمانية" المزعومة!

وبالعودة إلى المتتالية القيمية التي سبق لنا الإشارة إليها؛ نجد أن الالتزام بما ينفع الناس، أي بالحركة داخل الدائرة الأضيق من الحلال البيِّن، الذي لا يؤذي النفس ولا المجتمع؛ لن يجعلنا نحتاج إلى اللجوء لسلاح المقاطعة، وذلك بما سوف نُحقق ابتداء من استقلال يقطع أيدي الاستغلال الاقتصادي والتوظيف السياسي، ويجعلنا نخلف مثل هذه الأنماط الخبيثة وراءنا ظهريّا؛
إذا كانت العفَّة ليست مسألة حُسن خلق فحسب، وإنما مطلب من مطلب حُسن الذائقة؛ فإن تخيُّر المأكول والحفاظ على طبيعته ليست حفظا للمجتمع وللمال فحسب، وإنما تحسين في الذائقة يستنقذ البدن المبتلى من استهلاك الرديء الذي هيمن عليه في هذا الباب الحيوي
إذ لن نأكل إلا ما نزرع، ولن نزرع الثمرة إلا في موسمها وأوانها؛ إيمانا بأن الله لو شاء لأنبتها طوال العام، وأنبت زرع الصيف في الشتاء وزرع الشتاء في الصيف، بيد أنه تخيَّر سبحانه لكل فصلٍ ما ينفعه، واصطفى لكل إقليم ما يُصلحه؛ فكانت مُعاكسة ذلك تفضيلا وتقديما وإبرازا لما لا ينفع الناس -بل ما قد يضرُّهم أضرارا صحيَّة شتَّى- إذ يدور مع صَغَار شهواتهم وفساد نفوسهم، ويُعيدهم ثانية إلى دائرة الاستغلال والتبعية. فإن الإمكان لا يعني الحِلَّ بالضرورة، فالحلال ليس هو ما حلَّ في يدك كما يتوهم كثيرون؛ بل إن الوفرة قد يعني الابتلاء بما هو ممكن!

ولعلَّ مقولة الراحل علي عزتبيغوڤيتش التي استفتحنا بها المقال تُعيد تركيب النموذج العرفاني المطلوب الذي حاولنا تجريد بعض عناصره. فإذا كانت العفَّة ليست مسألة حُسن خلق فحسب، وإنما مطلب من مطلب حُسن الذائقة؛ فإن تخيُّر المأكول والحفاظ على طبيعته ليست حفظا للمجتمع وللمال فحسب، وإنما تحسين في الذائقة يستنقذ البدن المبتلى من استهلاك الرديء الذي هيمن عليه في هذا الباب الحيوي. وعليه؛ فإن أنماط الاستهلاك الضارَّة ليست كارثة أخلاقيَّة واقتصاديَّة وعسكريَّة مؤقتة فحسب، وإنما هي كارثة صحية ونفسية واجتماعيَّة وسياسية دائمة. فهلُمَّ ننتقل من المقاطعة إلى الخلاص!

x.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry
التعليقات (0)

خبر عاجل