ثمَّة
مُسلَّمة إنسانيَّة غيَّبتها الحداثة القطيعيَّة، ثم طَمَرت ذكرها بإزالتها
للفوارِق بين "
الثقافة الجماهيريَّة" المصنَّعة والثقافة الشعبيَّة
الفطريَّة، وذلك بعد إذ موَّهَت أولا الحواجز بين الحضارة والثقافة. وهذه
المسلَّمة هي الإدراك الفطري المتأصِّل -قبل الحداثة الغربية- لكُلِّ مكون غذائي،
بوصفه منحة ربانيَّة مُركَّبة لبيئة جغرافيَّة ومناخيَّة مُعينة، قبل اتحاده بهذه
البيئة ليُشكل ثقافة صحيَّة وغذائيَّة وطقسيَّة مُتفرِّدة؛ ثقافة يُعَدُّ فيها
الطعام الذي تُستعمل فيه هذه
المكونات -أو
العناصر الغذائيَّة- مركَّبا ثقافيّا وإنسانيّا فذّا بقدر كونه رافدا وثروة "طبيعيَّة"؛
إذ يُزود سكان بقعة جغرافية مُعينة باحتياجاتهم الغذائيَّة/ الصحيَّة اللازمة
لتكوينهم، والملائمة للفصل المناخي، ولمُتطلَّبات البيئة، وذلك كما يُعَدُّ رافدا
أساسيّا من روافد ثقافتهم، بعد إذ اتَّحدَ بأصولها وصار مُدخلا فطريّا من مُدخلاتها.
هذه
المسلَّمة طُمِسَت حين مَوَّهَت الحضارة الغربية الحاليَّة الحواجز بين الحضارة
والثقافة، وخَلَطَت بين طبيعة تراكُم العلوم الطبيعيَّة/ الماديَّة الذي يُمكن
تقويضه وتقويض مُنجزاته السابقة -دون آثار إنسانيَّة خطيرة-، إذا قفزت "الاكتشافات
العلموية" الحديثة قفزة نوعيَّة، تَجُبُّ الطرائق القديمة والمناهج القديمة،
وطبيعة التراكم الثقافي الأزلي والمعبِّر عن تركيبيَّة الشخصيَّة الإنسانيَّة في
تفرُّدها، الذي يُعَدُّ تقويضه تقويضا للثقافة كلها بل وللإنسان نفسه. ثم لفَّقَت
الحداثة مسخ "الثقافة" الجماهيرية الاختزالي الشيطاني -للإنتاج الكبير- في
أروقة المعامل الرأسماليَّة الاصطناعيَّة، لتستعيض به عن ثراء الثقافة الشعبيَّة
التلقائيَّة، التي لا يُمكن أن تصلُح للإنتاج "الثقافي" الضخم الذي
تتربَّح منه الحداثة ومؤسساتها مئات المليارات.
مَوَّهَت الحضارة الغربية الحاليَّة الحواجز بين الحضارة والثقافة، وخَلَطَت بين طبيعة تراكُم العلوم الطبيعيَّة/ الماديَّة الذي يُمكن تقويضه وتقويض مُنجزاته السابقة -دون آثارٍ إنسانيَّة خطيرة- إذا قفزت "الاكتشافات العلموية" الحديثة قفزة نوعيَّة تَجُبُّ الطرائق القديمة والمناهج القديمة، وطبيعة التراكم الثقافي الأزلي والمعبِّر عن تركيبيَّة الشخصيَّة الإنسانيَّة في تفرُّدها، والذي يُعَدُّ تقويضه تقويضا للثقافة كلها بل وللإنسان نفسه
وبعبارة
أخرى، فقد حطَّمت الحداثة الغربيَّة الخصوصيَّات الثقافيَّة المحليَّة التي كانت
المحاصيل الزراعيَّة والمكونات الغذائيَّة، ووصفات الطبخ مكونا محوريّا من
مكوناتها، وذلك حتى يتسنَّى للنظام الإمبريالي الاتجار في كل شيء؛ في كل زمان
ومكان. فما لم يتم نزع قداسة كل طقس، وتقويض خصوصيَّة كل مكوِّن؛ لن تتمكَّن
الشركات العابرة للقارات من "حوسلة" الحاصلات وتسليعها، وبيع كل شيء في
كل مكان، خصوصا لو كان ما تبيعه خارج سياقه ضارّا بكل سياق غذائي-إنساني سواه على
المدى الطويل؛ أي إن المحصول النافع في سياق ما يصير في غيره سامّا سُميَّة
جُزيئيَّة، إذ تغيَّرت تركيبته بالهندسة الوراثيَّة وبزراعته في بيئة اصطناعيَّة،
ثم بتناوله في غير أوقاته ولغير أغراضه الأصليَّة.
بيد
أن تقويض هذه الخصوصيَّات وقداستها لم يكُن تامّا، بما أنها لا زالت ستُستعمَلُ
للتربُّح، ومن ثم تظهر بين الحين والآخر دعوات محليَّة للحفاظ عليها، وإحياء ما
اندثر منها؛ إيمانا بأهميتها ودورها في ترقية معيشة الإنسان وحفظ بدنه وصيانة
عافيته؛ باستعمال أيسر المكونات وأقربها لبيئته.
وإن
أخطر ما في هذا النظام الإمبريالي الهمجي، أنه يُفيد -بدرجات متفاوتة- من تقويض
الخصوصيَّات، كما يُفيد من مساعي استبقائها!
ولعلَّ
أبرز الأمثلة المحوريَّة على الاختلافات الثقافيَّة الحاكمة فوق العناصر
الغذائيَّة، التي يُرَدُّ بعضها للبيئة الطبيعيَّة والمناخ المحلي والجغرافيا
الإقليمية؛ هي الفوارِق بين اﻷوروبيين والآسيويين مثلا في تركيب العناصر
الأساسيَّة لكل
مطبخ محلي وتوظيفها، وهي العناصر التي تدخُل في بناء عدد كبير من
وصفات ذلك المطبخ. هذه العناصر/ الخضروات الثلاثة التي تُستعمَلُ في جمهرة كبيرة من
الأطباق الأوروبية، وتُسمَّى بين الطُهاة بـ"الثالوث المقدَّس"، تتكوَّن
في أوروبا -غالبا- من بصل وجزر وكرفس "أفرنكي"، ويُسمى الخليط في
الفرنسيَّة: "میِرپوا mirepoix"، بينما هو في الإيطاليَّة: "سوفريتو soffritto"،
وفي حين يطبخه الفرنسيون بالزبد البقري الطبيعي، أهم أعمدة المطبخ الفرنسي على
الإطلاق، فإن الإيطاليون يستعملون أنواعا من زيت الزيتون الذي تمتاز به بيئتهم. فإذا
تأملنا الفرعين الرئيسيين في المطبخين الهندي والصيني، وجدنا أن هذا الثالوث -عندهم-
يُحِلُّ الجزر والكرفس بنتاج البيئة الأهم من الثوم والزنجبيل، وقد يُضيف إليهما
الهنود البصل أو الفلفل الحار، ويُطبخ المزيج في سمن بقري تنضح به الأطباق
الهنديَّة في الغالب، بينما يُضيف الصينيون إليهما بصلا أخضر، ويُطبخ المزيج غالبا
في زيت صويا (وأحيانا في زيت شلغم).
هذه الفوارِق ليست طبيعيَّة/ ماديَّة محضة، مرجعها لاختلاف البيئة الطبيعيَّة وتبايُن ثمارها ومُخرجاتها؛ وإنما هي كذلك فوارِق ثقافيَّة، تُعبِّرُ عن رؤية كونية مُعينة، تنبثق منها تصورات خاصَّة عن كل عنصر غذائي، ومكانته في البيئة الطبيعيَّة المسخَّرَة، ودوره الصحي في حياة الإنسان، وفي بناء طبقات النكهة المعبِّرَة عن بنية المطبخ المحلي وتكوينه المميز.
هذه
الفوارِق ليست طبيعيَّة/ ماديَّة محضة، مرجعها لاختلاف البيئة الطبيعيَّة وتبايُن
ثمارها ومُخرجاتها؛ وإنما هي كذلك فوارِق ثقافيَّة، تُعبِّرُ عن رؤية كونية مُعينة، تنبثق منها تصورات خاصَّة عن كل عنصر غذائي، ومكانته في البيئة الطبيعيَّة
المسخَّرَة، ودوره الصحي في حياة الإنسان، وفي بناء طبقات النكهة المعبِّرَة عن
بنية المطبخ المحلي وتكوينه المميز؛ أي إنها ليست فوارِق اعتباطيَّة، وإنما "علمٌ"
حقيقي وخبرة تراكمت بهما ثقافة حيَّة ممتدة تغذيها ممارسة اجتماعيَّة مُطردة.
ولعلَّ
المثال الأبرز على هذا الطيف من الفوارِق الثقافيَّة المحليَّة، التي ينضح بها طبخ
طبق واحد فحسب، هو طبخ ما يُسمَّى في دول الخليج بـ"الأرز البخاري"،
ويُسمى بالإنكليزية "پيلاف"، وبالفارسيَّة "پُلو" حيث تُنطق
الواو فاء مُثلَّثة، وذلك بالإضافة إلى أكثر من عشرين اسما -أو نُطقا مختلفا للاسم-، تُمثِّل تنويعات مختلفة لهذه الطبخة على طول طريق الحرير القديم؛ من إسطنبول
التركيَّة غربا إلى تركستان الشرقيَّة في الصين. بل يُرجح بعض المؤرخين أن طبق الـ"پايیا"
الإسباني، وتنويعات البرياني الهندي الشهير؛ إنما هما من الفروع التي تحدَّرَت من
هذه الطبخة-الثقافة الثريَّة؛ العابرة للقارات واللغات.
وعليه؛
فإذا انطلقنا من هذا الأصل، القاضي بأن المكونات الغذائيَّة تعبيرٌ عن البيئة
الطبيعيَّة المسخَّرة، وقد اكتسبت بُعدا غير طبيعي/ غير مادي بمرور الوقت، حتى صارت
تعبيرا أصيلا عن ثقافة مُعينة؛ فإن هذا المُخرَج يتغيَّر اتجاهه بترسُّخه ليصير
مُدخلا ثقافيّا، أي إنه بعد أن كان تعبيرا عن الثقافة التي تعكس -فيما تعكس- البيئة
الطبيعية؛ فإنه يصيرُ كذلك صانعا لهذه الثقافة، وهذا ما يجدُر بنا التوقُّف
لتأمُّله.
فإذا
كانت المكونات الغذائيَّة تُعيد تشكيل الواقع الثقافي الإنساني إذا صارت من
مُدخلاته، فلنتأمَّل في المدخلات الرئيسة في ثلاثة مطابخ شهيرة، ونتلمَّس إدراك
كيفيَّة صناعتها للواقع الاجتماعي والثقافي، كما تُسهم العادات الغذائيَّة والطقوس
العباديَّة في صُنعه. وسنجد -مثلا- أن المدخلات الخمسة المركزيَّة في المطبخ
الإيراني التقليدي؛ هي: الزعفران، والكرز الحامض، والفستق، وماء الورد، والرمان. ومُدخلات
المطبخ المصري التقليديَّة هي:
أكل المصري للعدس والفول والبصل (أيام كنَّا نزرع العدس)، أو أكل الفلسطيني للزيت والزعتر بخبزة مما تُنبته الأرض بإذن الله بغير تدخُّل بشري، عافية في البدن، وقوَّة للروح، واستقلال اقتصادي، وحُريَّة سياسيَّة.
الكمون، والكزبرة، والثوم، والبصل، والسمن الطبيعي،
بينما يُعَدُّ الثوم، والريحان، وزيت الزيتون، والجبن، والطماطم؛ هي مُدخلات
المطبخ الإيطالي التقليدي الراسخة. هذه المدخلات التأسيسيَّة في كل مطبخ، التي
تحكم شكل وصفاته وطرائق طبخه، تُعيد كذلك تشكيل هذه الثقافة كليّا، لا على المستوى
الغذائي فحسب، وإنما على المستوى العقلي والوجداني؛ إذ يبني الذائقة الفرديَّة
والجماعيَّة، التي يؤدي الانسلاخ الجزئي منها أو الانطباع معها بثقافات غذائيَّة
دخيلة إلى تشويه ثقافي وتغذوي وأضرار مناعيَّة -على المدى الطويل- يتعذر تدارُكها.
وسنجد
من الآثار المحقَّقة أن توفُّر الزعفران في إيران قد جعله يُستعمل لا في تعطير
الأرز وإكسابه لونا جميلا فحسب، وإنما يُستعمل كذلك كتابلٍ في إعداد اللحوم، وذلك
كما هيمنت مركَّبات الكزبرة والثوم والسمن على المطبخ المصري، واصطنعت من "التقلية"
مكونا مركزيّا من مكونات أطباقه الرئيسة. ولا عجب بعدها في تسلُّط مُركَّبات شتى
من الريحان والثوم وزيت الزيتون على أكثر أطباق الإيطاليين، حتى كأنها دمغت
بدمغتها!
ولعلَّ
السؤال الذي يدور بخلد القارئ الآن: لم كان منا هذا التفصيل، وما جدواه؟
والإجابة:
إن أكل المصري للعدس والفول والبصل (أيام كنَّا نزرع العدس!)، أو أكل الفلسطيني
للزيت والزعتر بخبزة مما تُنبته الأرض بإذن الله بغير تدخُّل بشري، عافية في
البدن، وقوَّة للروح، واستقلال اقتصادي، وحُريَّة سياسيَّة. فتأمَّل كيف جُعِلَ
هذا كله -بحول الله- في اللقمة التي تتخيرها زادا، واحمد الله كثيرا.
x.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry