قضايا وآراء

ثورتنا التي أُجهِضَت (1-2)

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600

قد تجلَّى للقارئ في مقالنا السابق -بجُزءيه- (1) شطر من التحولات المهمة التي طرأت على الساحة الدينيَّة المصريَّة، كما نحسب أنه قد تبيَّن له أن الثورة التي نقصدها ليست ما قد يَظنُّه للوهلة الأولى، وإنما هي شيء آخر؛ سنتناول بعضه -إن شاء الله- في مقالنا هذا، بجُزءيه.

ولعلَّ من اطلع على كتاب إدوارد سعيد الشهير: "تغطية الإسلام"(2) يُدرِك آليَّات عَبَث الإعلام الغربي(3) -بتواطؤ حكومي عربي كامِل- بصورة الإسلام؛ للصد عن سبيل الله، وذلك تحديداً منذ انبعاث ما سُمي بـ"الصحوة الإسلاميَّة"، إبَّان سبعينيات القرن العشرين. بل يُدرِكُ كيف حالَ هذا الإعلام كُليّاً دون عرض كثير من الأبعاد العرفانيَّة/ الصوفيَّة للصورة "السياسيَّة" في إيران، ليتسنَّى لنا مُقارنتها بحركة "الإسلاميين" عندنا واكتشاف حجم الخلل، خصوصاً حين كانت الثورة الإسلاميَّة (1978-1979م) فُرصةً دعويَّة ذهبيَّة، ومدعاة حقيقيَّة لائتلاف الأمَّة، إبَّان لحظتها النماذجيَّة القصيرة (والعابرة للهويَّات المذهبيَّة)، قبل العدوان البعثي (بتحريض أمريكي)(4)، الذي تطوَّر إلى حرب استنزاف مُنهِكة دامت ثماني سنوات كامِلة (1980-1988م).

وقد لَعِبَت دول الخليج -وتحديداً السعوديَّة والكويت- دوراً خطيراً لا في إشعال الحرب العراقيَّة الإيرانيَّة وتمويلها فحسب (إذ كان أمراء الخليج من رعايا الشاه الملحِد، وأصدقائه وزوارِه المنتظمين!)(5)، طمعاً بإنهاء اللحظة النماذجيَّة الوحدويَّة بأسرع وقت ممكن، وإعادة إيران إلى المربع الطائفي والقومي -الذي يضمن استمرار عُزلتها- وإنما كان الأخطر هو فرض ستار إعلامي حديدي، أنفِقَ عليه مليارات الدولارات للحيلولة دون انتقال هذه اللحظة النماذجيَّة الجامِعَة -المتجاوزة للمذاهب والأيديولوجيات والخلافات- إلى الدول العربيَّة، لأسباب لا يحتاج قارئ اليوم إلى فرط ذكاء لإدراكها، خصوصاً بعد خبرتنا المفجِعة في إجهاض ما سُمي بـ"الربيع العربي"، الذي ما زالت دماؤه غضَّة طريَّة في الذاكرة.

وليت الأمر توقَّف على التعتيم شبه الكامِل على الثورة الإيرانيَّة، وإنما امتدَّت الجريمة لتشمل حملة تشويه كامِلة ومُنظَّمة استُعْمِلَت فيها كافَّة أدوات إعلام الشاه المقبور، بل وكافَّة مفردات خطابه؛ لرمي الحركة الإسلاميَّة في إيران ورموزها (وخصوصاً الإمام الخميني) بأقذر التُهم وأشنعها. وهي الحملة التي تواطأ عليها وشارك فيها -للأسف الشديد- بعض "رموز" الصحوة الإسلامية السنيَّة -باختلاف أجيالها- وما زال دَخَنها يلوث أرواح الكثيرين إلى اليوم. بل ويُشكل سدّاً سميكاً اصطُنعَ ليحول دون عقول الباقين، بقطع النظر عن تطورات الأحداث التالية، التي صبَّت في ترسيخ القوالب النمطية المعادية كلها.

لقد كان للثورة الإسلاميَّة في إيران أثر كاسح على الساحة العربية بوجه عام، حركيّاً ونظريّاً، أثر كان ينذر بتحول "إحيائي" جذري في المجال العام السني. وكان من بين هذه اﻵثار مثلاً دورها المباشر في تحول عدد ضخم من المثقفين اليساريين العرب (خصوصاً الماويين، وعلى رأسهم الكتيبة الطلابية لحركة فتح) إلى الإسلام(6)، بل ومنهم من انتقل من المسيحية إلى الإسلام، كما حدث في حالة المفكر الفلسطيني الشهير منير شفيق.

لكن كان أهم أسباب العداء الحكومي العربي الشرس للثورة هو تأييد كافَّة التيارات الإسلاميَّة السنيَّة -بلا استثناء تقريباً- للثورة الإسلاميَّة في إيران(7)، في وقت رَعَت فيه الدولة ما بعد الكولونياليَّة أسلمة كل شيء لمواجهة الشيوعيَّة، واحتضَنَت الإخوان لتوظيفهم ضد الشيوعيين والقوميين والناصريين(8). لكنَّ هذا التأييد التلقائي/ الفطري بدأ ينتكِسُ ويخفُت تدريجيّاً حين بدأ التمويل السعودي يتدفَّق، مُنهمراً على الإخوان المسلمين وجماعة المودودي في شبه القارة الهنديَّة؛ في صورة مشروعات جديدة تُلهي عن استيراد "الفكر الثوري" (على رأسها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الذي تأسس عام 1980-1981م)(9).

ورغم ذلك، كان الأثر الثوري الإيراني شديد الوضوح (خصوصاً في مصر)، حتى يُمكن عزو التأسيس الحقيقي لأهم التنظيمات الإسلاميَّة المسلحة في العالم العربي(10) عَزواً مباشراً إلى ما بقي من هذا الأثر بعد تشويهه، ومحاولة شتى التنظيمات الحركيَّة الإسلاميَّة دمج الشظايا المبتورة، التي بلغتنا منه؛ في المجال الحركي العربي(11). بل ربما كان بوسعنا عزو إنشاء حركة حماس -المتأخر نسبيّاً (1987م)- إلى النُضج النسبي لأثر الثورة في فلسطين، سياسيّاً ومعرفيّاً. هذا ناهيك عن أثر الثورة المباشر في تأسيس عدد من التنظيمات الحركيَّة الشيعيَّة، وعلى رأسها تأسيس حزب الله اللبناني (1982م)، كما نعرفه اليوم.

ولعلَّ الأثر لم يكن لينتَكِس إلى تضخُّم تنظيمات الجهاد، المشوَّشة والمشوِّشة (عدا في فلسطين)؛ إذا كان المجال قد أفسِح للنمط الدعوي- الاجتماعي المصري، النمط الذي كانت تُمثله بالأساس القامات الدعويَّة المركزيَّة الثلاث (أحمد المحلاوي، وعبد الحميد كشك، وحافظ سلامة)، التي اجتاحت المجال العام المصري بإخلاصها الناضح، طيلة السبعينيات(12) وقسماً من ثمانينيات القرن العشرين؛ مُبشِّرة بتغيير أعمق وأنضج. وقد كان الشيخ المحلاوي مثلاً يُلقَّب في الصحافة هزوا بـ"خُميني مصر" لجذريَّة مواقفه، وذلك قبل أن تتقوَّض تجارب الثلاثة بفعل تدخُّل السلطة بشتى السُبل، ورغبتها (التي اضطرمت أكثر بعد اغتيال السادات) في حصر العمل الإسلامي في إطار وكلائها المعتمَدين: الإخوان المسلمين في البرلمان، وتنظيمات الجهاد وجيوبه (ومنها الجماعة الإسلامية المسلحة)، التي خلفت تنظيم شُكري مصطفى، المسمى إعلاميّاً بالتكفير والهجرة.

ولا تَعجَب عزيزي القارئ، حين تعرف أن قواعد الإخوان والجماعة الإسلاميَّة المسلحة والسلفيَّة السكندريَّة -التي كانت إبَّان السبعينيات من طلبة الجامعة، وصارت اليوم قيادات في السبعين- كانت تُمثل تنظيماً واحداً مُتكاتِفاً، سَمَح له السادات بالعمل في الجامعات المصريَّة، بل وحطَّم في سبيله كافَّة المحاولات المستَقِلَّة التي تمخَّضت عنها الحياة الجامعيَّة لتأسيس عمل إسلامي مُستقِل -لا توظفه الدولة لحسابها- خصوصاً ما كان يُنبِت كل يوم كالفِطر في معامِل تفريخ كليَّة الهندسة بجامعة القاهرة(13). ثم تغيَّرت اللافتات الكبرى بعد ذلك، وتفكَّك التنظيم الجامعي إلى عدَّة تنظيمات حزبيَّة(14)، صار لكل منها استراتيجية مختلفة في الظاهر، إلا أنها كانت في حقيقة الأمر تخدمُ هدف السلطة السياسيَّة الأوحد، بأن تظل كافَّة أطياف العمل الإسلامي في قبضتها وتحت سيطرتها وطوع بنانها.

وسنواصِلُ في القسم الثاني من المقال، تتبُّع هذه الجدلية "الإسلامية"، التي جمعَت "التواطؤ" مع السلطة إلى تشويه كافَّة النماذج التي قد تتجاوز هذا النموذج المخزي، وتوظيف المقولات "الإسلامية" العامة لتقويض أيَّة حركة إسلامية مُستقلة، تتطلَّع إلى تحرُّر حقيقي من هيمنة الدولة التي لا ترقُب في مؤمن -ولا كافر!- إلَّا ولا ذمَّة؛ فإلى الملتقى.
ــــــــــ
الهوامش:

1- راجع مقالنا المعنوَن: "ماذا حدث للتديُّن المصري؟".


2- للاستزادة؛ طالِع: تغطية الإسلام، إدوارد سعيد، ترجمة محمد عناني، دار رؤية (القاهرة، 2006م). ويتجلى في هذا الكتاب عُمق تأثُّر سعيد لا بميشيل فوكو عموماً، فهذا أمر معروف ومشهور؛ وإنما عمق تأثُّره بمقالات فوكو عن الثورة الإيرانيَّة (1978-1979م).

3- أحد المصادر الكلاسيكيَّة التأسيسيَّة في هذه المسألة، وإن كانت الدراسات الغربيَّة قد أضافت إليها الكثير جداً خلال العقود الأربعة الأخيرة؛ كتاب: المتلاعبون بالعقول، هربرت شيللر، ترجمة عبد السلام رضوان، عالم المعرفة (الكويت، 1999م).

4- لاحظ أن صدام حسين أزاح أحمد حسن البكر بعد انتصار الثورة بأشهر قلائل (تموز/ يوليو 1979م)، ليتولى رئاسة الجمهوريَّة مكانه، ويقتل الشهيد محمد باقر الصدر في العام التالي (نيسان/ أبريل 1980م) خوفاً من علاقته الوطيدة بالإمام الخميني، قبل أن يبدأ البعث، في أيلول/ سبتمبر 1980م؛ عدوانه على إيران.

5- وقد ارتد عليهم الكيد في نحورهم؛ إذ غزا صدام الكويت في 1990م، وأوشك على اجتياح السعوديَّة، لولا استدعاء حكامها للسادة الأمريكان لينقذوا أعناقهم. لمزيد من التفاصيل "المزعِجة" حول غزو الكويت؛ راجع: الجنازة حارة، محمد جلال كشك.

6- لدراسة وافية عن المسألة؛ راجع: اليسار المتحول إلى الإسلام: قراءة في حالة الكتيبة الطلابية لحركة فتح، نيكولا دوت بويار، العدد الثاني، سلسلة كراسات مراصد، مكتبة الإسكندرية.

7- لم تكن الطائفة المدخليَّة وأشباهها قد أثمرت في أروقة الاستخبارات بعد. ومع ذلك، كان عداء السعوديَّة بالذات كاسحاً، إذ زلزل عام انتصار الثورة (1979م) النظام الملكي من الجذور، وذلك من خلال حادثين متتابعين: أولهما انتفاضة محرم الشيعية في القطيف والإحساء (تشرين الثاني/ نوفمبر)، ثم حادث احتلال الحرم على يد جهيمان وصحبه (كانون الأول/ ديسمبر).

8- أحد المصادِر العربيَّة النادِرة، التي وثَّقت طرفاً من مواقف "الإسلاميين" تجاه الثورة الإيرانية؛ كتاب: التيارات الإسلاميَّة في مصر ومواقفها تجاه الخارج، وليد محمود عبد الناصر، دار الشروق (القاهرة، 2001م).

9- كانت الثورة هي المخرج الحقيقي الوحيد من الأزمة التي عاناها الإخوان، بعد خروجهم من المعتقلات؛ والباب الملكي لتجنُّب احتواء الدولة ما بعد الكولونيالية وتطويعها وتوظيفها لهم. ومن ثم، كانت لعبة الأسلمة، التي اضطلع بها المعهد؛ تيسيراً لدمج جماهير "الإسلاميين" في بيئة مناقضة للإسلام بنيويّاً، وإن كانت في ظاهرها مُحابية له تسعى لتمكينه!

10-كانت الخليَّة الأولى في تنظيم الجهاد الفلسطيني (تشرين الثاني/ نوفمبر 1981م)، التي أسسها الشهيد فتحي الشقاقي؛ أثراً مباشراً لاتصاله بالإيرانيين وإفادته من تجارب الحركة هناك.

11- وهو ما تجلى في موجات العنف المسلح، التي شهدتها أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات -خصوصاً في مصر والجزائر- بعد أن انتهت التيارات المسلحة من الجهاد الأفغاني وبدأت في العودة إلى بلدانها.

12- بغير غمط حق الشيخ عبد الحليم محمود وطبقته من أهل العشيرة المحمديَّة.

13- من المصادر الجيدة عن الحركة الطلابيَّة، في كليَّة الهندسة؛ كتاب: أسرار الحركة الطلابيَّة، وائل عثمان (القاهرة، 2006م)، وهو جزء من رباعيَّة للمؤلف بعنوان جامع؛ هو: "حزب الله في مواجهة حزب الشيطان".

14- السلفية السكندرية نفسها كانت تنظيماً حزبيّاً كامناً، وله بنية هرمية غير مُعلنة؛ وقد كان هذا رأيي فيه حتى قبل أن يظهر التجلي النماذجي، لهذه الروح الكامنة؛ ممثلاً في "حزب النور السلفي".

 

التعليقات (0)