أفكَار

رحلة بِنيامين التّطيلي إلى فلسطين ودول الشرق في الميزان

فلسطين والشرق الأوسط بأعين رحالة يهودي إسباني في القرن 12 ميلادي
فلسطين والشرق الأوسط بأعين رحالة يهودي إسباني في القرن 12 ميلادي
في حدود سنتي (1165 ـ 1173 م / 561 ـ 569 هــ)، قام الرحالة اليهودي الإسباني الرابي بنيامين بن يونة التطيلي النباري، المعروف بـ"بِنْيامين التَّطيلي"، برحلة استغرقت حوالي ثماني سنوات، زار خلالها نحو ثلاثمائة موضع، من بينها إيطاليا واليونان والقسطنطينية وفلسطين وسوريا والعراق وإيران والهند، وعاد مرورا بعدن في اليمن ومصر وصقلية، ودون ملاحظاته في كتابه رحلات الحاخام بنيامين، وهي تتضمن عددا من الروايات والتفاصيل المهمة عن حياة اليهود في الشرق، خاصة المشرق الإسلامي، وقد انصب اهتمامه على بعض المظاهر الحضارية للبلدان التي زارها، وعلى الجماعات اليهودية فيها من حيث علاقاتهم بالآخرين وأسلوب حياتهم ووظائفهم الأساسية.

الدوافع الحقيقية لرحلة بِنْيامين التَّطيلي

الواقع أن هناك عدة دوافع دفعت بالرحالة اليهود إلى القدوم إلى فلسطين خلال العصور الوسطى، فهناك الرغبة في الاطلاع على أوضاع اليهود في تلك المنطقة، ومعرفة هل هناك أية صور من الاضطهاد تلحق بهم أم لا، كذلك وجدت رغبة قوية لمعرفة حجم الأسواق التجارية، وقدرات المنطقة الاستهلاكية من أجل فتح أسواق جديدة يرتادها اليهود، وينبغي أن نقرر أن الجانب الاقتصادي لا سيما التجاري، مثّل عنصرا مهما من بين دوافع ارتحال الرحالة اليهود إلى فلسطين حينذاك.

مسار رحلة بِنْيامين التَّطيلي

بدأ بنيامين رحلته من مسقط رأسه، من مدينة تطيلة بإسبانيا متجها شرقا مرورا بأوروبا حتى دخل إلى أراضي الامبراطورية البيزنطية، وزار عاصمتها القسطنطينية. ومن ثم ركب البحر فتجوّل بين أرخبيل بحر إيجة فزار رودس وقبرص، ومنها خرج إلى البر في قيليقية حيث أطل على الشرق الإسلامي ـ الهدف الرئيسي لرحلته ـ فراح يتنقل بين المدن العامرة والقرى الزاهرة في سوريا ولبنان، ومنها إلى القدس، ثم مر بغور الأردن واتجه شمالا نحو بحيرة طبرية، ومنها عرج نحو أعالى الفرات بطريق تدمر وبعلبك ودمشق، وأخذ يتنقل بين دجلة والفرات حتى بلغ الموصل. 

ثم ألقى عصا الترحال في بغداد، عاصمة الرشيد، وحاضرة بني العباس يومذاك. ومن بغداد توجه نحو مدن الفرات الأوسط، ويصل في رحلته إلى البصرة، ومنها إلى خوزستان، ثم يعرج على جبال كردستان وأطراف العمادية، ومنها يعود إلى همذان وأصبهان فشيراز وطبرستان، فيبلغ خيوة وسمرقند ونيسابور، ومن ثم يعود إلى خليج البصرة بطريق خوزستان فيروز قيس (كيش)، ومنها يبلغ الهند، ومر بعدها بأجزاء من الصين، ومن الهند ينتقل إلى شواطئ جزيرة العرب الجنوبية، ومنها يعبر البحر الأحمر فيبلغ أفريفيا من نواحي أسوان، فيتابع مجرى النيل وينحدر إلى مصر، فينتقل بين مدنه الواحدة تلو الأخرى، ومن ثم ينتقل إلى الإسكندرية بعد زيارة قصيرة لصحراء سيناء، ومن مصر عاد إلى أوروبا مرورا بصقلية حتى وصل إلى إسبانيا. 

بِنْيامين التَّطيلي في فلسطين

ما يعنينا في رحلة بنيامين التطيلي بالضرورة، حديثه عن أرض فلسطين وتنقله بين المدن العامرة والقرى الزاهرة، وبالطبع، ليس كل ما يرويه لنا هو الصحيح والدقيق؛ فقد شاهد العديد من الأشياء من خلال عدسة الأساطير والمعجزات التي عرفها قبل سفره، فرسم لنا صورة توراتية كاملة للمدن التي زارها، وحاول مطابقة أسماء المواقع بأسماء من "الكتاب المقدس"، فراحت أسماء المواقع التي طالما قرأ عنها في "الكتاب المقدس" تتدفق على مخيلته.
   
على الرغم من رفضنا إسقاط جغرافية "الكتاب المقدس" على فلسطين، إلا أن بنيامين الرابي، ارتكب أخطاء كارثية عديدة في مطابقة جغرافية "التوراة" المُتخيلة على المواقع الفلسطينية، بل إنه أثبت أنه جاهل في جغرافية "الكتاب المقدس" المُتخيلة، وهو، الرابي، من الثقات العارفين بالتوراة! 

أعداد اليهود في فلسطين

اهتم الرحالة بِنْيامين التَّطيلي اهتماما خاصا بالعناصر اليهودية، ولذلك نجده يحرص على أن يورد أعدادهم في كل مدينة من مدن فلسطين، أول مدينة فلسطينية وصل إليها هي، عكا، و"فيها نحو مائتي يهودي".  وقيسارية، "فيها نحو المائتين من اليهود الرابيين ومثلهم من الكوتيين. والكوتيون هم السامريون".  واللد، "وفيها يهودي واحد يحترف الصباغة". ونابلس، "وفيها نحو الألف من الكوتيين وليس فيها يهود. أما الكوتيون فهم السامريون". أما القدس، "يبلغ عددهم في هذه المدينة نحو المائتين". 

غير أن براور يقرر أن ذلك العدد ورد في بعض النسخ المخطوطة للرحلة، وصحته أربع عائلات يهودية فقط، على اعتبار أن الصليبيين كانوا قد منعوا اليهود والمسلمين من العودة إلى الاستقرار في المدينة المقدسة، وصدر مرسوم بمنعهم من الوجود؛ خشية أن يؤدي وجودهم إلى تدنيس قدسية المدينة، وهكذا، فإذا وجدنا يهودا أو مسلمين فيها، فهم في العادة حجاج أو أناس حصلوا على موافقة خاصة على القدوم من أجل إنجاز بعض المهام أو الأعمال، ودفعوا في مقابل ذلك رسوما معينة من أجل الموافقة على القدوم للمدينة. و"في بيت لحم أحد عشر يهوديا". وبيت جبرين، "ليس فيها سوى ثلاثة من اليهود". كما أن قلعة الحصن، "فيها نحو 300 يهودي". وبيسان، "ليس فيها يهود". والرملة، "يقيم فيها نحو 300 يهودي". 

أما يافا، "فيها اليوم يهودي واحد". وفي عسقلان، "يقيم فيها نحو مائتي يهودي من الرّابيين، ونحو الأربعين من اليهود القرائين. وثلثمائة من الكوتيين (السامريين)". وزيرين [زرعين]، "فيها يهودي واحد". و"في طبرية نحو مائة يهودي".وتبنين، "فيها عدد من اليهود". وجوش، "فيها نحو عشرين يهوديا".  أما علمة، "فيها نحو خمسين يهوديا".
  
طبعة الرحلة وترجماتها

وضع بِنْيامين التَّطيلي كتاب رحلته في الثلث الأخير من القرن الثاني عشر للميلاد (السادس للهجرة)، فلم يلبث صيتها أن ذاع وحديثها أن انتشر، فتناولتها أيدى النساخ في مختلف الأقطار قبل انتشار الطباعة. وما كادت الطباعة تظهر في أوروبا في القرن الخامس عشر، حتى كانت رحلة بنيامن من طليعة الكتب المطبوعة؛ فقد صدرت أول طبعة له بالعبرية عن مطبعة سونسينو في قسطنطينية سنة 1543م. ثم توالت طبعاته، وقد ترجمت الرحلة إلى معظم اللغات الأوروبية منذ الثلث الأخير من القرن السادس عشر. وصدرت أول ترجمة عربية للرحلة عن النص العبري وعلق على حواشيها وكتب ملاحقها، عَزْرا حَدّاد، وطبعت سنة 1945، بالمطبعة الشرقية في بغداد. وأعاد المجمع الثقافي في أبو ظبي، في العام 2002، نشر الرحلة مع مقدمة للدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ. وأعادت دار صفحات ناشرون وموزعون في دمشق، في العام 2014، نشر الرحلة بإضافة تحقيق للدكتور منذر الحايك. 

*كاتِب وباحِث فلسطيني

التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم