قضايا وآراء

آفاق وتحديات العمل الإغاثي في سوريا الجديدة

السيد رأفت العابد
"دور العمل الإغاثي لا يقتصر فقط على تقديم المساعدات الغذائية والدوائية، بل يجب أن يتعداه إلى مشاريع إعادة الإعمار"- الأناضول
"دور العمل الإغاثي لا يقتصر فقط على تقديم المساعدات الغذائية والدوائية، بل يجب أن يتعداه إلى مشاريع إعادة الإعمار"- الأناضول
يواجه السوريون ظروفا معيشية قاسية، وحقائق صادمة تكشفت لهم، ومعاناة إنسانية تتطلب تدخلا عاجلا لمواجهة آثارها المدمرة على المجتمع، ففي خلال سنوات الحرب الـ13 الماضية (من 2011 إلى 2024)، فقد حدث تدمير واسع للبنية التحتية في البلاد، بالإضافة إلى مقتل وجرح أعداد ضخمة من المدنيين، مع تدفق ملايين النازحين والمهاجرين. ومن خلال الأرقام التالية والتي تُظهر حجم الكارثة الإنسانية التي حلت بسوريا وتسلط الضوء على الحاجة الماسة إلى دعم إغاثي طويل الأمد، يتضح جليا أهمية تفعيل دور المجتمع الدولي والمنظمات الإغاثية في توفير الدعم اللازم لسد الاحتياجات الإنسانية العاجلة وإعادة بناء سوريا بعد هذه السنوات الدامية.

فقد تعرضت العديد من المدن السورية لتدمير شبه كامل، أبرزها حلب، وحمص، والرقة، ودير الزور، وإدلب، وغيرها من المدن. في عام 2017، قدرت الأمم المتحدة أن حوالي 60 في المئة من البنية التحتية في سوريا قد دمرت جزئيا أو كليا، ففي حلب وحدها، تم تدمير أكثر من 50 في المئة من المباني، بينما في الرقة، دُمرت حوالي 80 في المئة من المدينة أثناء معركة السيطرة عليها، وفقا لتقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية. وبلغ عدد القتلى في سوريا منذ بداية الحرب حتى نهاية عام 2023 نحو 500 ألف قتيل في حين بلغت أعداد الجرحى أكثر من 1.5 مليون شخص أصيبوا بجروح متفاوتة الخطورة بسبب القصف والقتال الدائر في مختلف المناطق السورية، وذلك حسب تقديرات الأمم المتحدة والمنظمات الطبية.

يتأكد لنا التأثير العميق للقتال المستمر على البنية التحتية للبلاد وعلى سكان سوريا عموما، ويشمل ذلك تدمير المدن، ونقص الخدمات الأساسية. وأثّر النزاع على المجموعات السكانية المتنوعة وبات الوضع الإنساني في سوريا يمثل تحديا دوليا، حيث يتطلب استجابة سريعة وشاملة من المجتمع الدولي

أما أعداد النازحين واللاجئين فيُقدر عدد النازحين داخليا في سوريا بحوالي 7.1 مليون شخص حتى عام 2024، في حين تقدر أعداد اللاجئين السوريين خارج البلاد حتى عام 2024 بحوالي 6.9 مليون سوري في دول الجوار مثل تركيا، ولبنان، والأردن، والعراق، كما توجه السوريون إلى دول أخرى في أوروبا وأمريكا الشمالية.

ومن المفزع حقا أن تُشير تقارير إلى أن أكثر من 100 ألف شخص مفقودون حتى الآن في سوريا بسبب النزاع.

ومن تلك الإحصائيات الأممية والدولية والتي ربما تقل عن الأرقام الدقيقة يتأكد لنا التأثير العميق للقتال المستمر على البنية التحتية للبلاد وعلى سكان سوريا عموما، ويشمل ذلك تدمير المدن، ونقص الخدمات الأساسية. وأثّر النزاع على المجموعات السكانية المتنوعة وبات الوضع الإنساني في سوريا يمثل تحديا دوليا، حيث يتطلب استجابة سريعة وشاملة من المجتمع الدولي.

إن "سوريا الجديدة" التي تواجه تحديات إعادة بناء الدولة والمجتمع بعد سنوات من الصراع؛ لا بد فيها من التركيز على العمل الإغاثي والإنساني في ضوء التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تطرأ على البلاد، وكيف يتكيف الشعب السوري مع الوضع الجديد، ويطمح إلى تحقيق استقرار طويل الأمد.

من هنا نود أن نلقي الضوء على التحديات التي تواجهنا وما هي آفاق العمل الإغاثي في سوريا الجديدة.

التحديات الرئيسية للعمل الإغاثي في سوريا

الاحتياجات الإنسانية

الغذاء: هناك حاجة ماسة للمساعدات الغذائية بسبب فقدان القدرة على إنتاج الغذاء المحلي بسبب النزاع، بالإضافة إلى انعدام الأمن الغذائي في العديد من المناطق.

الرعاية الصحية: تدمير العديد من المستشفيات والمرافق الطبية تسبب في نقص الرعاية الصحية الأساسية، وهناك حاجة كبيرة للمعدات الطبية والكوادر الطبية المؤهلة.

المياه والصرف الصحي: نقص مصادر المياه النظيفة في المناطق التي تأثرت بالصراع، وتهديدات الأمراض الناتجة عن ضعف البنية التحتية للصرف الصحي.

التعليم: عدم توفر التعليم للأطفال بسبب تدمير المدارس والنزوح المستمر للمجتمعات، مما يجعل الأجيال الجديدة محرومة من فرصة التعليم.

الإسكان: تدمير المدن والأحياء أدى إلى خلق أزمة في السكن، مما يتطلب إعادة بناء المنازل والبنية التحتية بشكل عاجل.
دور العمل الإغاثي لا يقتصر فقط على تقديم المساعدات الغذائية والدوائية، بل يجب أن يتعداه إلى مشاريع إعادة الإعمار، بما في ذلك إعادة بناء المرافق الصحية، والتعليم، والبنية التحتية العامة والمساكن. وقد تحتاج تلك المشاريع إلى مزيج من التمويل الدولي والحلول المحلية

البيئة الأمنية والسياسية

مع استمرار النزاع والصراع على النفوذ بين القوى المحلية والدولية، يمكن أن يكون الوصول إلى بعض المناطق الإغاثية محدودا أو صعبا للغاية. فالنظام السياسي المعقد والمتعدد في سوريا، والمناطق الخاضعة لسيطرة أطراف مختلفة (حكومة، قوات كردية)، يجعل التنسيق والتوزيع الفعال للمساعدات تحديا كبيرا.

التحديات اللوجستية

تعاني العديد من المناطق من صعوبة الوصول إليها بسبب تدمير الطرق، أو بسبب مناطق الألغام المنتشرة، ما يجعل الوصول إلى المستفيدين أمرا معقدا.

الفساد

الفساد في المؤسسات الحكومية والمجتمعات المحلية قد يؤثر على فعالية توزيع المساعدات، حيث يتم تحويل بعض المساعدات إلى جهات غير مستحقة أو يتم استغلالها لأغراض سياسية.

آفاق العمل الإغاثي في سوريا الجديدة

دور المنظمات المحلية

مع التدهور المستمر في الوضع، أصبحت المنظمات المحلية السورية أكثر قدرة على الوصول إلى المناطق المتضررة، حيث يمتلكون المعرفة الثقافية والجغرافية، كما أن تطوير العمل بكثير من المنظمات السورية خلال العقد الماضي جعلها تتسم بالمهنية والاحترافية ومراعاة المعايير العالمية في العمل الإنساني، كما يعطيها فرصة أكبر في تلافي أخطاء الماضي وإصلاح منظومة العمل. ولا يمكننا أن نتجاهل أهمية تسليط الضوء على أهمية تدريب ودعم هذه المنظمات في تلك الفترة الحرجة من عمر سوريا الجديدة.

التعاون الدولي

التعاون بين المنظمات الإنسانية الدولية والمحلية أصبح أمرا ضروريا لتنسيق الجهود وتوزيع المساعدات بشكل متوازن. وتبرز هنا أهمية بناء شبكات وتنسيقيات وشراكات تضمن التعاون المستمر بهدف التوزيع العادل للمساعدات لجميع السكان، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الطائفية.

التكنولوجيا والابتكار

استخدام الابتكارات التكنولوجية يمكن أن يكون له تأثير كبير في تسهيل إيصال المساعدات. فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام التطبيقات الرقمية لتتبع المساعدات أو تقديم المساعدات للأسر بما يعرف بأتمتة العمل الإغاثي، وأيضا يمكن أن يساهم الذكاء الاصطناعي والتحليل البياني في تحديد المناطق الأكثر حاجة وتحليل البيانات لتقديم الدعم بشكل أكثر دقة.

الاستجابة الفعالة للتغيرات

يجب أن تكون استراتيجيات الاستجابة الإنسانية مرنة بما يسمح للمنظمات بالتكيف مع التقلبات الأمنية والسياسية، ويمكن أن يشمل ذلك استراتيجيات لتوسيع نطاق العمل الإغاثي أو تغيير طرق التوزيع بما يتناسب مع تغيرات الوضع.

الحلول المستدامة

التنمية المستدامة مقابل الإغاثة الطارئة

من الضروري دمج مشاريع الإغاثة الإنسانية الفورية مع استراتيجيات التنمية طويلة الأمد، فالإغاثة وحدها لن تضمن استقرارا مستداما، بينما تساهم مشاريع التنمية المستدامة في إعادة بناء الاقتصاد المحلي وخلق فرص عمل للشباب.

التعليم والتأهيل

يعد الاستثمار في التعليم والتأهيل المهني من أولويات المستقبل، خصوصا أن سوريا بحاجة إلى جيل جديد مؤهل لبناء البلاد بعد انتهاء الصراع، وينبغي تخصيص موارد لبرامج تعليمية ودورات تدريبية موجهة للشباب لتزويدهم بالمهارات اللازمة حسب حاجة سوق العمل.

إعادة الإعمار

دور العمل الإغاثي لا يقتصر فقط على تقديم المساعدات الغذائية والدوائية، بل يجب أن يتعداه إلى مشاريع إعادة الإعمار، بما في ذلك إعادة بناء المرافق الصحية، والتعليم، والبنية التحتية العامة والمساكن. وقد تحتاج تلك المشاريع إلى مزيج من التمويل الدولي والحلول المحلية.

التوقعات المستقبلية

التطورات المحتملة
العمل الإغاثي في سوريا الجديدة سيكون معقدا، ولكنه ليس مستحيلا، ويجب أن تواصل المنظمات الإغاثية المحلية والدولية جهودها لمواجهة التحديات مع إدراك أن كل تحدٍ يقدم فرصة للتغيير الإيجابي

من المحتمل أن تشهد السنوات القادمة تحسنا تدريجيا في الوضع الإغاثي إذا تم تعزيز التعاون بين المنظمات الإنسانية والجهات الحكومية والمحلية، والتي عليها إنشاء جهة تختص بالتعامل مع الهيئات الإغاثية المحلية والدولية وتيسير عملها وتقديم التسهيلات من أجل خدمات إغاثية أفضل لأهل سوريا، كما يكون من اختصاصها متابعة وتقييم وتقويم الأعمال الإغاثية كنوع من الرقابة الإيجابية التي تدفع العمل نحو جودة أفضل وبشفافية، دون أن تعيق سير المشروعات.

كما ينبغي الاهتمام الشديد بكيفية تحسين الوضع الأمني، بحيث يمكن تقديم المزيد من الدعم للمناطق التي كان من الصعوبة الوصول إليها سابقا.

فرص الاستثمار في العمل الإغاثي

مع الانتقال نحو سوريا الجديدة، ستكون هناك حاجة ملحة للاستثمار في القطاع الإغاثي، مع التركيز على البنية التحتية والقطاعات التي تساهم في تنمية المجتمع بشكل طويل الأمد، لذا فمن الضروري جدا إعداد البنية القانونية والتشريعية التي تخدم ذلك الهدف.

في الختام، ينبغي التأكيد على أن العمل الإغاثي في سوريا الجديدة سيكون معقدا، ولكنه ليس مستحيلا، ويجب أن تواصل المنظمات الإغاثية المحلية والدولية جهودها لمواجهة التحديات مع إدراك أن كل تحدٍ يقدم فرصة للتغيير الإيجابي.

وأضم صوتي إلى دعوة المعهد الدولي للإغاثة لعقد مؤتمر دولي عاجل في دمشق بحضور المنظمات المحلية والدولية والحكومة الانتقالية لبحث آفاق وتحديات العمل الإغاثي في سوريا الجديدة، فهذه دعوة إلى المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية للمساهمة في بناء سوريا جديدة قائمة على الاستقرار، والتنمية المستدامة، والمساواة بين جميع السوريين.

(خبير في العمل الإغاثي- عضو المعهد الدولي للإغاثة)
التعليقات (0)

خبر عاجل