ـ 1 ـ
تتجه الدّراسات الجمالية عامة، حينما تبحث
في علاقة الكتابة بالواقع في الأزمات الإنسانية الكبرى خاصّة، إلى إحدى الاتجاهين الآتيين، وإن اختلفت العناوين والتسميات:
ـ إلى اتجاه الفن للفن، الذي يرى في الفنان
عامّة، صانعا للجميل الممتع، ولما يجعل من الفنّ فنّا، قياسا عليه. ورغم كل ما كان لهذه العبارات من الإطراء زمن
هيمنة الدراسات الإنشائية، لا تبتعد صورة المبدع ضمنها اليوم كثيرا عن صورة
الحرفيّ، الذي يصنع أشكالا جميلة لا يستطيعها من لم يتدرّب على ضرب الحديد كفاية، ليصبح بفعل الممارسة والدأب حدّادا.
ـ وإلى اتجاه الفن باعتباره التزاما ورسالة، ولا تَخفى هشاشة هذا الاستعمال أيضا؛ فصيغته تجعله عرّضة للتحامل والتبخيس، ففيه -ضمنا- ما يفيد أنّ الفنان يقيم في دنيا الفن كعابر السبيل؛ لأنه يتقمّص
دور المبدع، ولكنه يجعل منه تقية ليخفي خلفه دور السياسي أو المصلح الاجتماعي، اللذين يعيشهما
في العمق.
ولن يكون الجمع بين "الممتع
والمفيد" مجديا، فهو لا يزيد عن صيغة توفيقية لا ترتقي إلى فهم الإبداع، باعتباره صيغة لسكنى الوجود وتصوّرا لمنزلة الإنسان فيه.
وفي سياقنا. الحالي يطرح سؤال ملح حول دور
الفنان العربي إزاء ما يتعرض له الشعب
الفلسطيني من إجرام إسرائيلي، خاصّة أن
القضية الفلسطينية مثلت المحور الرئيسي في تظاهرتين ثقافيتين جدّتا هذه الأيام في
البلاد العربية.
ـ 2 ـ
مواجهة للتعتيم الإعلامي، جعلت الدورة
الخامسة والأربعين من "مهرجان القاهرة الدّولي للسينما"، السينما في
فلسطين إبداعا وصناعة في واجهتها، بغاية تبليغ الصوت الفلسطيني ومعاناة الفلسطينيين
إلى أحرار العالم. وأحدثت المسابقات الخاصّة بها؛ فقد جعلت من فيلم "أحلام
عابرة" للمخرج رشيد مشهراوي عرضا للافتتاح، وجعلت من مكونات برنامج
"أضواء على السينما الفلسطينية" مناسبة لعرض أفلامها القصيرة، ومن ضمنها
"أحلام كيلو متر مربع" للمخرج قسام صبيح، والوثائقي "سن
الغزال" للمخرج سيف حماش، و"ولدت مشهورا" للمخرج لؤي عواد، وجميع
صنّاعها من المخرجين الشبان. وتفاعلا مع مبادرة المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، التي جمعت 22 مخرجا من غزة، حاولوا تقديم رؤيتهم السينمائية للحياة اليومية تحت
القصف والقنابل، عرضت أفلام قصيرة جدا، منها "جنة الجحيم" و"سِحر"
و"صحوة" و"جاد وناتالي" و"هنا عليوة" و"كل
شيء على ما يرام" و"تاكسي ونيسة" و"24 ساعة"
و"سليفي" و"خارج التغطية".
وضمن برنامج "آفاق السينما
العربية"، عُرضت عديد الأفلام الوثائقية الفلسطينية الطويلة. وأمكن للمتفرج
مشاهدة أفلام كانت فلسطين محورها، منها "عُطل في فلسطين" للمخرج الفرنسي "مكسيم ليندون"، أو
فيلم."غزة التي تطل على البحر" للفلسطيني محمود نبيل. واشتمل حفل
الاختتام على قصيدة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" للراحل محمود
درويش، وعرض فني لفرقة "وطن للفنون الشعبية" من فلسطين. فكان الفن
معبّرا عن صوت المصريين المكتوم سياسيا.
ـ 3 ـ
وكان حضور القضية الفلسطينية في "أيام
قرطاج المسرحية" ،خاصة من خلال الندوة الدولية التي عقدت بعنوان "المسرح
والإبادة والمقاومة نحو أفق إنسي جديد". وطبيعي أن يكون النص النقدي أكثر
مباشرة في طرح قضايا
الاحتلال ومناصرة المقاومة. وبالفعل فورقتها العلمية تعلن أنّ
"البشرية في زمنها المعاصر تحارب محاربة مريرة مع الدمار، وللدمار معنى مادي؛ هو تدمير
الشوارع والطرق والمباني والمؤسسات والمقرات والتماثيل والمعالم وتعظيم كامل
محتوياتها. ويكون هدف مقترفي التدمير من إبادة الأمكنة، جعل حياة الناس عسيرة والتواصل
بينهم متقطعا، واللحمة التي يفترض أن تجمعهم مكسورة، وحركة الإنتاج المادي والفكري
لديهم أقل استمرارا وانسجاما.
لكن الدمار يطال أيضا كل مواقع إنتاج الفنون
وتداولها، وبذلك تكون له دلالة معنوية تجعله جزءا من إبادة الإثنية، تغتال الذاكرات الإنسانية التي تحفظها تلك الفنون،
مستودع التواريخ وأرشيف الحياة الجارية وسجل المستقبلات المنشودة، حيث تمنع سرد
الروايات الأهلية بأصوات الفنانين المتجذرين في ثقافاتهم".
ومن هذه الخلفية تنوعت جلساتها العلمية؛ فجاءت بعنوان "المسرح والإبادة والمقاومة: أطروحات ومقاربات"، أو
"المسرح وأتيقيا التعبير عن الدمار والإبادة"، أو :"المسرح والعنف
والديكتاتورية. فتناولت التونسية إيناس زرق عيونه، موضوع "الإبادة الجماعية في
غزة على المسرح في تونس"، تحت عنوان فرعي هو "أي أيطيقيا لأي أخلاقيات
مهنية؟" ودرست الأردنية نجوى قندقجي "سرديات الجسد المقاوم والجماليات
الأدائية المستترة". أما أنديرا راضي المصرية التونسية، فبحثت في المقاومة عند
"أوغوستو بوال" وتجلياتها الواقعية في غزة.
ونزّل عبد الحليم المسعودي العمل المسرحي ضمن
سياق جمالي أشمل، في ورقة بعنوان "الرهانات الجمالية على حواف مسرح الإبادة:
من التراجيديا الإغريقية إلى مسرح الهولوكست"، فيما نزّله الناقد والجامعي
الفرنسي ألان جنحون، ضمن سياق فلسفي في ورقة بعنوان "من عقد عربي - فلاسفة
وشعراء يدافعون عن غزة".
ـ 4 ـ
ولم تكن غزة وحدها موضوعا لعلاقة الفن
بالمقاومة والتصدي لمحاولات الإبادة الجماعية في هذه الندوة، فضمن محور
"الفرجة للمقاومة والاستعمار والحرب الأهلية" تم استحضار مآس كثيرة
منسية تجمع بينها الحروب الأهلية، شأن ما حدث في البوسنة والهرسك زمانا، أو ما يقع
في اليمن اليوم. ولنا في ورقة الناقد السوداني السر سعيد محمد الذي عاقته الحرب عن
الاستجابة لدعوة المهرجان خير دليل، فقدم مداخلة مسجلة عن العنف المنظم والمقاومة
في التجربة المسرحية السودانية، استهلها بعرض شهادته عن الجرائم التي تحدث في الحرب
الأهلية السودانية اليوم، ووجدها امتدادا لحروب كثيرة كان الشعب السوداني ضحية
لها منذ القرن الثامن عشر.
يسهم "نظام التفاهة" اليوم في تزييف الوعي، ليتغنى بمكتسبات الإنسان الحديث ويختزلها في عناوين براقة، مثل: "التخلص من العبودية" أو "التحرر من الاستعمار" أو "حرية استمتاع المرء بجسده"، ضمن العمل على بسط الفرد لسلطته على كيانه وتخليصه من دكتاتورية الدين والأخلاق، أو "تحرير المرأة من هيمنة المجتمع الباترياركي، وحقها في التصرف في جسدها بما في ذلك الحق في الإجهاض.
ثم عاد إلى مسرحية "الذين عبروا
النهر"، التي عرضت على خشبة المسرح القومي السوداني 2002، ليجد فيها تجسيدا لدور الفنان المقاوم.
والعرض هو مسرحية من فصل واحد، كتبها عادل إبراهيم محمد خير، وأخرجها منصور علي
عبيد، فطرح فيها مأساة حرب الجزيرة أبا، مهد الثورة المهدية، التي حدثت في آذار/ مارس
1970 لما هاجمت قوات جعفر النميري الجزيرة بمساعدة مقاتلات مصرية، بقيادة حسني
مبارك، قائد في القوات الجوية المصرية حينها. وكانت المجزرة ردا على احتجاجات
أنصار صادق المهدي على الحكومة المشكلة في الخرطوم، وأبيد فيها نحو 12.000، وصادرت
الدولة إثرها أملاك عائلة المهدي.
تحاول المسرحية التّسلل إلى باطن جندي شارك
في هذه الحرب، ومن خلال هواجسه تعرض مطاردته من قبل طيف الإمام، لتتساءل من المنتصر
في هذه الحرب؟ الغزاة أم الشهداء؟ لينتهي الباحث إلى أن العرض مثّل [مشهدا دراميا
عميقا تآزرت فيه كل لغات العرض المسرحي، لتتحقق في الوقت نفسه مقولة العرض الرئيسة، وهي "أن المنتصر في هذه الحرب هم الشهداء...هو الإمام، والمهزوم هم الغزاة...
هو عنف الدولة].
ـ 5 ـ
يسهم "نظام التفاهة" اليوم في
تزييف الوعي، ليتغنى بمكتسبات الإنسان الحديث ويختزلها في عناوين براقة، مثل: "التخلص من العبودية" أو "التحرر من الاستعمار" أو "حرية
استمتاع المرء بجسده"، ضمن العمل على بسط الفرد لسلطته على كيانه وتخليصه من
دكتاتورية الدين والأخلاق، أو "تحرير المرأة من هيمنة المجتمع الباترياركي، وحقها في التصرف في جسدها بما في ذلك الحق
في الإجهاض. ولكن البحث تحت هذه الطبقة السطحية، يكشف لنا أن شيء فقد في هذا
العالم المنافق. فالرق يتخذ اليوم أشكالا جديدة منها، خاصة الرق الأبيض الذي يهين
ذات المرأة باستغلالها في الدعارة ويشيئها بتحويل جسدها إلى أداة للتسويق أو
الاستعمار المقنع، الذي ينصب على الشعوب الفقيرة أتباعه للقيام بالدور الذي كان
جيشه يقوم به، ويفرض اتفاقيات ظالمة تنهب خيراته.
من هذا النفاق الدولي في المعايير المزدوجة في تطبيق العدالة الدولية.
فقانون الأمم المتحدة 96 (د – 1) المؤرخ في 11 كانون الأول / ديسمبر 1946، يجرم
الإبادة الجماعية بجلاء. فيعلن [أن الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي،
تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها، ويدينها العالم المتمدن].
وتتضمن مادته الأولى [تصادق الأطراف
المتعاقدة على الإبادة الجماعية، سواء ارتكبت في أيام السلم أو في أثناء الحرب، هي
جريمة بمقتضى القانون الدولي، وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها].
وتحدد المادة الثانية معناها فـ [تعني
الإبادة الجماعية أيا من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو
الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:
أ ـ قتل أعضاء من الجماعة.
ب ـ إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
ت ـ إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية
يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا.
ث ـ فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال
داخل الجماعة.
ج ـ نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
وتحدد المادة الثالثة الأفعال التي يقع
تجريمها وهي [أ) الإبادة الجماعية.
ح ـ التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية.
خ ـ التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية.
د ـ محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية.
ذ ـ الاشتراك في الإبادة الجماعية.
ولكن، أين هذا القانون من الإجرام الذي يتعرض
له الشعبان الفلسطيني والسوداني، وبنودها المختلفة تصنفه ضمن الإبادة الجماعية؟
ـ 6 ـ
لهذا النفاق آلياته الجهنمية التي تعتمد المغالطة والتزييف النوعي، وتهميش الإبادة التي تجري وقائعها على الأرض هي الصورة؛ فقد مر
استخدامها لاستلاب الشعوب بمرحلتين اختصت كل مرحلة بوظيفة.
في البداية، كانت الصورة التي تعتمد الخطاب
البصري أساسا، وسيلة لنشر العمى. وهنا موطن المفارقة الكبرى كما هو بيّن؛ فقد كان
الطرف المهيمن، وخالق الصّور الذي يريد أن يؤبد استعمار الشعوب عبر التحكم فيها عن
بعد، من يختار لنا ما نرى من هذا الوجود، ويختار لنا الزاوية التي يجب أن نرى منها
الأشياء؛ فيجعل منها آليته لغزوه الثقافي الذي يجعلنا نرى الوجود بعينيه، وندركه في
النهاية بعقله المتآمر. يتحقق ذلك في نشرات الأخبار أو في العروض الحركية أو
السينمائية، بل في المشاهد العادية من الحياة اليومية أحيانا.
ثم لما فقد هذا
"المستعمر النبيل" القدرة على التحكم في الصورة وتوجيهها، بعد أن باتت
مشاعة بفعل انتشار التقنية، وأصبح الجميع قادرا على إنتاجها، غيّر من إستراتيجيته؛ فنشر عبر قنواته الفظاعة على نطاق واسع لتحيط بنا في كل ناحية إلى درجة تفقد معها
الصورة كل تأثّر بهول المشاهد، فننخرط ونحن نشاهدها في ما يشبه التنويم المغناطيسي، وتتحوّل وظيفتها من عرض ما يحدث من جرائم وفضح فظاعتها، إلى وظيفة التهويم وتحويل
هذا الواقع إلى عالم افتراضي متخيل، فلا نتفاعل مع المدن التي تهدم بأسرها على
رؤوس قاطنيها، أو أشلاء الأجساد التي تُمزّق، إلا كما نتفاعل مع سينما الخيال العلمي أو الفنطازيا، التي يتخلّص
فيها الأخيار في النهاية من الأشرار المفسدين في الأرض.
هنا يكمن الدور الخطير في الفن اليوم: أن
يحررّنا من حالة الاستلاب التي نعيشها، وأن يعيد إلينا إبصارنا، فلا ندع الآخر يرى
عالمنا بالوكالة عنّا، وأن يوقظنا من حالة التنويم المغناطيسي التي نعيشها.