هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مثل تاريخ 23 من تشرين أول (أكتوبر) الجاري محطة سياسية فارقة في التاريخ السياسي التونسي والعربي الحديث، حيث أدى الرئيس التونسي المنتخب قيس سعيد اليمين الدستورية رئيسا للبلاد لفترة خمسة أعوام، بعد أن فاز بغالبية أصوات الناخبين التونسيين، من غير أن تكون له سابقة سياسية تذكر، ولا حزام سياسي غير الطبقات الشعبية العميقة.
وهو محطة فارقة ليس فقط لنوعية الخطاب الأقرب للثورية الذي يمثله الرئيس قيس سعيد، وإنما للإجراءات الدستورية التي جرى من خلالها تسلمه للحكم، ووصوله إلى قصر قرطاج، أين تدار مهام الرئاسة، وهي صورة نادرة الحدوث ليس فقط في تونس، وإنما في العالم العربي بشكل عام.
مازال التونسيون يذكرون أيضا محطة الرئيس التونسي الأسبق محمد المنصف المرزوقي، حين سلم الرئاسة للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي أواخر العام 2014، لكن هذه المرة يأتي انتخاب سعيد في ظروف محلية وإقليمية مختلفة، مما يجعل من هذا الحدث محطة سياسية لها ما بعدها.
ولقد أثار اهتمام المتابعين، وما يزال الطريقة التي وصل بها الأستاذ الجامعي قيس سعيد إلى الرئاسة، وبهذه الأغلبية غير المسبوقة، وطرح السؤال عن طريقة عمل حملته الانتخابية، وما إذا كانت العفوية وحدها هي من أتت به، أم أن عملا مخططا تقف وراءه خبرات شبابية وسياسية قوية؟
الصحفي والإعلامي التونسي الحسين بن عمر، يفتح في تقرير خاص بـ "عربي21"، ملف مجموعات شبابية تُحسب على الرئيس قيس سعيّد، أو هي قريبة منه، أطلقت بالتزامن مع تسلمه للرئاسة حملات نظافة في الشوارع والساحات العامة، ويسأل خبراء العلوم السياسية والاجتماعية عن رأيهم ليس في وصول سعيد إلى الرئاسة، وإنما في فهم هذه الظواهر المصاحبة لهذا التحول السياسي، وتداعياتها الفكرية والاجتماعية.
وهذا هو الجزء الثاني والأخير لحصيلة هذا التحقيق المعرفي والسياسي:
التشويش على الوعي العام وإرباك الضمير الجمعي
يستبعد عبد العزيز لبيب، أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية، في تصريح خاص لـ "عربي 21"، فكرة "المؤامرة" وينقد من يستخدمها هذه الأيام للتشكيك في "براءة" الحملة البيئية أو "حملة النظافة" التطوعية التي قام بها الشباب مؤخرا، فيشرح كيف أن القول بها يدخل في باب الشطط في التخمينات التي يستسهلها عدد من الناس وحتى من المجموعات، بل وبدخل في باب "الهوس الذي يدفع ببعضهم إلى تفسير كل شيء، بقوى خفية أو خارقة للدس في مشروع أو رأي أو موقف يعادونه سياسيا". وعمل الشباب التطوعي ليس جديدا، بل يعود إلي الستينيات. و"كنت وأنا شاب في ثانوية باردو ممن تطوع مع أقرانه لإصلاح طرقات في جزيرة قرقنة أواخر السبعينيات إثر الفيضانات المؤلمة والمدمرة. ولم نسمع كلاما عن مؤامرة ولم نر من نهانا باسم وزارة التجهيز أو مصالحها". وواصل لبيب ساخرا من هذا الإقبال الاستثنائي على التنقيب السببي اللّامتناهي لكل ظاهرة جديدة في مجتمعنا. وهو ما يذكره في هذا الصدد بإنجلس الذي ينقد في كتابه ديالكتيك الطبيعة، رغم كونه كتابا سيّئا في رأيه، مِمَّن يتذرعون "بأسباب الأسباب فلا تنتهي السلسلة". ولكنهم يشعرون بالارتياح ولو أمام الحلقة المفرغة التي ينتهون إليها، إذْ يصطنعون بذلك "غموضا" و"ارتيابا" ويلفّون بهما العالم الخارجي أشخاصا وأفكارا ومشاريع وانتخابات وحركات حشدية. ذلك هو سلاح من تعوزهم الوسيلة السياسية لمقارعة الخصم. إنهم يهيّئون نفسانيا لفكرة المؤامرة بالضرب على أوتارها، ولو دون قصد واضح منهم.
"ولكنّ القصد ليس مهمّا في هذا المجال بالذات. المحصلات الناتجة عن الوهم وعن القصد هي وحدها ما يهمّ الشأن العام". قصدهم الواضح هو التشويش على الوعي العام وإرباك الضمير الجمعي وإحباط العنفوان الشبابي عندما يحركه الأمل في الانعتاق وفي إعادة الاعتبار إليه! ويشرح لبيب أن هناك من القوى الرجعية من تريد خنق ذلك الأمل ومعه مظاهر التآزر والحس المواطني والتشاركي وغيره من مزايا وفضائل الحس الجمهوري، ومنهم من ينتقد الفساد ويقدح في مظاهر القيام بالذات للعودة بالمواطنين إلى وضع التواكل اللّاجمهوري. "والحال أن الفساد والتواكل توأمان يرعاهما الاستبداد".
وفي المقابل، يدعو لبيب إلى فهم هذه الظاهرة الشبابية والمواطنية المستجدّة "باستحضار المناخ العام الذي حدثت خلاله يقظة الضمير وهبّة الحشود في ثورة 17 ديسمبر-14 جانفي، وبتحليل ظروف انسحابها من ساحات تعبيرها السياسي والاجتماعي بعيد القصبة 2 دون إتمام المهمّة العظيمة التي ثارت لأجلها. مبادرة الشباب بالحملة البيئية الجزئية سبقها تطوع الشباب في الحملة السياسية التي ساندت الرئيس الجديد قيس سعيد؛ وهما معا يستعيدان صورة التضامن المواطني في أثناء الأزمة الثورية التي توّجها يوم 14 جانفي، ويستأنفانها بعد أن خيّل للبعض أنها ولّت دون رجعة".
الحشود من القادح السالب إلى القادح الموجب
يؤكّد عبد العزيز لبيب أنّ الحشود التي ثارت في كانون أول (ديسمبر) 2010، هي نفسها التي صنعت ما نعته البعض "بثورة الصناديق" التي جاءت بقيس سعيد رئيسا بغالبيّة ديمقراطيّة مريحة، مع فارق وحيد هو أن "القادح" الذي حرّكها في الأولى كان سالبا، بما في ذلك معاني السلب الكامنة في الانتحار حرقا بالنار، في حين أن "القادح" في الثانية، أي في أيلول (سبتمبر) - تشرين أول (أكتوبر) 2019 جاء موجبا، و"ذلك لأن الأستاذ سعيّد لم يفعل سوى الإيماء إلى الثورة غير المستكملة أو المبتورة، والتذكير بمطالبها المشروعة التي لم تتحقق".
إنه في مرحلة أولى ينعتها لبيب "بالمرحلة اللّاسياسية"، "اكتفي باستجماع البعد الأخلاقي الذي جزأه الإخفاق وجزأته محاولات تثبيط الإرادة ومن ثم الشعور بالخيبة والانكسار. ولذلك جاءت حملته في صيغة "نداء الواجب": الثورة التي غلب عليها طابع النقد والسلب وزعزعة الممارسات الراسخة يجب أن تتحول إيجابا إلى ثورة البناء المؤسسي.
لو جازت الاستعارة لأمكن القول إن حملة قيس سعيد بمنزلة "الوصايا العشر" الموجبة: "الثورة مع استمرار الدولة"، "الانتقال من دولة القانون إلى مجتمع القانون"، وهذا ما يذكر لبيب بـ"ثورة الأنفس" التي دعا إليها رائد التحديث العربي في القرن التاسع عشر، السوري أديب إسحق.
ويؤكد لبيب جازما أن ضربا من المقايضة الخرساء قد حصل في أشهر الثورة الأولى والمرحلة الانتقالية التي تلتها: المكاسب الحقوقية والتشريعات السياسة، مقابل وقف الحراك الاجتماعي الاحتجاجي والثوري. وبالطبع، كما يقول لبيب: "لم تحصل المقايضة بين ذاتين أو بين شخصين واعيين، وإنما بين سيستام قائم ونزعات لا شعورية مقهورة، بين بنى متسلطة وبنى مضطهدة، والمحصلة هي إحلال الانتقال الديمقراطي محل الانتقال الثوري.
الحشود تمهل ولا تهمل
يرى لبيب، أن مشروع قيس سعيّد جاء استنهاضا للهمم المكسورة، وجاء، بالمقابل، تململ الحشود الشعبية وغضبها الساكن أو المكبوت، ومن ثم صحوتها لتجد فيه هو بالذات الشخصية التي تجسم وتبلور طموحاتها.
في السياق نفسه، يذكّر لبيب بأنّ "الحشود لا تموت وإنما قد تغفو مع الحياة؛ وهي تمهل ولا تهمل؛ وما تراجعها وانسحابها من الساحات العامة إلا إدراكا منها بأن كفة موازين القوى لا ترجح في لحظة ما لصالحها؛ وزد على ذلك حداثة عهدها بالسياسة ما يجعلها هشة سياسيا أمام السيستام وأمام النخب، رغم قدرتها على التمييز بين النافع والضّار في لحظة معينة".
ويعلل لبيب رأيه بأن ما لا تحذق فنه الحشود إنما هو معرفة الوسائل الكفيلة ببلوغ هدفها إلا بعد خبرة وامتحان. وتلك المعرفة هي السياسة. وعليه فإنّ من تكون له القدرة على تكثيف تلك الطموحات وعلى شحذ الإرادة، لا يلبث بعد وقت أن يحرك السواكن ومن ورائها زهاء ثلاثة ملايين ناخب؛ فمن الطبيعي أن ترى الشباب يسارع في حركة تلقائية بالقيام بأخذ مبادرات محددة كالتطوع في نظافة الفضاء العام. "ولذا، تدخل هذه الحملات في ما يمكن أن ننعته بالانهمام بالذات، وهو ضرب من الاحتفاء بالذات الجمعية". "هذا في حدّ علمي"، كما أردف لبيب.
"أمّا التشكيك فصار في السنوات الأخيرة نوعا من الارتكاس الجمعي في تونس". وبعد أن يتساءل: "فمن أصحابه؟"، يجيب قائلا بأنهم هم الموهوبون في جلد الذات وفي تضخيم ضعف المدنية والتحضّر عندنا مقارنة بغيرنا، فيَهُولُهم أن يشاهدوا العكس من خلال تلك المبادرات الشبابية المواطنية. "إنهم لا يتركون في تصوراتهم فسحة ولو صغيرة للمفاجأة ولضربات النرد التي تتخلل المصير التاريخي وتنزرع فيه، فليس كل شيء محسوبا وموزون في شؤون الناس، ولا يأتي دائما مطابقا لمقاصدهم الناس ولرغائبهم".
ويربط لبيب ما يحدث اليوم وما حدث في أثناء الأيام الثورية بحيث يمكن، في رأيه، القول مجازيّا، نسجا على قولة هيغل التي عدها ماركس إثره بأن التاريخ يعيد نفسه في تونس: المرة الأولى في شكل تراجيدي، والمرة الثانية في شكل قيام جمعي بالذات قياما جادّا ومستجمعا للكيان الوطني، ومتكفّلا بمصيره بإرادة مبتهجة بمستقبلها.
النخب والالتحاف المتجدد على ثورة الحشود
يرى الأستاذ لبيب أن تاريخ تونس السياسي والثقافي شاهد على طلاق بين النخب والشعب قد يزيد أو ينقص. ومع ذلك، كما يقول: "عملت التجربة الثورية الأخيرة على التوطئة للتقارب بينهما فنجحت في جوانب وأخفقت في أخرى، فلقد كان اللقاء الذي جمعهما في الساحات العامة وبخاصة في القصبة صعبا، كلاهما لم يتعرف جيّدا على نفسه في الآخر. أما بعض الأطراف داخل النخب فأصابها الخوف من الجموع المحتشدة الثائرة".
ويشرح الأستاذ لبيب كيف كانت بعض النخب السياسية والفكرية والجامعية، في ظل الديكتاتورية، تطالب بالحريات العامة والفردية وتناضل من أجلها باسم الشعب. ولكنها في العمق إنما كانت تعبّر عن حاجة تستشعرها هي، فتستخدم شعارات كونية لأجل تعزيز مركزها وبعض امتيازاتها في المنظومة القديمة. ويتساءل لبييب: ألم نشاهد ونسمع أحد الشخصيات العاملة في هيئات حقوق الإنسان، يطالب قوى أجنبية بالتدخل ضد الثورة وإنقاذ النظام؟
ويستدرك لبيب مشيرا إلى أن المشهد تغير تماما أمام النخب السياسية، وهي ترى الحشود تتقدم وتعبر بنفسها وتغير مجرى الأحداث في اتجاه مختلف عمّا كانت قد رسمته تلك النخب التي تريده على قياسها. ومنذ ذلك الحين اختارت أكثر النخب الاقتصادية والثقافيه والحقوقية والإعلامية والسياسية صف المتوجسين خيفة من الحراك الاجتماعي الثوري. ولكنها أدركت، من جهة أخرى، أنه يتوجب عليها محاباة التيار الجارف ومجاراته للالتحاف عليه وقيادته في أفق مسطر ومحدود، "فكانت تغير مواقعها ومواقفها باستمرار وبسرعة لافتة. وعند الحاجة، تلوّح بمخاطر الحشود واختيارات الشعب، ووصل الأمر بها حدّ نعته بأشنع النعوت فلفظها الشعب كما تلفظ النواة.
ولقد دخل العديد منها صراحة في خدمة قوى المنظومة القديمة النازعة إلى العودة إلى ما قبل الثورة، فأعطى ذلك خليطا عجيبا لا يكاد يجمع بين عناصره شيء سوى شعار الحداثية. وكانت أشدّ صفوف المنظومه القديمة حنكة سياسية، تتوخى منذ سقوط نظام بن علي تكتيكا يمكن تشبيهه من بعض الجوانب الكتائب الرومانية، وذلك بتغيير صفوفها الأمامية والوسطى والخلفية في عمالية فرّ وكرّ شبه متواصلة، ووفقا لمقتضيات الظرف للتستر عن نفسها، ويحصل أيضا كما في كل الثورات أن تندس في الحراك الثوري، إلخ... وتساعد على الالتفاف هكذا على الثورة وتشويه بعض تعبيراتها واستخدام مكتسباتها التشريعية والمناخ الديموقراطي الذي جاءت به، وعمقته لأجل استعادة مواقعها في السلطة بشتى الطرق صالحها".
ويرى لبيب، من زاوية معينة، أن ذلك المسار هو الذي قاد إلى ميلاد نداء تونس بتركيبته المتنافرة المشارب ليفوز على غيره في نتائج انتخابات 2014 ويكبح التحولات السياسية كأرضية أساسية للارتداد إلى الماضي. وكان للأمر أن يستفحل لولا الهبة الشعبية الأخيرة وفوز قيس سعيد بالانتخابات.
"ولكن لا يجب أن نغفل أنه من الجهة المقابلة تماما لتلك التعبيرات السياسية الصاخبة، كانت بعض صفوف اليسار وحلقاته وبعض الشخصيات، ومنها الرئيس الجديد نفسه، تعمل على دمج "اليسار" السياسي و"اليسار" الاجتماعي إذا جاز استعمال كلمة يسار أصلا، في تركيبة سياسية من طراز غير مسبوق. ولقد أقدمت على ذلك منذ اعتصامات القصبة وواصلت أداء عملها بصبر وبتبصر وفي هدوء، حتى يحصل ما حصل هذه الأيام من هبة مواطنية من شأنها أن تكبح الاتجاه المضاد للثورة، وأن تستأنف الثورة وتستكمل ما ظلّ على صعيد المأسسة، منقوصا من حيث آفاقها المواطنية الكبرى ومطلب العدالة الاجتماعية التي حرّكها، فكرسته أولى التشريعات التي تلتها".
قد يكون من المبكّر جدّا الحكم على عفويّة حملات النظافة من عدمها، بيد أنّه يحسن استيعاب الرسالة الشبابية وتوظيفها بدل الاستخفاف بها، خشية أن يصير الانطباع العام لدى الناس أنّ الاستخفاف هو المخطط له وليس العكس، خصوصا إذا اقترن هذا الاستهزاء بحملات إعلاميّة مركّزة. يؤكّد الجامعي عبد الوهاب حفيّظ.
اقرأ أيضا: حملات النظافة في تونس.. فعل ثقافي بغطاء اجتماعي (1 من 2)