أفكَار

الفنان والسياسة بتونس.. جدل صناعة القيمة والتوظيف الانتخابي

جدل في تونس بسبب لقاء جمع زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي مع مجموعة من الفنانين  (عربي21)
جدل في تونس بسبب لقاء جمع زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي مع مجموعة من الفنانين (عربي21)

أثار لقاء زعيم حركة "النهضة" راشد الغنوشي مع صحبة من المكتب الثقافي للحركة بمجموعة من الفنانين والفنانات أثناء مسامرة ليلية خاصّة بضواحي العاصمة، الأسبوع الماضي قبيل موعد الانتخابات التشريعيّة، الكثير من اللغط الإعلامي الذي رأى في المسامرة توظيفا انتخابيّا سمجا لشعبية ومشاغل شريحة واسعة من الفنّانين.

 


 
ولئن بادرت بعض الفنانات الحاضرات إلى التوضيح بأنّ اللقاء لم يكن سوى تلبية دعوة ضيافة لإمرأة أعمال صديقة، وكانت مناسبة لهن للتعريف بمشاغل القطاع الفني لدى مكوّن سياسي حاكم، فإنّ الحبر الذي سال يدفع للتساؤل مجددا عن مدار الفجوة التي تفصل بين الفنّان والسياسي في تونس والبحث عن مربّعات الالتقاء المسترابة بينهما، التي تجعل من لقاء ثلّة فنّانين بقيادة حزب سياسي تتحوّل إلى مادّة دسمة للتخمينات والاتهام بالتوظيف السياسي. 

أبان ادوارد سعيد أنّ الفنّان أو المثقف الحقيقي هو ذاك الذي يستعصي على الحكومات استقطابه وأنه ذاك الذي "لا يتسلَّق جبلاً ولا يعتلي منبرًا حتى يعلن ما لديه من الأعالي" باعتباره المرتحل دوما جهة الدّائم، عكس السياسي الذي يخاطب الآني والعارض بخطاب متلوّن، بيد أنّ هذا المذهب الذي نحته سعيد قد يغفل جبلا من التحديّات الحقيقية التي يكابدها الفنّان، خصوصا في تونس الانتقاليّة، التي يضطرب فيها المفكّر ويصطدم في منعرجاتها السياسي ويتوق فيها الفنّان إلى غد أرحب بعيدا عن سطوة اليومي العابر.

وبعيدا عن قوالب الأنماط الثابتة والتعميمات الاختزالية، التي تشيعها بعض المنابر أو الأقلام الإعلاميّة، يكون من اللزوم البحث في مكبّلات التواصل بين الفنان في تونس ومحيطه السياسي، والتساؤل عن أدوار الفنّان المغيّبة التي يحتاجها مجتمع بات في أشد الحاجة لجسر الهوة بين مثقفيه وسياسييه ومفكريه.

غياب قانون إطاري يحمي حقوق الفنان

يبسط مقداد السهيلي، الكاتب العام للنقابة التونسيّة للقطاع الموسيقي، في تصريح لـ "عربي21"، مشاكل القطاع الفنّي في تونس في جملة من المشاغل أهمّها غياب قانون إطاري منظّم لعمل الفنانين، بعد أن حالت جملة من العراقيل دون مصادقة مجلس النواب المنصرم على مشروع "قانون الفنان والمهن الفنيّة"، المقترح من قبل وزارة الشؤون الثقافية.

 



ويحمّل السهيلي الحكومات المتعاقبة منذ الثورة مسؤوليّة إفشال المصادقة على القانون الإطاري، متهما إياها ومعظم الطيف السياسي، بافتقادهم للإرادة والمبادرة السياسيّتين الكافيتين لحلحلة الوضع المتردّي الذي تعيشه أكثر من 645 شركة إنتاج فنّي.

ويعتبر السهيلي أن كبرى المعضلات التي تؤرق الفنان في تونس تتمثّل في مواصلة الانتهاك الحاصل على مستوى حقوق الملكية الفكرية والموسيقيّة، مضيفا أنّه من المعيب على دولة القانون والمؤسسات أن يواصل موزّعو خدمات الهاتف الجوّال والسيارات والمؤسسات السمعية البصرية والطائرات والمطارات والمقاهي ودور السينما، استغلال المصنفات الفنّية بدون وجه حق، معتبرا أن احترام هذه الحقوق الموسيقيّة كفيل بإخراج الفنّان من حالة الضيق والعوز الماديين الذين يدفعان الفنانين إلى ملاقاة السياسيين وأساسا من هم في ركاب السلطة على أمل تفعيل القوانين حماية لمكتسبات الفنان الماديّة والأدبيّة.

من ذات السياق، يعتبر مقداد السهيلي، الشّاغل لخطّة كاتب عام نقابة موسيقية تضمّ حوالي 4500 منخرط، أن تدهور الوضع المهني للفنان وتهافت الدّخلاء على المهنة الموسيقيّة ألقيا بضلالهما على مستوى اليوم الوطني للثقافة، المحتفى به أوّل تشرين أول (أكتوبر) الجاري بعد انقطاع دام 8 سنوات، والذي تمّ خلاله تكريم عديد الإداريين بدل تكريم المبدعين، يؤكد السهيلي.

 



ويلفت بلغيث عون، أستاذ فلسفة مساعد بالجامعة التونسية، النظر إلى أنّ تواصل عوز الفنّان المادّي وغياب مشرّع إطاري يحمي حقوقه الأدبية من شأنه أن يمسّ من استقلاليّة المنتج الإبداعي المنشود، وعليه فإنّ معراج الفنان إلى ضفّة إنتاج المعنى والرؤية يبقى حبيس تحقق المنجز الأدنى من بنية تحتيّة ثقافية واستقرار مادّي يحفظ الفنّان من لوبينغ المال والسياسة، يضيف بلغيث عون..

علاقة السياسي بالفنان

يرى الشاذلي دمق، مدير مركز الموسيقى العربية ورئيس فرقة أوتار النخبة، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ الحديث عن علاقة الفنان بالسياسي هو حديث عن علاقة الديمومي المستمر بما هو ظرفي ومرحلي، معتبرا أنّ سيرة المتنبي مع كل من سيف الدولة والاخشيدي هي خير ترجمان لهذه العلاقة المتوترة بين الطرفين.

 



وقال: "إنّ جواب أبي نواس على سؤال هارون الرشيد حين سؤاله "من أسعد النّاس يا أبا نواس؟" بأن "السعيد من لم يعرف السلطان ولم يعرفه"، هو خير دليل على صراع القيمة، التي يمثلها الفنان، مقابل الغنيمة، التي يتمثلها السياسي أو صاحب السلطان، وبذلك لا تكاد تخل العلاقة بينهما في الغالب من أمرين إثنين: التوظيف والكوم (communication) من جهة السياسي والزّلف من مغانم السلطة وبهرجها من ناحية الفنّان إذا لم يكن هذا الأخير حاملا لهمّ التغيير القيمي والمجتمعي، لكن يبقى الفنّان، وإن جارت عليه مكائد الحياة والعوز المادّي هو النجم الذي يهتدي به التونسي إذا رام التغيير البنّاء".

ويشترك البحري العرفاوي، الشاعر والكاتب التونسي، في تصريح لـ "عربي21"، مع دمّق في نفس ذات الفكرة، من خلال تأكيده على فقدان المشهد السياسي في تونس، بعد تسع سنوات من الثورة، لمعايير ومقوّمات العمل السياسي القويم، الشيء الذي ساهم في "طمس العلامات التي يمكن الاهتداء بها، فمعظم الطبقة السياسيّة واقعة تحت كوابيس الزمن السياسي ونوازع التحكم والسلطة والناس متوجسون فعلا، وهنا تكمن الحاجة الماسة للفنّان"، يضيف العرفاوي.

المربّعات المشتركة بين الفنان والسياسي

يعتبر البحري العرفاوي، أنّ السياسي يحتاج، وهو في غمرة "اليومي" و"الآني"، إلى قوة نقدية عاقلة مسؤولة وشجاعة وصادقة تدلّه على مكامن الخطإ والخطر وتكشف له المسالك الأقوم، فالمثقف وفق وصفه "ممثّل للمعنى والمتمثّل للمواطنة والوطنية بل وللإنسان"، وبالتالي عليه الترفّع عن سفاسف معارك اليومي ومطلوب منه حصر جهده في معارك الانتصار للمصلحة الوطنية وللمستقبل الذي يتمثّله في ذهنه وفي روحه، وبإمكانه أن يكون مُعدِّلا لأدوات المعركة تلك والملطّف لانفعالاتها والدالّ إلى مواطن الالتقاء وحظوظ التوافق من أجل الوطن ومصلحة الناس، يضيف البحري العرفاوي.

 

 



هذا التمثل للمعنى يستحضره بلغيث عون، من خلال التأكيد على أنّ الفنان ثالث ثلاثة: المفكر والسياسي والفنان، المفكر يشتغل بالعقل، ويشتغل السياسي بالممارسة الحسية بينما يشتغل الفنان بالخيال، ولذلك فإنّه رغم كون الفنان، منذ أفلاطون حتى هيغل، لا يزال يقع تحت حكم العقل والفكرة، بحكم الخيال أدنى مرتبة من العقل عند الفلاسفة، فإنّ "قوة الفن تتأتّي من كون الخيال أكثر اشتغالا عند عوام الناس من الفكرة، وعليه فإنّ مراهنة السياسي على الفنان وراءها عاملان أساسيان: التأثير الكبير للخيال على الناس، وأساسا صعوبة ترويض الفنّان الحامل لجراب المعنى والقيمة".

في نفس إطار الفكرة، يؤكّد بلغيث عون على أنّ الفنان حينما يشتغل كمفكر وكصاحب قضية فإنه يتحول إلى حالة مقلقة للسياسي حتى أكثر من المفكر ومن السياسيين، لكون الفن شديد التأثير في مربّعات الفراغ، وخير مثال على ذلك، هذه الأيام، حالة الفنّان لطفي العبدلي المقلقة جدا للسيستام، وما أبانه من إحراج فنّي كبير لمحاوريه مما لا يستطيعه سياسي أو مفكر.

الفنّان صالح حميدات، في تصريح لـ "عربي21"، يرى أن تعريف ليون قومباتّا ( Léon Gambetta ) للسياسة بكونها: "فن الممكن"، دليل على موضوعية العلاقة بين الفن والسياسة، مضيفا بالقول أنّه كما أنّ توفّق الفنّان في إدراك ملكة الإبداع داخل مجاله الثقافي يحيله مبدعا، فإنّ التفوّق يكون مضاعفا في السياق السياسي لو ينجح في ربط علاقة مستقلة عن دوائر النفوذ، منبّها إلى أنّ الفجوة بين السياسي والفنان من شأنها أن تفسح المجال للعب الأدوار المتناقضة التي ستؤدّي حتما للقطيعة بين الفني والسياسي.

 

 

في نفس ذات السياق يؤكّد صالح حميدات على أن الفنّان ليس خصما للسياسيين بقدر ماهو يمثل الضمير الغائبة، الفنان هو الخصم اللدود لرداءة الصورة والمنهج والفكرة، يصارع بها الأثر السيء الذي يخلفه التعامل السياسي الحيني للأحداث. ولذلك فإن مربّعات العمل بين الصحفي والسياسي تتسع بقدر ما يكون الفنان وفيّا لفلسفة التأسيس الفنّي، الفنان التوّاق للإبداع ظهير دائم للسياسي الوطني في عثراته وانحناءاته

الفنان وحرب القيمة

يتفق الفنان المسرحي بن يغلان مع ما ذهب إليه مقداد السهيلي، كاتب عام النقابة التونسية للقطاع الموسيقي، في تحميل مسؤوليّة تدنّي الإنتاج الفنّي إلى تسابق معظم وسائل الإعلام السمعية والبصريّة نحو نشر وتسويق مضامين فنيّة لا تستجيب للحد الأدنى من المعايير الفنيّة والأخلاقية، لأجل هذا يعتبر بن يغلان أنّ تدهور منظومة القيمة والذوق العام نتاج طبيعي لاحتكار لوبيات الإعلام والمال الفاسدين لمجمل العملية الإنتاجيّة الفنيّة وكذا مداراتها التسويقيّة، هذا الإحتكار هو من شجّع على الرداءة وحوّل المهرجانات الثقافيّة إلى مجرّد سهرات تفتقد للمشروع الفني، الحامل لهموم شعب يتوق للتحرر واستكمال الثورة، كما أنّ افتقاد الفضاءات الثقافية للمعدّات التقنية اللازمة، وضعف البنية الثقافية التّحتيّة بصفة عامّة في تونس الأعماق هو الذي يحول دون تمكّن التونسي من فرصة مواكبة البرمجة الثقافية والمنتج الابداعي بصفة عامّة يضيف بن يغلان. 

معادلة شرف المعنى وجمالية الصياغة 

أبان عمّار الجماعي، شاعر وروائي، أنّ دور الفنّان الأهمّ هو معارضة السّائد، مضيفا أن الفنّ بما هو روح إبداعيّة خلق ليكون ضديد السلطة والواقع، مشيرا إلى كون التأمّل في مؤلفات الموسيقى ودواوين الشعر والرسوم والمسرح والرواية، يكشف على الحضور اليانع لبذرة التغيير، وأنه "من عظمة الشعوب أنّها لا تُبقي في ذاكرتها إلاّ تلك الآثار الفنية التي تستشرف لحظة قادمة وتدعو لها !".

 



في ذات السياق، يفصح الجماعي على ضرورة الإقرار بعدم توفّق ما بات يسمّى بالفن البديل في تحقيق الذوق الفني وإن كان قد أصاب الفكرة، بمعنى عدم تحقق شروط المعادلة الصعبة بين شرف المعنى وجماليّة صياغته، مدلّلا على ذلك بأنّ الالتفاتة الورائية لتاريخ الفنّ في القرن السابق وبدايات قرن الثورات، تكشف لنا أنّ السائد ظلّ هو المحدد لأذواق النّاس ولم تنشأ بعد القطيعة المطلوبة لفنّ آخر يمكنه أن يكون متجاوزا.
 
الفنّان وأدوار المراحل الانتقاليّة

يؤكد رؤوف بن يغلان على دور الفنان، باعتباره حاملا لطرح قيمي، في جسر التواصل بين جمهوره والأصوات التي لا تُسمع، وبين السياسي صاحب السلطة، وعليه لا يجب أن يقتصر دوره على حضوره الرّكحي أو عرض مادّته الفنية، مضيفا أن تجربته لخمسين سنة من النشاط الفني المسرحي أوصلته لهذه القناعة، مذكّرا بتجربته الشخصيّة منذ الصائفة، حيث قام بجولات بضواحي العاصمة في كل من المحمديّة وفوشانة ودوّار هيشر وكذلك داخل البلاد، رافعا لشعار: "تعالوا نعمّر المقاهي والشوارع بالفنّ والثقافة"، ومنشّطا لورشات ومقاه ثقافيّة تناولت بالنقاش كبرى قضايا الرأي العام، وذلك على هامش أعماله الرّكحيّة. فالفنان لا يجب أن يتقوقع داخل فضاء الرّكح المسرحي إذا رام التغيير المجتمعي، خاصّة في مرحلة انتقاليّة هشّة كالتي تعيشها تونس، يضيف بن يغلان.

 



بدوره، يرى بحري العرفاوي، الكاتب والشاعر، أنّ المهمّة الرئيسية للفنان في مرحلة الانتقال الديمقراطي وفي مسار التجريب الثوري هي المهمة النقدية تجاه الواقع وتجاه أداء السياسيين على اختلافهم، لكون الفن أرحبَ من السياسة ولكون المثقف ـ الفنان يشتغل على المعاني والقيم وعلى الأشواق الدافقة، وهو الدافع باستمرار نحو مستقبل دائم أرقى وأنقى، مؤكّدا أنه "إذا كانت السياسة هي فن التعامل مع الممكن فإن الإبداع هو فن الدفع نحو المستقبل".

في ذات السياق، أشار العرفاوي إلى كون الفنانين هم "أنبياءُ عصرهم ورُسل الحرية والجماليات والقيم، وهم ورثة الأنبياءِ يرثون عنهم وظائفهم التبشيرية التنويرية الخلاصية، وحين يتخلّون عن دورهم الرّسالي فلن يكون ثمة فرق بينهم وبين العوام في سلبيتهم وفي خضوعهم للأهواء والأمزجة والمصالح الشخصية".

في نفس المنحى، أشار البحري العرفاوي إلى أنّ "السياسة عند محترفيها هي فنون المغالبة والمحاصصة وتعبير عن نوازع "التحكم" وأما عند المثقف فهي أرقى "الفنون" بما هي فعل إبداعي في واقع اجتماعي معقد متحرّك ومتنوع وبما هي مرافقة واعية متبصرة مسؤولة للتجارب الديمقراطية والأشواق الثورية". 

بقدر الإقرار بالصعوبات الجمّة التي يعانيها القطاع الفني في تونس، بعضها متراكم من سنوات الدكتاتورية والبعض الآخر نتاج مستجد لسطوة لوبيات المال والإعلام، فإن دور الفنّان في تونس بات متعاظما من أجل جسر الهوة بين جمهوره وطيف السياسين حكّاما ومعارضة على أمل غرس القيمة في مجتمع هو في أمسّ الحاجة إليها.

التعليقات (0)