هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يحدث أن يتجاوز الفن دائرة التأثير الفكري الذي يصنعه المثقفون والمبدعون على وعي الشعوب، لكن أن يصبح هذا الفن شيئا أقرب إلى تأثير الهيروين على الدماغ، فالأمر يحتاج إلى وقفة عميقة لكي نفهم من اي طينة خرجت "فاكهة الشيطان" المسمومة، التي بات ملايين الشباب المغاربي عموما والجزائري خصوصا يعشقونها بهذا الشكل الرهيب.
الفنان الجزائري العالمي عبد الرؤوف دراجي، المعروف باسم "سولكينغ" لم يخرج لنا فنا من فاكهة الشيطان وحسب، وقد توشحت بأغاني الريغي والراب والهيب هوب، ودغدغة المشاعر إلى درجة الهذيان، بل وصل به الأمر إلى حد اقتلاع الروح من الجسد، حين تحول إلى آلة قتل فنية، تسقط في سبيل حضور حفلاته المجنونة أرواح الشباب كأنها قرابين على مذبح النشوة، ويكون بذلك حالة فنية فريدة من نوعها، أو يندر إيجاد نظير لها على وجه الأرض.
ما حدث في حفل الـ 23 من آب (أغسطس) الماضي بالجزائر العاصمة، ترك آثاره العميقة على النفوس، فقد سقط أعداد من القتلى والجرحى في تدافع لعشرات الآلاف من الشباب من أجل الدخول إلى حفل هذا الفنان الظاهرة، حتى إن الضحايا الذين سقطوا هناك في دقائق معدودات، لم يسقطوا في حراك شعب كامل ظل يخرج في مليونيات الحرية والخلاص من الدكتاتورية طوال أشهر طويلة.
من أحياء الجزائر الفقيرة إلى العالمية
على إيقاع موسيقى السولكينغ ذات الفلسفة الخاصة، تتراقص اليوم أوروبا ومعها كامل شمال أفريقيا على أنغام هذا الفتى الجزائري، الذي هاجر موطنه الأصلي الجزائر ومدينته الوادعة بـ "سطاوالي" غرب العاصمة، "حراقا" بطريقة غير شرعية إلى فرنسا وتحديدا إلى مارسليا، بعد أن ضاقت به السبل وتقطعت، أين عاش في بداية هجرته متشردا يغسل الصحون والسيارات لقاء سد جوع بطنه، قبل أن يصنع لنفسه اسما يتجاوز حدود الجزائر أو العالم العربي وحده، ويحجز مكانة بين كبار العالم، متجاوزا شهرة مواطنيه العالميين الشاب خالد ومامي، بل وشهرة المصرية الإيطالية داليدا، بأسلوبه المبدع الذي استوحاه من الفيلم الكارتوني المعروف "وان بيس"، وهو يعجن خليطا غير متجانس في أغنياته بين اللغة العربية (الدارجة الجزائرية) والفرنسية والإنجليزية والإسبانية، وتحفها نوتات الشرق العريق ولمسة غربية منتقاة وصوت من أعماق الصحراء.
لذلك أصبح اسم سولكينغ (عبد الرؤوف دراجي) يشغل الإعلام الفرنسي بكل أنواعه في الآونة الأخيرة، بعد أن تحولت ألبوماته الغنائية التي شرع في إخراجها منذ العام 2009 إلى قنابل موسمية، يتهافت عليها عشرات الملايين من مختلف بقاع العالم، إلى درجة أنها تصدرت المبيعات والترند العالمي في عدد كبير من الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا وبلجيكا.
وبنظرة بسيطة عن منجزاته الفنية، يقف المراقب محتارا في هذا الصعود الجنوني لشاب جاء من الضواحي الفقيرة بالعاصمة الجزائرية، ليخطف نجومية لم تخلق لأمثاله، فلقد حطم ألبومه "فاكهة الشيطان" كل التوقعات وتصدر الترند العالمي، كما تخطت أغنيته "غريبا" التي تتحدث عن معاناة المهاجرين العرب من العنصرية في فرنسا، عتبة 163 مليون مشاهدة على اليوتوب في ظرف شهرين من صدورها، كما سجلت أغنيته "داليدا" مرتبة متقدمة بين الأغاني العشرة الأكثر استماعا في العالم، وتمكنت أغنيته "أديوس" أن تحقق بدورها 50 مليون مشاهدة على اليوتوب في ظرف شهر واحد، أما أغنية الحراك التي تحولت إلى النشيد الرسمي للحراك الجزائري (الحرية)، فتجاوزت في شهرها الأول سقف 66 مليون مشاهدة، وبسببها طار اسم هذا الفنان في الآفاق الجزائرية في المدة الأخيرة، حتى تحول إلى حديث الصحافة والسياسة ومحط أنظار الرأي العام كله.
مدهش حد الموت
كانت العودة الأولى لسولكينغ إلى الجزائر في شهر آب (أغسطس) الماضي، منذ أن هاجر قبل سنوات طويلة، عودة برائحة الموت، فقد رافقت تلك العودة التي جاءت في ظل حراك شعبي منقطع النظير من أجل إقرار الحريات والديمقراطية في الجزائر، حملة إشهار واسعة وتحشيد جماهيري كبير، الأمر الذي أدى إلى توافد أعداد مهولة من الشباب المتعطش لهذا النوع من الفن من مختلف ولايات الجمهورية إلى نقاط بيع التذاكر، التي تضاعفت أسعارها عشر مرات، ودخلت لعبة السوق السوداء والمعارف الخاصة من أجل الحصول على تذكرة "إلى الجنة".
ورغم التحشيد الأمني الكبير الذي تجاوز تخصيص ألفي عنصر من الشرطة، لتأمين حفل ضخم وسط ملعب لكرة القدم بالعاصمة الجزائرية، إلا أن عدد الحضور الذي وصل إلى حوالي 50 ألف متفرج، متجاوزا عدد التذاكر المخصصة لخلط الأوراق، فحدث ضغط كبير على مداخل الملعب تحول بعدها إلى تدافع مميت، كانت نتيجته المأساوية سقوط 5 قتلى، وعشرات الجرحى وحالة من الصدمة الشديدة في طول البلاد وعرضها.
لقد كانت حفلة فنية برائحة الموت، هذا الموت الذي استحى أن يدخل إلى بيوت الجزائريين وسط حراك شعبي وصل إلى إخراج أكثر من 20 مليون جزائري في يوم واحد، دون أن يسقط فيه قتيل واحد، الأمر الذي أدى إلى حملة إقالات واسعة، مست المدير العام للأمن الوطني الجزائري، ومدير مؤسسة "لوندا"، كما أدى الضغط الشعبي إلى استقالة وزيرة الثقافة مريم مرداسي.
فنان الحراك .. أم مزمار الشيطان؟
ينقسم الجزائريون بشدة في جدلية الموقف من هذا "السولكينغ"، حيث يرى عشاقه والمغرمون به، وهم بالملايين من الشباب، أنه شاب طموح بعيد كل البعد عن دائرة السفاهة التي يقدمه بها خصومه، فقد تغلغل في الضمير الجمعي للجزائريين بعد أن أسقط عنه صورة الفنان الشيطان، بأغنيته التي تحولت إلى نشيد رسمي للحراك la liberté (الحرية)، التي يرددها الملايين في الشوارع وتغنوا بها، كما لم يتغنوا من قبل بأي منتوج فني راق، لكبار الشعراء الجزائريين.
كما أن هذا الفنان، لم يواكب ثورة شعبه فقط، وأثبت أنه من صلب هذا الشعب الأبي وحسب، وإنما عبر أيضا بصدق عن معاناة الشباب المسحوق داخل الجزائر أو في الغربة، فكان صوت هؤلاء الملايين من المهمشين اجتماعيا، الحالمين بالهروب إلى ضفاف أخرى، تحتضن طموحات الشباب التواق إلى إثبات الذات.
لكن في المقابل، يقول معارضوه وهم في الغالب من الطبقة المثقفة والفئات العمرية التي تجاوزت الأربعينات، أن سولكينغ soolking تعني في ترجمتها (ملك الخداع)، بدليل أنه في أغنية "ليبرتي" الحراكية، لم يتوان عن ذكر زعيم الأمازيغ الحاقد على العروبة والإسلام معطوب الوناس، وأنه بذلك أظهر حقيقته التي لا يمكن إنكارها من أن هذا الفنان، هو صوت الشيطان في الأرض، ومزماره الذي يغري به السذج الذين لا يفرقون بين الجزائر العربية والجزائر الملحقة بفرنسا الاستعمارية.
ويتهم هؤلاء من يسمونه بمحبوب المراهقين والتافهين "سولكينغ" بالماسونية، بدليل حركاته على الركح، وإشاراته التي يقوم بها دائما أمام الجماهير هي إشارة الشيطان المعروفة لدى الماسونيين، كما أن أسلوبه في الغناء هو أسلوب معروف لدى مغنيي "عبدة الشيطان" Satanist singer، علما أنه سبق ووصف نفسه بالشيطان الرائع في عدة مقاطع je suis un démon manifique حتى إن ألبومه الأكثر شهرة "فاكهة الشيطان" Fruit de démon، هي قصة مستوحاة من أساطير عبدة الشيطان التي تتحدث عن فاكهة تثمر مرة واحدة في مائة سنة، وأكلها يعطي قوة خارقة.
كيف وصل إلى العالمية؟
يرى الإعلامي الجزائري المتخصص في القضايا الفنية رابح علاوة، أن ظاهرة "سولكينغ" هي ظاهرة أفرزتها ظروفه الاجتماعية بعد هجرته غير الشرعية لفرنسا، وقد نجح لأنه نقل واقعه وفقره وانكساراته وأحلامه من خلال أغانيه، وهو عكس الجيل السابق من مطربي الراب كلطفي وحامة بويز وغيرهما، يمتاز بخطاب ليس فيه عنف وكلماته بسيطة، كما أن له طريقة خاصة في الأداء تجعله مميزا جدا.. مشيرا إلى أن هذه الطريقة التي برز بها سولكينغ جعلته قريبا من شريحة كبيرة من الشباب الذين رأوا فيه رمز الشاب العصامي، الذي لا يخجل من ماضيه ويقدمه بكل عنفوان من خلال أغانيه، حيث يتجلى كل هذا من خلال أغنيته الشهيرة (بارولي بارولي).
ويرى رابح علاوة في حديثه لـ "عربي21"، أن عالمية سولكينغ تختلف عن عالمية "مامي" و"خالد" لأن لكل فنان طابع يغنيه وخطاب يتبناه، الشاب خالد والشاب مامي كانا نتاج مرحلة أفرزتها مرحلة حساسة مر بها الوطن سنوات الدم والدموع وانتشار الإرهاب، وأتت على الأخضر واليابس فنيا وثقافيا، فكان الشباب يفر من خلال أغانيهما بحثا عن الترويح والهروب من واقع مر. في حين يشكل سولكينغ، حقبة أخرى ونوعا آخر من الغناء، وإن كانت نقطة التقاطع بين الفنانين الثلاث هي الحاجة، الصعود من القاع، نقل واقع شبابي كل على طريقته.
إن عالمية سولكينغ بحسب رابح علاوة، تتجلى أيضا في غنائه بلغة يفهمها الشارع الأوروبي، فبنسبة 80 بالمائة، يغني سولكينغ بلغة فرنسية مكسرة يتحدث بها المارسيليون، كما أن الجهة التي تقف وراءه هي شركات عالمية تبنت خطه والهدف تجاري محض.
سر تعلق ملايين الشباب به؟
يُرجع الإعلامي المتخصص بالشأن الثقافي محمد علال، نجاح سولكينغ إلى عدة عوامل، أولا حكايته مع الهجرة والكلمات التي يقدمها في أغانيه ما جعل من الشباب يتعلقون به ويرون فيه أنفسهم خاصة من هم دون سن 25 سنة، حيث يمثل لهم سولكينغ الوجه الآخر للجزائري الذي ينجح ويحقق المستحيل.
لقد تعلق الملايين من الشباب بسولكينغ لهذه الأسباب وأحبوه لأنهم وجدوا فيه أنفسهم، فهو يشبههم في الملامح، وهو ليس ذلك الفنان الباهر في وسامته والمفتول العضلات، بل هو شاب عادي جدا في ملامح وجهه وهذا الأمر جعله قريبا من قلوب الشباب والمراهقين تحديدا، أما من الناحية الفنية فإن خامة صوته المتميزة وأسلوبه في التعبير بطريقة فريدة من نوعها، تسمح له بأداء مجموعة من الأغاني التي يصعب أداؤها.
ويعتد محمد علال في حديثه لـ "عربي21" أنه من الصعوبة القول بأن سولكينغ هو خليفة الشاب خالد، فالظروف التي ساعدت في نجاح خالد ومامي تختلف تماما عن ظروف ظهور سولكينغ، وواقع الفن العالمي تغير كثيرا، اليوم لم يعد من السهل الحديث عن النجوم الكبار خاصة في العالم العربي، فزمن أم كلثوم لن يعود ولا زمن أزنفور، لأن فكرة الانتشار اليوم مختلفة بسبب سهولة الغناء واختفاء الطرق التقليدية للترويج، وشهرة سولكينغ مرتبطة الآن بالأنترنت والفيسبوك واليوتوب بدرجة أساسية، وسيحتاج سولكينغ إلى جهود كبيرة كي يحجز لنفسه مكانة خليفة الشاب خالد ليس لأسباب فنية، وإنما لتلك الأسباب التي تتعلق بالفترة الزمانية التي ظهر فيها سولكينغ، حتى وإن كان يحظى بدعم من شركات إنتاج سمعية بصرية كبيرة في فرنسا.
أوطاننا .. زنازين العبقرية
بالنهاية، سولكينغ ليس مجرد ظاهرة، إنه تناقضات الحالة العربية بكل تعقيداتها، حين يتراجع الفكر في مواجهة الرقص، وحين يتحول الوطن إلى زنزانة للعبقرية لا تتفجر إلا في الهجرة إلى الضفة الأخرى، وحين يغني للثورة جهابذة الموت، وحين يتماهى الإنسان الطيب مع الشياطين.
في خضم الحراك الجزائري، أحيا صوت سولكينغ الأمل في الحرية، عبر التأسيس للموت، فالشباب المنبهر بهذا الصوت الذي يخرج من شجرة تؤتي فاكهة للشياطين، يعيش عالما آخر لا يعرفه الناس العاديون، يعيش حلم الهجرة إلى جنة أوروبا وفي الوقت نفسه لا يتخلى عن الاعتزاز بوطنه الكسيح، يحلم فقط بسكن وعمل وزوجة، بينما هو جيل يمكنه صنع المعجزات، لو أتيحت له الفرصة التي توفرها الغربة والاغتراب. هناك يصبح كل شيء ممكنا حتى يعود المشرد، بعد غياب طويل، بينما يتقاطر من حوله المريدون بعشرات الآلاف، إلى درجة يتحولون فيها إلى قرابين من أجل رؤية وسماع شخص يتحرك، يجسد رغبتهم الجامحة في النجاح.