شهدت الأيام والأسابيع
الماضية من شهر حزيران/ يونيو المنصرم تطورات مهمة جدا فيما يتعلق بالمعركة السياسية
القضائية بساحات القضاء الدولية، لمحاسبة إسرائيل على جرائمها في
غزة وفلسطين بشكل
عام.
بدا الأمر مع إصدار
93 دولة بيان تأييد للمحكمة
الجنائية الدولية، ودعم للمدعي العام كريم خان وتحقيقاته
في الجرائم الإسرائيلية في غزة -جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية-، بما في ذلك بحث إصدار
مذكرات اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين
نتنياهو ووزير دفاعه يوآف
غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وأخرى ضد الإنسانية بحق المواطنين الفلسطينيين
بغزة.
بين الدول الـ93 الموقعة
على البيان، حضرت قوى أوروبية وعالمية مركزية ومهمة، مثل: فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا
وكندا وأستراليا، التي كانت قد أبدت استعدادها دوما للتعاون مع المحكمة ودعم تحقيقاتها
وقراراتها، بما في ذلك تنفيذ مذكرات اعتقال محتملة ضد نتنياهو وغالانت.
بعد ذلك، دخلت
بريطانيا على الخط ضمن نظام صديق أو أصدقاء المحكمة، ولكن بشكل سلبي، وطلبت وقف التحقيقات
والنظر بمذكرات الاعتقال بحق المسؤولين الإسرائيليين، بادعاء عدم أحقية المحكمة في التحقيق
واعتقال ومحاكمة المسؤولين والمواطنين الإسرائيليي، كون اتفاق أوسلو نفسه (1993) الذي
ينظم العلاقات بين الجانبين -للأسف لا يزال معمولا به حتى الآن-، لا يعطي هذا الحق (الاعتقال
والمحاكمة) للسلطة، ومن ثم وبالتبعية لا يعطيها للدولة الفلسطينية -غير كاملة
العضوية بالأمم المتحدة-، حتى بعد توقيعها على نظام روما الأساسي والانضمام رسميا
للمحكمة قبل 10 أعوام تقريبا.
لا بد من التذكير كذلك بإعلان حماس مبكرا جدا استعدادها وانفتاحها على التعاطي الإيجابي مع المحكمة وتحقيقاتها منذ الأيام الأولى للحرب، والإشارة إلى أن عملية طوفان الأقصى المستندة إلى قاعدة الحق الأصيل للشعب الفلسطيني بالمقاومة، استهدفت أساسا القواعد العسكرية للاحتلال التي تحاصر قطاع غزة.
قبلت الجنائية
شكلا التدخل البريطاني أواخر حزيران/ يونيو، مع إعطاء لندن مهلة حتى 12 تموز/ يوليو
القادم لتقديم حججها ودفوعاتها القانونية، مع انفتاح المحكمة على تلقي تدخلات مماثلة
من دول أخرى، الأمر الذي يحتّم من جهة أخرى على حلفاء وأصدقاء وداعمي الرواية والقضية
الفلسطينية العادلة، القيام بالتدخل الإيجابي والفعال كذلك.
في السياق نفسه،
تم الإعلان عن تواصل وزارة الخارجية الإسرائيلية مع 25 دولة أجنبية تتمتع بعلاقة
جيدة معها، معظمها غربية وأمريكية، لتشجيعها على القيام بشيء مماثل، والتدخل لدى
المحكمة على الطريقة البريطانية، ولو من أجل المماطلة بالحد الأدنى، وعرقلة إجراءات
المحكمة والتشكيك فيها، لتأخير صدور مذكرات الاعتقال لأطول فترة زمنية ممكنة، في
حال الفشل في إلغائها ومنعها تماما.
ناقشت إسرائيل في
الفترة نفسها (أواخر حزيران/ يونيو) مشروع قانون عمل عليه حزب الليكود الحاكم
بزعامة بنيامين نتنياهو، ويتضمن المشروع اتخاذ إجراءات عقابية ضد المحكمة الجنائية، بما في ذلك إمكانية استخدام العنف والقوة للإفراج عن معتقلين إسرائيليين لديها. وهو
أمر (فرض العقوبات على الجنائية) كان أقدم عليه مجلس النواب الأمريكي، ولكن مع
عراقيل سياسية وقانونية، مع تنصل البيت الأبيض ووزارة الخارجية من توجهات ونوايا
المجلس الفظة وغير المعقولة أساسا.
هنا، لا بد من
التذكير بقيام تل أبيب بالتجسس على المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي ومسؤوليها
طوال سنوات، بل وتهديدهم وابتزازهم هم وعائلاتهم للتوقف عن ملاحقة الدولة العبرية
ومسؤوليها، ما دفع الحكومة -وزارة الخارجية- الهولندية منذ أيام أيضا إلى استدعاء السفير
الإسرائيلي لديها وتوبيخه على هذا الفعل.
لا بد من الإشارة
كذلك، إلى أن الإعلام العبري يتحدث عن رعب حقيقي يعيشه نتنياهو وأركان حكومته، وعقدهم
اجتماعات متتالية للمؤسسات المعنية (مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية) للنظر في
كيفية مواجهة مذكرات الاعتقال القادمة للجنائية والسيرورة القضائية الدولية برمتها
ضد الدولة العبرية، مع شعور سياسي وإعلامي وقانوني بخطورة الأمر، وتداعياته
السلبية الهائلة السياسية والأمنية والاقتصادية وحتى الاستراتيجية، تحديدا لجهة
التضييق على حركة المسؤولين حتى في الدول الغربية الحليفة، كما دفع الهواء في أشرعة
المقاطعة وعزلة الدولة العبرية في العالم.
الأيام والساعات
الأخيرة من حزيران/ يونيو، شهدت تطورا قضائيا مهما جدا، تمثل بانضمام إسبانيا -كأول
دولة مركزية في الاتحاد الأوروبي تفعل ذلك، وكانت قد سبقتها دول
لاتينية- إلى دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة
العدل الدولية، التي تتهم إسرائيل بارتكاب
جريمة إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في غزة، علما أن المحكمة مخولة بمحاكمة
ومساءلة الدول والكيانات، بينما تختص الجنائية بمحاكمة الأشخاص والمسؤولين بشكل
فردي على جرائم مماثلة.
في الأثناء، شهدنا
موقف لافت لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، تجاه حراك المحكمة الجنائية مع المقاربة
والقاعدة السياسية القائلة؛ إنه لا مساواة بين
الاحتلال والمقاومة وحقها المشروع
بالتصدي له بالوسائل المتاحة كافة، لكن مع عدم القطيعة التامة والنهائية مع المحكمة
نفسها، والاستعداد لإرسال مذكرة مهنية تتضمن مرافعات وحججا قانونية مهمة لتوضيح موقف
الحركة، مع الانتباه إلى أن جلب إسرائيل لساحات المحاكم الدولية كان مطلبا فلسطينيا
تاريخيا بامتياز، والمشهد برمته يصب بالتأكيد بمصلحة الرواية والقضية الفلسطينية
بشكل عام، لجهة خفر إسرائيل ووصمها وعزلها ومحاسبتها ومقاطعتها، واعتبار قرارات المحاكم
الدولية بمنزلة سلاح قوي وفعال في المعركة متعددة الجوانب والأبعاد أمام الرأي العام
العالمي، المنحاز والمتقبّل أصلا للمظلومية الفلسطينية وعدالة القضية، أمام هول وفظاعة
الجرائم الإسرائيلية.
لا بد من التذكير
كذلك بإعلان حماس مبكرا جدا استعدادها وانفتاحها على التعاطي الإيجابي مع المحكمة
وتحقيقاتها منذ الأيام الأولى للحرب، والإشارة إلى أن عملية طوفان الأقصى المستندة
إلى قاعدة الحق الأصيل للشعب الفلسطيني بالمقاومة، استهدفت أساسا القواعد العسكرية
للاحتلال التي تحاصر قطاع غزة، بينما حصلت تجاوزات وأخطاء ميدانية لم تكن بالمخطط
والحسبان.
ضرورة بل حتمية تشكيل قيادة فلسطينية موحدة -حكومة توافق وطني ومنظمة تحرير مختلفة متجددة شابة وديمقراطية-، لا تشرف فقط على رفع الحصار وإغاثة الناس، وإعادة الإعمار بغزة، وإنهاء الانقسام وتوحيدها مع الضفة الغربية، وإنما تخوض الصراع على الجبهات كافة، وتحديدا مواصلة الحراك السياسي القضائي المثمر والمجدي أمام ساحات المحاكم الدولية.
بالعموم، وبما لا
ينفصل أبدا عن الحراك السياسي القضائي، فقد انتهت الحرب العسكرية أو كادت كما عرفناها
بغزة خلال الشهور التسعة الماضية، مع إعلان الاحتلال رسميا قرب الانتقال إلى المرحلة
الثالثة من العدوان، حيث القتال أقل كثافة وبغارات محددة وتوغلات موضعية أيضا، مع
عدم اليقين من انتقالها إلى الشمال "الجبهة اللبنانية" التي ستتأثر
إيجابا بأي هدنة أو تهدئة على الجبهة الجنوبية بغزة.
لكن هذا لا يعني
حتما توقف الحرب على الجبهة القضائية ومعركة الرأي العام العالمي بشكل عام، وضرورة
مواصلة النضال لعزل إسرائيل ومحاسبتها على الجرائم الموصوفة بغزة وغير القابلة للإنكار، خاصة بوجود أصدقاء وحلفاء كثر لقضيتنا العادلة، وعدم التنازل أو المساومة على هدف عزل
إسرائيل، وإجبارها على التنازل والتراجع وصولا إلى نزع الشرعية عنها.
النقطة الأخيرة تعيدنا
أو تنقلنا كما العادة، إلى ضرورة بل حتمية تشكيل قيادة فلسطينية موحدة -حكومة توافق
وطني ومنظمة تحرير مختلفة متجددة شابة وديمقراطية-، لا تشرف فقط على رفع الحصار وإغاثة
الناس، وإعادة الإعمار بغزة، وإنهاء الانقسام وتوحيدها مع الضفة الغربية، وإنما تخوض
الصراع على الجبهات كافة، وتحديدا مواصلة الحراك السياسي القضائي المثمر والمجدي أمام
ساحات المحاكم الدولية.