كثف جيش
الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر آذار/ مارس الفائت من استهداف
مسؤولين بالشرطة المدنية وقادة ميدانيين بحركة حماس ورجال عشائر ومسؤولي لجان
شعبية معنيين باستقبال وتأمين وتوزيع المساعدات الإنسانية على المواطنين في شمال
قطاع
غزة.
يأتي استهداف قادة ومسؤولي الشرطة المدنية بحماس من رفح إلى غزة
وشمالها مروراً بالوسط ـ النصيرات تحديداً ـ في سياق ما تصفه إسرائيل بتفكيك
القدرات السلطوية والإدارية لحماس لمنعها من إعادة السيطرة أو حكم غزة مرة أخرى.
لكن في النصف الأخير من مارس، شهدنا خاصة في مدينة غزة والشمال
استهدافات لافتة لقادة حمساويين معنيين باستقبال وتأمين وتوزيع المساعدات
الإنسانية بالتنسيق مع المنظمات الدولية ـ أونروا وبرنامج الغذاء العالمي ـ
والتعاون مع زعماء عشائر ومسؤولي لجان شعبية محلية.
إلى ذلك شهدنا بالفترة نفسها استهداف دموي ومتعمد ومستمر للمواطنين
أثناء انتظارهم المساعدات بالشمال، خاصة قرب ميداني النابلسي والكويت، ما أدى إلى
استشهاد مئات وإصابة آلاف منهم في أرقام تعبر بالحقيقة عن طبيعة العدوان
الإسرائيلي ضد قطاع غزة والتعاطي مع ملف المساعدات الإنسانية بشكل خاص.
بداية ومنهجياً، يتعلق الأمر بجريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب
الفلسطيني، وسعي الاحتلال المتعمد لإيقاع نكبة جديدة أسماها وزير الزراعة قائد
الشاباك السابق الجنرال أفي ديختر نكبة 2023، في زلة لسان فاضحة تعرّض على أثرها
للتوبيخ من قبل رئيس الوزراء بنيامين نتن ياهو، علماً أن النكبة لا تندرج ضمن
الأهداف المعلنة للحرب الإسرائيلية المتمثلة بتفكيك القدرات العسكرية والسلطوية
لحماس، ومنع غزة من تهديد الدولة العبرية، وبالطبع عدم الإعلان عنها مقصود كونها
تمثل اعتراف وإقرار رسمي بارتكاب جريمة إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في غزة.
استهداف مسؤولي استقبال وتأمين وتوزيع المساعدات الإنسانية ومنتظريها
يأتي كذلك في سياق جعل غزة نفسها غير قابلة للحياة، وهو أيضاً أحد أهداف
الحرب
الإسرائيلية غير المعلنة كونه يمثل أيضاً إقرار رسمي بجريمة الإبادة الجماعية
والمتعمدة ضد الشعب الفلسطيني.
ومن هذه الزاوية لا شك أننا أمام استخدام متعمد لسلاح الجوع ضد
الفلسطينيين، وهو يمثل جريمة حرب موصوفة كما تقول الأمم المتحدة والمنظمات المعنية
بحقوق الإنسان.
استهداف مسؤولي استقبال وتأمين وتوزيع المساعدات الإنسانية ومنتظريها يأتي كذلك في سياق جعل غزة نفسها غير قابلة للحياة، وهو أيضاً أحد أهداف الحرب الإسرائيلية غير المعلنة كونه يمثل أيضاً إقرار رسمي بجريمة الإبادة الجماعية والمتعمدة ضد الشعب الفلسطيني.
في السياق، نحن أمام سعي ممنهج ومتعمد لقتل أكبر عد ممكن من
الفلسطينيين رداً على طوفان الأقصى وانتقاماً وإرضاء لغريزة القتل والدم في الشارع
الإسرائيلي، واستعادة قدرة الردع الإسرائيلية المفقودة، وبالطبع جعل شمال القطاع
بأقل عدد ممكن من أهله ومواطنيه وقتلهم بالسلاح، والتجويع لإجبارهم على النزوح
جنوباً ثم إلى الخارج.
إذن السياسة الإسرائيلية كانت ولا تزال مستندة إلى الإبادة والقتل
والتجويع، لإجبار المواطنين بالشمال على النزوح جنوباً وتفريغه من أهله للابتزاز
والمساومة على عودتهم بعد ذلك وفق ذهنية الاحتلال التقليدية ـ التنقيط ـ كما حصل
فعلاً في مفاوضات الهدنة المتنقلة ما بين باريس والقاهرة والدوحة.
الاستهدافات الأخيرة لقادة حماس ووجهاء العشائر ومسؤولي اللجان
الشعبية تندرج أيضاً ضمن استهداف الاحتلال النخب الفلسطينية بقدراتها وتخصصاتها
المختلفة – صحفيين، إعلاميين، باحثين، أكاديميين وأطباء ومهندسين، مسؤولي مجتمع
مدني - ضمن جريمة الإبادة والقتل، والإبادة السياسية والقيادية لجعل غزة غير قابلة
للحياة، ومن جهة أخرى خلق فراغ وحتى فوضى فيما يوصف باليوم التالي للحرب، طمعاً أو
وهماً في التمهيد لصعود قيادات جديدة مطواعة وفق الرؤى والمقاسات العبرية.
وبالتأكيد نحن هنا أمام عقاب لرجال العشائر ومسؤولي اللجان المحلية
الذين رفضوا التساوق مع خطط الاحتلال والمصرين على الإطار الوطني الجامع لاستقبال
المساعدات وإيصالها لمستحقيها وإدارة غزة بشكل عام.
يأتي استهداف موظفي المطبخ العالمي بدير البلح الإثنين الماضي، في
نفس السياق، أي القتل والتجويع، ومنع أي منظمات إنسانية من تقديم المساعدة إلى
الشعب الفلسطيني إلا تحت السيطرة والسقف الذي يحدده الاحتلال كمّاً ونوعاً.
الجرائم السابقة تندرج أيضاً ضمن مخطط استبعاد وكالة الأونروا من
المشهد كونها الجهة المخوّلة أصلاً باستقبال وتأمين وتوزيع المساعدات الإنسانية
علماً أن استبعاد وتهميش الوكالة يأتي في سياق السعي الإسرائيلي الدائم لتفكيكها
وحلّها نهائياً ضمن أوهام تصفية وشطب ملف اللاجئين والقضية الفلسطينية بشكل عام.
السياسة الإسرائيلية كانت ولا تزال مستندة إلى الإبادة والقتل والتجويع، لإجبار المواطنين بالشمال على النزوح جنوباً وتفريغه من أهله للابتزاز والمساومة على عودتهم بعد ذلك وفق ذهنية الاحتلال التقليدية ـ التنقيط ـ كما حصل فعلاً في مفاوضات الهدنة المتنقلة ما بين باريس والقاهرة والدوحة.
بناء على ما سبق يمكن الاستنتاج أن الاحتلال يسعى عن عمد لإشاعة
الفوضى والفراغ لتهيئة البيئة المناسبة أمام تشكيل أطر جديدة، سواء روابط قرى أو
إدارات محلية وذاتية خاضعة لسيطرة ومشيئة الاحتلال الأمنية، ودون أفق سياسي وعدم
خشية من الفوضى وتداعياتها المحلية والاقليمية في ظل شعور أو غطرسة نتن ياهو
وتوهمه بإمكانية إدارتها بأقل الأضرار والأثمان على الدولة العبرية.
وفي إطار أشمل يسعى الاحتلال إلى تكريس حصار غزة وإبقائه تحت القبضة
الأمنية الاسرائيلية كما مواصلة بل تأبيد الانقسام مع الضفة الغربية.
بالمجمل وبشكل عام، لا شك أننا أمام تحضير لليوم التالي للحرب على
الطريق الإسرائيلية لجهة تشكيل قيادة مطواعة في غزة أو خلق فوضى وفراغ لتسهيل ظهور
قيادات محلية فيما بعد تتولى الشؤون المدنية تحت سيطرة حكم الأمر الواقع
الإسرائيلي.
واضح بالطبع أن ثمة رفض فلسطيني واسع للتساوق مع الخطط الإسرائيلية
لكن هذا الرفض وحده لا يكفي. والتصدي لتلك الخطط لابد وأن يتضمن بالضرورة توافقاً
فلسطينياً جدياً وواسعاً، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم كفاءات خبيرة ونزيهة
بالمعنى الكامل والدقيق للمصطلحات كي تتولى السيطرة وإدارة قطاع غزة بعد الحرب لكن
ليس وفق السقف وخطوط وقواعد اللعب الإسرائيلية، ولا ضمن ما يوصف بتنشيط وتجديد
السلطة الفلسطينية على الطريقة الأمريكية وأنظمة الاستبداد العربية المتحالفة
معها، ولا إعادة إنتاج سلطة أوسلو الفاشلة والمسؤولة بشكل عام عن الوضع الفلسطيني
الراهن بما في ذلك موقفها المشين من الجرائم ضد غزة، وإنما وفق الأجندة الوطنية
التي تتضمن انهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات والإغاثة وإعادة الإعمار بغزة وإصلاح
وإعادة بناء منظمة التحرير كإطار قيادي مرجعي أعلى وتمهيد البيئة المناسبة أمام
إجراء الحزمة الانتخابية الكاملة كي يختار الشعب الفلسطيني القيادة التي يراها
جديرة وقادرة على حمايته والدفاع عن مصالحه وتحقيق آماله الوطنية المشروعة في
السيادة والاستقلال وتقرير المصير.
*باحث وإعلامي