كشفت أحدث بيانات رسمية لقياس معدلات
التضخم في
مصر عن موجة ارتفاعات جديدة وقاسية تضرب ملايين المصريين، مع زيادة أسعار المواد الغذائية وتدهور قيمة
الجنيه، وتفاقم نسب الفقر في البلاد.
وارتفع التضخم الأساسي في مصر إلى 21.5 بالمئة على أساس سنوي في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، مقارنة بـ19 بالمئة في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، بحسب إعلان البنك المركزي، الخميس.
ووفق الخبير الاقتصادي الدكتور محمود وهبة، فإن هذا هو أعلى ثاني رقم للتضخم في التاريخ الحديث، بعد تسجيل مصر النسبة الأعلى على الإطلاق عام 2016، بنحو 23.5 بالمئة.
والخميس، أيضا، أظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي)، بأن التضخم في البلاد سجل أعلى مستوى له في 5 سنوات، مسجلا (18.7 بالمئة) في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، مقابل (6.2 بالمئة) في الشهر نفسه من 2021، بارتفاع (13 بالمئة).
بيان الجهاز الحكومي، أكد أن تضخم أسعار المستهلكين سجل (18.7 بالمئة) خلال تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، مقابل (16.2 بالمئة) في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وهذا هو أعلى مستوى له منذ كانون الأول/ ديسمبر 2017، عندما سجل (21.9 بالمئة).
وعلى أساس شهري، ارتفع معدل التضخم إلى (2.5 بالمئة) لشهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وبلغ الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين لإجمالي الجمهورية (140.7) نقطة، مسجلا بذلك ارتفاعا قدره (2.5 بالمئة) عن تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
"طعام الفقراء"
المثير في بيانات الجهاز المركزي، أن تلك الارتفاعات أصابت صغار المستهلكين وطالت طعام الفقراء وسلعا استراتيجية مثل الحبوب والخبز والدواجن واللحوم والأسماك والألبان والجبن والبيض والزيوت.
وأوضح "المركزي"، أن أهم أسباب هذا الارتفاع، زيادة أسعار الحبوب والخبز بنسبة 4.8 بالمئة، واللحوم والدواجن بـ6.8 بالمئة، والأسماك والمأكولات البحرية بـ3.7 بالمئة، والألبان والجبن والبيض بـ5.5 بالمئة، والزيوت والدهون بـ1.4بالمئة، والخضروات بنسبة 7.8 بالمئة.
تلك النسب العالية من التضخم بمصر تأتي وفق نشرة "إنتربرايز"، بفعل تأثير قرارات الحكومة بتخفيض قيمة الجنيه الأخيرة، في موجة بدأت 27 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تنفيذا لمطالب
صندوق النقد الدولي، في إطار منح القاهرة قرضا بقيمة 3 مليارات دولار.
منذ ذلك الحين، ومع إعلان البنك المركزي الانتقال إلى "سعر صرف مرن بشكل دائم"، انخفضت قيمة الجنيه بنسبة (24.8 بالمئة) لتصل نحو 24.5 جنيها رسميا من نحو 18.5 جنيها، بعد ارتفاع من معدل 15.60 جنيها في آذار/ مارس الماضي، ما فتح الباب أمام موجة كبيرة من التضخم.
تحريك أسعار الصرف تلك أدت لارتفاع أسعار السلع المستوردة، التي تأزم جلبها مع تراجع سعر صرف الجنيه أمام الدولار، خاصة بوصول سعر الدولار نحو 31 جنيها بالسوق السوداء الخميس، ما قاد إلى تلك النسب من التضخم وتآكل مدخرات المصريين.
وتطور معدل التضخم في المدن المصرية خلال الـ6 سنوات الماضية بشكل مثير، حيث سجل في كانون الأول/ ديسمبر 2017، (21.9 بالمئة)، فيما هبط في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، مسجلا (14.6 بالمئة)، لينخفض في الشهر نفسه من 2019، إلى (7.1 بالمئة)، ليصل (5.7 بالمئة) عام 2020 مسجلا أقل معدل له، ليعاود الارتفاع في ذات الشهر من 2021، ليصل (6.2 بالمئة)، ليبلغ للمعدل الأعلى له بالشهر نفسه في 2022، مسجلا (18.7 بالمئة).
"الدائرة الجهنمية"
وفي رؤيته لأبعاد الأزمة شرح الخبير والمستشار الاقتصادي الدكتور أحمد خزيم، في حديثه لـ"عربي21"، الأجواء الاقتصادية التي أدت إلى التضخم، موضحا أن "البداية منذ 2014 عندما قامت الحكومة بطبع بنكنوت بدون غطاء، ما أدخل الجنيه مرحلة الانخفاض بشكل غير ظاهري".
رئيس منتدى التنمية والقيمة المُضافة، أضاف: "زاد الأمر مع تعويم الجنيه تشرين الثاني/ نوفمبر 2016"، لافتا إلى أن "كل 10 بالمئة انخفاض في قيمة أي عملة بعد التعويم، ترفع التضخم بنسبة 2 بالمئة".
وأشار كذلك إلى "غياب مصادر الدولار من السياحة والتصدير"، مبينا أن "العملة صارت بلا قيمة مع تناقص الاحتياطي النقدي بالدولار، مع عدم تقليل فارق الواردات والصادرات -الأولى ضعف الثانية-، ما يؤثر بالميزان التجاري، واحتل العجز نسبا متضخمة وعالية".
وأكد أنه "بعد توقيع البرنامج المكثف مع صندوق النقد عام 2016، وتحرير الدعم ومعظم الخدمات، ارتفعت أسعار المدخلات مع ثبات القيمة الاسمية للجنيه، وانخفاض القيمة الشرائية له؛ ومن ثم تدحرج الفقر داخل الطبقة المتوسطة بنسبة عالية جدا".
وتحدث خزيم عن دور جائحة "كورونا"، وما أطلق عليه حينها "الدائرة الجهنمية"، موضحا أن "كل ذلك أدى لاهتزاز الأسواق، ثم أدى ارتفاع التضخم عالميا لتدخل البنك المركزي المصري برفع الفائدة، التي تصيب الأسواق الناشئة بنوع من الركود".
وألمح إلى أنه "مع تدخل الفيدرالي الأمريكي برفع سعر الفائدة مرات، وارتفاع الدولار حوالي 14 بالمئة، بدأت الأموال الساخنة وأصحاب الاستثمارات الهروب من الدول الناشئة وسحب أموالهم".
وقال: "كلها أمور مجتمعة مع غياب الخطط للاعتماد على الذات، انفلتت الأسعار والأسواق، وأستطيع القول؛ إنه للأسف لم يتم السيطرة على السياسة المالية والنقدية، وكله في النهاية أدى لاتساع الدائرة".
"الوضع الأخطر"
وفي تقديره لأسباب وصول التضخم في مصر إلى هذا المستوى القياسي، يعتقد السياسي المصري والبرلماني السابق طارق مرسي، في حديثه لـ"عربي21"، أن "التضخم الحالي بمصر هو الأخطر، وربما لن يقف عند هذا الحد".
النائب العمالي السابق، أضاف: "كما أنه يتجاوز نسب التضخم التي تسببها أمور خارجية وعالمية تسود دول العالم".
ولفت إلى أن "الأسباب الداخلية التي أوصلتنا حد الكارثة وأنهكت الاقتصاد المصري وأهلكت المواطن، هي للأسف نتاج فشل منظومة السيسي الاقتصادية منذ انقلاب 2013".
وقال: "ربما أسبابها الظاهرة هي التغيير المتتالي بسعر الصرف، وتخفيض قيمة العملة المصرية وانهيارها بشكل دوري أمام الدولار"، لافتا إلى أن "سعر الدولار بالسوق الموازية وصل 32 جنيها".
ويرى مرسي أنه "من الطبيعي لمثل هذا الرقم أن يرفع كل أسعار السلع المستوردة، و90 بالمئة من السلع بمصر مستوردة، بعدما دمر السيسي الصناعة الوطنية".
ويعتقد أن "هناك عاملا آخر يساهم في حدية التضخم؛ هو ما تقوم به الحكومة من طباعة للأوراق المالية، ما يخل بين المعروض النقدي وأسعار السلع، وهذا يساهم بقدر آخر في المشكلة ويفاقمها".
وفي إجابته على التساؤل: "هل ترك الحكومة المصرية العملة المحلية لسوق العرض والطلب وتنفيذها قرارات صندوق النقد الدولي، هو أحد تلك الأسباب التي فتحت الباب أمام موجة جديدة من التضخم؟"، قال مرسي: "استجابة الحكومة لقرارات الصندوق، جزء من المشكلة".
وأضاف: "بل إن الكارثة أن تنحصر حلول حكومة السيسي باللجوء للصندوق والاستسلام لشروطه، واعتماد التوحش في الاقتراض وبيع أصول الدولة كحلول، وإهدار أموالها بمشروعات استهلاكية غير ذات جدوى، وإنهاك الشعب وإفقار القطاع الخاص بفواتير الجباية من ضرائب ورسوم".
"نسب الفقر"
وعن تأثير تلك الحالة على نسب الفقر في البلاد، يعتقد السياسي المصري، أن "التأثير كارثي على كل مقومات الأمن القومي المصري"، موضحا أنه "على مستوى الفقر، تزداد نسب الفقر بشكل يومي، وانهارت الطبقة الوسطى تماما، ودخلت قطعان من الطبقة الغنية في عداد الفقراء"، بحسب تعبيره.
وتابع: "أما الطبقة الفقيرة وتلك التي كنا نسميها المستورة، فقد سحقها قطار الفقر تماما، وأعتقد أن الأرقام الصادرة عن البنك الدولي وحتى عن أجهزة الإحصاء بمصر تكشف أرقام الفقر الخطيرة، رغم أنها لم تصدر تقارير تعبر بصدق عن حقيقة الواقع الكارثي".
وأكد أنه "لا يجب أن نتجاهل أن تأثير هذ الأمر لا يقف عند نسب الفقر، بل يتجاوزه بتأثيرات شديدة الكارثية على الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية وحتى صور الانتماء للوطن".
"ما الحل؟"
وعن الحلول المقترحة وطرق تلافي الأزمة، يرى مرسي، أن "أي حلول جادة لن تجد طريقا بظل حكم السيسي والعسكر، ومع ما تعيشه مصر من استبداد فاشي وتغييب الكفاءات، وحرمان الوطن من نخبه النافعة وعقوله المغيبة بالسجون والمنافي".
وقال: "لكن بوجه عام، أعتقد أن الحلول تنحصر في إخراج العسكر والمنظومة العسكرية من منظومة الاقتصاد تماما، وإعادة ضخ ميزانية العسكر في مشروعات إنتاجية تديرها شركات القطاع الخاص المدني".
و"تعيين كفاءات مدنية بكل قطاعات الدولة وإبعاد الجنرالات تماما عن أي شأن إداري، وقيام الدولة بإعادة تشغيل قطاعات الصناعات الاستراتيجية والاهتمام بكل نواحي الإنتاج، وعمل خطة عاجلة لتقليل الاستيراد وزيادة المنتج المحلي للداخل وللتصدير".
و"تشجيع الصناعات المتوسطة والصغيرة وتحفيزها برفع الضرائب تماما ودعمها بمحفزات مادية ولوجستية، وخلق مناخ يشجع المستثمر الأجنبي والعربي والمصري على الاستثمار، ودخول الأموال والسياحة لزيادة مدخول العملة الصعبة".
وختم السياسي المصري بالقول: "وأخيرا، وقف نزيف الفساد سرقة الوطن ، ونزيف الأموال التي يتم تسريبها للخارج عن طريق قطط الفساد السمان من رأس النظام وأركانه".
وفي رؤيته للحلول المحتملة، قال خزيم: "لن تحدث حلول في ظل غياب العملية الإنتاجية الزراعية الصناعية السياحية الخدمية، ومع عدم وجود خطة، ووسط كثير من القوانين التي تؤدي لزيادة ارتباك الأسواق، كالمضاد الحيوي الذي يعالج العرض ويؤدي لزيادة المرض".
ودعا الخبير المصري لـ"البحث عن مصادر للدولار"، معتقدا أن "هذا لن يتأتى إلا بالتصدير أو الاستثمارات المباشرة، وهذا لن يحدث إلا بعمل روشتة مصرية وقوانين ميسرة للأسواق وتغيير الفكر الاقتصادي الإيرادي نهائيا، وهذا غير منظور على المدى القريب".
وأشار إلى أن "الحكومة خلال 5 سنوات، كانت سعيدة حينما اعتبرت أن القروض والقروض بسندات نوع من الاستثمار"، مضيفا: "حتى هذه القروض، وهي قصيرة الأجل، تم وضعها بمشروعات طويلة الأجل، ما جعل الدائرة تتسع والفارق في الدولار جعله سلعة مضاربة".
ويعتقد أن "هذه الدائرة لن يحدث لها علاج إلا بإعادة وضع خطة تنمية يشارك بها الجميع؛ تعتمد على الصناعات الصغيرة والمتوسطة بداية، وعلى تصدير الخدمات لأفريقيا في مرحلة ثانية، وإنعاش السياحة، والإصلاح السياسي حتى يتم الإصلاح الاقتصادي".
وختم بتأكيد ضرورة "إعادة الرقابة على المؤسسات"، موضحا أنه "بدون ذلك، للأسف لن يحدث توقف للتضخم ولا لنسب الفقر".
"مسؤولية من؟"
مراقبون يتوقعون أن تدفع نسب التضخم العالية البنك المركزي المصري لاتخاذ قرارات برفع معدلات الفائدة على الإقراض، خلال اجتماعه المقرر 22 كانون الأول/ ديسمبر الجاري.
كما حمًلوا رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، مسؤولية كل تلك الأوضاع، مشيرين إلى أن سياسات النظام القائمة على الاقتراض الداخلي والخارجي وتوريط البلاد في فوائد وأقساط، تأكل من موازنة الدلة، وإنشاء مشاريع غير إنتاجية وغير ذات جدوى.
وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، انتقد مراقبون ومواطنون قرار تحرير سعر صرف العملة المحلية؛ تنفيذا لشروط صندوق النقد الدولي مقابل قرض الـ3 مليارات دولار، مؤكدين أنها قرارات دمرت حياة المصريين.
كما انتقدوا إصرار النظام على إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين الجديدة، وما يلحق بها من مشروعات مثل القطار السريع (العلمين- السخنة)، ومشروع المونوريل، وأطول برج في أفريقيا والقصور والطائرات الرئاسية وغيرها، والإفراط في مشروعات الكباري والطرق.
والتضخم، مصطلح اقتصادي لم يكن ليفهمه العامة، إلا أنهم يشعرون به ويعانون معه، فيما يتم استخدامه لوصف الارتفاعات السريعة لأسعار السلع والخدمات، ومدى وصولها لحدود مفرطة بارتفاع الأسعار لأكثر من 50 بالمئة.