"كفى 74 عاما من الظلم والكيل بمكيالين".. هذا كان شعار فعاليات
الذكرى 74 لنكبة
فلسطين التي حملت كما العادة دلالات تاريخية واستراتيجية، لكنها تزامنت أيضا مع تطورات وأحداث تجسّد الشعار والهدف (كفى ظلما والكيل بمكيالين) وأنّه آنَ للنكبة أن تنتهي.
كما كل عام، تؤكد فعاليات الذكرى السنوية للنكبة فلسطين معاني ودلالات تاريخية واستراتيجية؛ أهمها أن الآباء والأجداد لم يتوقعوا أن تستمر
النكبة طوال هذه المدة (سبعة عقود ونصفا تقريبا)، وهم عندما هاجروا حاملين مفاتيح بيوتهم معهم لم يتعلق الأمر بالرواية وبالذاكرة القوية العصية على النسيان فقط، وإنما أيضا باليقين الجازم بعودة قريبة وحتمية إلى البلاد التي شُرّدوا منها ظلما وقسرا وقتلا وتدميرا.
لكن في المقابل، يؤكد إحياء ذكرى النكبة السنوية سقوط واحدة من أهم الأسس التاريخية الفكرية والسياسية للمشروع الصهيوني، القائلة؛ إن الجيل الأول من الفلسطينيين سيموت، والثاني سينسى، والدولة العبرية ستعيش بأمان وسلام في فلسطين، حيث يعمل من تبقى من الفلسطينيين كأيد عاملة رخيصة للمشروع الصهيوني الاستعماري، وجدار زئيف جابوتنسكي الحديدي "الدموي" سيجبر إخوانهم العرب على الاستسلام والقبول بالدولة العبرية رسميا أو ضمنيا، بحكم الأمر الواقع المفروض بقوة السلاح وجرائم الحرب.
يؤكد إحياء ذكرى النكبة السنوية سقوط واحدة من أهم الأسس التاريخية الفكرية والسياسية للمشروع الصهيوني، القائلة؛ إن الجيل الأول من الفلسطينيين سيموت، والثاني سينسى، والدولة العبرية ستعيش بأمان وسلام في فلسطين
هذا لم يتحقق بالطبع، حيث مات الجيل الأول فعلا، لكن بعد تسليم الأمانة ومفاتيح البيوت والذاكرة الجمعية العصية للأبناء والأحفاد من الأجيال التالية التي حملتها كما ينبغي، وباتت تحيي ذكرى النكبة كل عام في الداخل والشتات بأمل متجدد، متمسكة بحقها الأصيل في فلسطين كل فلسطين، كما عرفها وعاش بها وعمّرها الأجداد.
فلسطينيو الداخل لم يستسلموا للاحتلال ولم يتحولوا إلى أيد عاملة رخيصة للمشروع الصهيوني، وبعد التعويل على الأنظمة العربية ثم على الثورة الفلسطينية المعاصرة في الخارج والمتنقلة من عمان إلى بيروت من أجل هزيمة المستعمرين وتحرير فلسطين؛ شمّروا عن سواعدهم وحملوا الراية بأنفسهم وبمقاومة شعبية عنيدة متواصلة لم تلن لعقود في كامل فلسطين التاريخية، سواء بالأراضي المحتلة عام 1967، وتلك التي احتلت عام 1948. وكل النقاشات والجدالات الجارية الآن في الدولة العبرية عن نهاية حتمية للمشروع الصهيوني، تستند إلى عناد أصحاب الأرض الأصليين وصمودهم وثباتهم، إضافة طبعا إلى الأزمات البنيوية العميقة للمشروع الاستعماري نفسه.
في السياق العربي، ورغم التطبيع واتفاقيات السلام الرسمية التي استسلمت عبرها الحكومات العربية أمام الجدار الإجرامي الدموي، إلا أن العلاقات بقيت رسمية وباردة مع أنظمة الاستبداد والفساد والساقطة، ولم يقبل الشعب العربي أبدا بوجود الدولة العبرية. ورغم الهموم والمآسي والكوارث التي أنزلتها به أنظمة الاستبداد والفساد المهزومة والمستسلمة، إلا أنه لم ينس فلسطين ولم يتنازل أيضا عن حقه بل حقوقه التاريخية فيها معنويا وماديا.
رغم التطبيع واتفاقيات السلام الرسمية التي استسلمت عبرها الحكومات العربية أمام الجدار الإجرامي الدموي، إلا أن العلاقات بقيت رسمية وباردة مع أنظمة الاستبداد والفساد والساقطة، ولم يقبل الشعب العربي أبدا بوجود الدولة العبرية. ورغم الهموم والمآسي والكوارث التي أنزلتها به أنظمة الاستبداد والفساد المهزومة والمستسلمة، إلا أنه لم ينس فلسطين
هذا بشكل تاريخي واستراتيجي، أما فيما يتعلق بالذكرى الـ74 تحديدا وشعارها (كفى ظلما والكيل بمكيالين)، فيتعلق الأمر طبعا بالمجتمع الدولي الذي يكيل بمكيالين، ويدعم أو في الحد الأدنى يصمت أمام الظلم التاريخي للشعب الفلسطيني، بينما جاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليؤكد ازدواجيته ونفاقه مع وقوفه صفّا واحدا في مواجهة الغزو، وفرضه عقوبات قاسية جدا وغير مسبوقة على روسيا، مع دعم مكثّف ومتواصل لحقّ الشعب الأوكراني الأصيل بمقاومة الاحتلال الروسي، ونكران كل ذلك على الفلسطينيين وأحقيتهم بمقاومة الاحتلال
الإسرائيلي، بما في ذلك عدم الضغط الجدي على الدولة العبرية للانصياع للشرعية الدولية وقراراتها، علما أنها لم تتوقف عن تجاوز القوانين الدولية وارتكاب الجرائم الموصوفة بحق الشعب الفلسطيني -حسب منظمات وهيئات الأمم المتحدة- في أماكن وجوده المختلفة بالداخل والشتات، ضمن نظام عنصري موصوف كما أجمعت منظمات حقوق إنسان إسرائيلية وأممية مرموقة، مثل بتسيلم وآمنستي (العفو الدولية) وهيومان رايتس ووتتش.
رغم ذلك كله، فالشعب الفلسطيني العنيد لا ييأس أو يستسلم حيث تزامنت ذكرى النكبة هذا العام، مع موجة عاتية من المقاومة الشعبية في كامل فلسطين، وتحديدا في القدس باعتبارها رمزا للصراع وعنوان الرواية التاريخية، حيث تصدى المقدسيون لمحاولات تهويد الأقصى وتقسيمه زمانيا ومكانيا، كما تغيير الطابع العربي الإسلامي المسيحي للمدينة القديمة المحيطة بالحرم القدسي الشريف.
تزامنت الذكرى النكبة مع استشهاد شيرين أبو عاقلة ووليد الشريف والتشييع الحاشد لهما في القدس المحتلة، والاعتداء الهمجي لشرطة الاحتلال على الجنازتين؛ في مشهد لم يؤكد فقط المظلومية الفلسطينية، وإنما الرواية الفلسطينية عن القضية العادلة والشعب الذي يناضل بكل الوسائل المتاحة من أجل نيل حقوقه المشروعة في السيادة والاستقلال وتقرير المصير.
تزامنت ذكرى النكبة كذلك مع مشاكل وأزمات بنيوية عميقة تعانيها إسرائيل سياسيا وفكريا وأمنيا، حتى مع استقرارها الاقتصادي الناتج أساسا عن الدعم والغطاء الخارجي متعدد المستويات لها، حيث تسود حالة من عدم الاستقرار السياسي، والحكومة الإسرائيلية الحالية توشك على السقوط
إسرائيليا، في ذكرى النكبة أيضا، شهدنا يأسا وإحباطا في مواجهة الموجة العارمة للمقاومة الشعبية وكل محاولات إخمادها، بما في ذلك الاستخدام الفظّ وغير المتناسب للقوة واعتقال آلاف وإصابة مئات وقتل عشرات الفلسطينيين منذ بداية العام الجاري، فلم يؤد سوى إلى تأجيجها واتساعها في مواجهة جذر المشكلة المتمثل بالاحتلال نفسه.
إضافة إلى ما سبق أو بسببه، ربما تزامنت ذكرى النكبة كذلك مع مشاكل وأزمات بنيوية عميقة تعانيها إسرائيل سياسيا وفكريا وأمنيا، حتى مع استقرارها الاقتصادي الناتج أساسا عن الدعم والغطاء الخارجي متعدد المستويات لها، حيث تسود حالة من عدم الاستقرار السياسي، والحكومة الإسرائيلية الحالية توشك على السقوط، والذهاب إلى انتخابات عامة، ستكون الرابعة خلال خمس سنوات بات مسألة وقت فقط، والسؤال هو متى، وليس هل، تجري أو لا؟
الدولة العبرية تشهد الآن كذلك وفي الذكرى الـ74 لاحتلال فلسطين احتدام النقاش الوجودي، مع توقعات وتنبؤات بعدم تجاوزها العقد الثامن، كما جرت العادة مع الممالك والكيانات اليهودية عبر التاريخ، حيث كتب رئيس الوزراء السابق الجنرال إيهود باراك ووزير الدفاع الحالي الجنرال بيني غانتس أن ذلك ليس مستبعدا، بينما وصل باراك إلى حدّ الذهاب إلى وجود مؤشرات على اندلاع حرب أهلية تعجّل من تفكك وزوال إسرائيل.