تقارير

في دحض الرواية الصهيونية عن فلسطين.. محمد غوشة نموذجا

صورة غلاف كتاب قبة الصخرة للمؤرخ محمد غوشة

بعد جُهد مضنٍ وكبير وثقّ خلاله تاريخ فلسطين وجوهرتها مدينة القدس؛ أصدر المفكر والمؤرخ المقدسي الدكتور محمد غوشة عدة بحوث خلال السنوات الأخيرة، كان من أهمها بحث حول قبة الصخرة والمسجد الأقصى، فضلاً عن موسوعة فلسطين التي تتضمن صورا ووثائق وخرائط دالة على تاريخ فلسطين وجغرافيتها، لتشمل مدنھا وقراها وخربها وعائلاتها الإسلامية والمسيحية، وأماكن عباداتھم واحتفالاتھم وعاداتھم، وصولاً إلى دحض سردية الرواية الصهيونية بالحقائق الدامغة بأن فلسطين كل فلسطين هي وطن الشعب الفلسطيني الوحيد .

جنبات القدس

قبل الخوض وتسليط الضوء على أهم بحوث المفكر والمؤرخ المقدسي الدكتور محمد غوشة، لا بد من الإطلالة على سيرته الذاتية، حيث ولد محمد غوشة في الكويت عام 1972، ودرس في جامعة اليرموك في الأردن وحصل على بكالوريوس تجارة إعلام واتصال جماهيري عام 1994، ثم ماجستير في الآثار والعمارة الإسلامية من المعهد العالي للآثار الإسلامية من جامعة القدس عام 1998، والدكتوراه في التاريخ الحديث من معهد البحوث والدراسات العربية من جامعة القاهرة عام 2002، وقد عمل في حقل التدريس، حيث درّس في جامعة القدس، وجامعة القدس المفتوحة، وحاضر في عدد من الجامعات والمؤسسات الأكاديمية في أكثر من دولة. 

أصدر المفكر والمؤرخ المقدسي محمد غوشة دراسات عديدة حول القدس وفلسطين توجها بكتاب (المسجد الأقصى)، الذي صدر في العاصمة الأردنية عمان في عام 2014، وهو عبارة عن عمل توثيقي مصور عن الأقصى ومدينة القدس المحتلة. 

وفي حنايا (800) صفحة من القطع الكبير، استطاع الباحث أن يغطي كل زاوية وحجر ونقش في المسجد الذي تتألف مساحته من (144) ألف متر مربع، وقد استمر البحث لإنجازه سبع سنوات من العمل الميداني في المسجد والحرم القدسي ومدينة القدس. وارتكزت فكرة الكتاب البحث على ما تركه الفنان المقدسي جمال بدران، الذي رسم زخارف منبر صلاح الدين الأيوبي الذي خرب في حريق المسجد الأقصى عام 1969. 

وأهمية الكتاب تكمن في احتوائه على آلاف الصور التي التقطها غوشة بنفسه على مدى سنوات، وكذلك رسومات معمارية، فضلا عن المعلومات الموثقة التي استقاها من المخطوطات والمراجع التاريخية، وقد عززّ بحثه بتوثيق كل نقش وحجر وقصته مع المسجد الأقصى والحرم القدسي، ولهذا كان البحث إنجازا توثيقيا غير مسبوق يطلع من خلاله العرب والمسلمون على المسجد والحرم القدسي والمدينة التي غابوا عنها منذ الاحتلال الإسرائيلي إثر احتلالها في الخامس من حزيران / يونيو من عام 1967.

وأكد المفكر غوشة في مقابلات إعلامية بأن "قبة الصخرة المشرفة تعد أقدم بناء لا يزال قائما في العالم العربي والإسلامي، والمسجد يمثل أكبر مساحة فسيفسائية في العالم الإسلامي، ولفت إلى أنه واجه عددا من العوائق أثناء عمله، وأهمها المنع من دخول المسجد في مرات عديدة، وانتظار خلو المسجد أو بعض زواياه من المصلين ليتمكن من التصوير أو الرسم والتوثيق، كما تحدث عن الاعتداءات اليومية المتكررة من قطعان المستوطنين اليهود المتطرفين، الساعين لفرض واقع تهويدي جديد في الموقع. 

وقد دفعت تلك الاعتداءات للمسارعة في إخراج الكتاب حتى يتسنى لأصحاب الحق في كل مكان في العالمين العربي والإسلامي على هذا المسجد اليتيم الذي نسيه من لم يعرف قدره، ولم يقدر مكانه". وقد شرح الكتاب بشكل مفصل وموثق لحدود المسجد الأقصى ومساحته، وهي جميع المساحة التي تقع عليها الأبنية الأثرية المختلفة كقبة الصخرة والمسجد الأقصى المسقوف والمصلى المرواني والأروقة والقباب وغيرها من المعالم الجغرافية والتاريخية، كما وثقّ بشكل دقيق لكل الساحات وما عليها من بناء وما تحتها من أقبية، إضافة إلى توثيق جهود المسلمين على مر العصور في المسجد، وذلك عبر دراسة الأبنية التي أقامها الأمويون والعباسيون والفاطميون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون. 

ويشار إلى أن الباحث غوشة ألف العديد من الكتب التي أرخت للقدس والمسجد الأقصى، ومنها كتابه عن قبة الصخرة المشرفة الذي احتوى على 800 صورة وثّقت لكل زاوية ونقش في القبة، كما صدر عن الباحث عام 2011 كتاب "ذاكرة القدس" في خمسة مجلدات، تشتمل على 9000 صورة قديمة غير منشورة من قبل، تغطي الفترة بين 1860 عامي (1860 ـ 1967). 

ولم يتوقف المفكر والباحث المقدسي الدكتور محمد غوشة عن البحث والتوثيق والتصوير والتمحيص لقضية عادلة وشعب يستحق الحياة ، وصولاً إلى انجاز موسوعة فلسطين خلال عام 2018 .

موسوعة فلسطين 

توجّ المفكر والباحث المقدسي محمد غوشة أبحاثه بإصدار موسوعة فلسطين باللغة الأنجليزية في عام 2018، وتعتبر من أكبر الأعمال الوثائقية المصورة التي تغطي تاريخ فلسطين خلال أكثر من أربعمائة عام، تبدأ مع الحكم العثماني في المنطقة العربية وتُختتم مع نهاية الحرب العالمية في عام 1918، مرورًا بأهم الأحداث، وتتضمن الموسوعة أربعة وعشرين مجلدًا تمتد لسبعة آلاف صفحة، وتحتوي ثلاثين ألف وثيقة وصورة وخريطة ورسمًا توضيحيًا، وكذلك مواد أرشيفية أولية لم تُنشر من قبل. 

وقد استغرق العمل البحثي لإنجاز الموسوعة بحلتها النهائية نحو إثني عشر عامًا، حيث تضمّنت ثلاث وثائق عثمانية تؤرخ لثلاثة آلاف عائلة فلسطينية عمل أفرادها في المحاكم الشرعية، والقُضاء وفي مجال التجارة والتركات والوثائق، ووثائق أوقاف لثمانمائة عائلة، وثمانية مجلدات تحتوي اثني عشر ألف رسمةٍ للمستشرقين الأوروبيين خلال زيارتهم إلى فلسطين.

 



واللافت أن غوشة لم يكتف بوصف المعالم المختلفة واستعراض تاريخ فلسطين، إنما قدّم جميع الوثائق المصورة والمكتوبة لكلّ حادثة، وقد احتوت الموسوعة مادة وثائقية شاملة حول حملة نابليون عام 1798، وذلك بالرجوع إلى وثائق الأرشيفات المصرية وسجلات محاكم القدس، وكيف جرى التعامل مع الحملة ورسومات لمستشرقين رافقوها ورسموا نابليون وأحمد باشا الجزار والأماكن التي شاهدوها في فلسطين، فضلاً عن مخطوطات توثق الحملة، وخرائط لمدينة عكا التي هًزم على أسوارها نابليون تعود إلى السنة نفسها. 

وقد خصص الباحث مجلداً لخرائط فلسطين، يضمّ جميع ما وضع من خرائط تحتوي اسم فلسطين بكل اللغات منذ عام 1516 وحتى عام 1918، وكذلك مجلدا آخر لـ"برية فلسطين"، حيث يتضمن معلومات في الفترة ذاتها من خلال ما رصده من رسومات وصور المستشرقين الذين درسوا نباتات وزهور وحيوانات فلسطين، وزواحفها وقوارضها وحشراتها وأشجارها وأسماك طبريا ويافا، وطيور القدس أيضاً . 

 

غوشة لم يكتف بوصف المعالم المختلفة واستعراض تاريخ فلسطين، إنما قدّم جميع الوثائق المصورة والمكتوبة لكلّ حادثة، وقد احتوت الموسوعة مادة وثائقية شاملة حول حملة نابليون عام 1798،

 



وخصص غوشة مجلداً "لبوسطة فلسطين وبريدها ورسائلها" خلال الفترة الممتدة خلال عامي (1834 ـ 1918)، وقد احتوى صوراً للرسائل والأختام والتلغراف في مدن القدس وطبريا ونابلس، ومجلد الحياة اليومية بما تضمّنته من أعمال الزراعة والصناعة والحرف والمقاهي والحياة التجارية.

صحيح أن الموسوعة اعتمدت بشكل كبير على توثيق الحياة الاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين، لكنها تعدت ذلك تصف الحيوانات والأسماك والزواحف والشجر والحجر، حيث يمكن لقارئ الموسوعة أن يتجول بين جبال فلسطين وسهولها الغنّاء وساحلها الجميل، ويشتم في ذات الوقت رائحة ورودها المختلفة. ومن مجلدات الموسوعة الهامة، مُجلد احتوى صوراً للمُدن والقرى والخِرَب الفلسطينية وتفاصيلها كمدُنِ يافا وعكا وغزة وطبريا والّلد وجنين، وبيت عور. 

واستعرض غوشة تاريخ الإسلام في فلسطين من خلال استحضار صور تاريخية للجامع الأبيض، والجامع العُمري، وجامع الجزار، والمسجد الأقصى المبارك، مُتتبعاً أدق جزئيات هذا المسجد الذي يحضى بقدسية عالية، مُسلطاً الضوء في ذات الوقت على كافة زواياه وتفاصيله ابتداءً من باب السلسلة لشوارع القدس القديمة، متناولاً الكنائس منتقلاً إلى كنيسة القيامة ورحابها الطاهرة وكنيسة المهد وكنائس القدس كافة، وجبل الكرمل الشامخ الذي يحتضن عروس البحر مدينة حيفا من جهة الشرق.

أما المجلد الرابع والعشرون والأخير من موسوعة فلسطين، فقد أفرده الباحث غوشة لحال فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى التي امتدت خلال الفترة بين عامي (1914 ـ 1918)، وبغية ذلك اعتمد غوشة إلى حد كبير على الأرشيف الحربي الأسترالي والعثماني والبريطاني، موثقاً فيه هزيمة  الجيش العثماني، حيث دارت معارك في مُدن القُدس وغزة وغيرها من المُدن الفلسطينية، وخاض الجنود والقادة العثمانيون معركة طاحنة واستقبلهم جمال باشا الشقيري الأنصاري وجاءت المدفعية الهندية والبريطانية ثم سقطت القدس واستسلم العثمانيون إلى أن أعلن عزت باشا استسلامهم وسقوط القدس بيد المحتل البريطاني، الذي سلمّ بدوره فلسطين للعصابات الصهيونية في منتصف أيار / مايو 1948، ولتصبح تلك العصابات نواة الجيش الإسرائيلي فيما بعد .

خاتمة 

تعتبر بحوث المفكر والمؤرخ المقدسي محمد غوشة التي عرضنا لبعضها هامة ومكملة لبحوث وموسوعات فلسطينية سابقة؛ تطرقت إلى القضية الفلسطينية بتفاصيلها الكثيرة، ومنها بحوث المؤرخ الدكتور وليد الخالدي والمؤرخ عارف العارف رحمه الله، فضلاً عن موسوعة بلادنا فلسطين  للباحث اليافاوي الراحل مصطفى مراد الدباغ التي صدرت في بيروت في عام 1965، وتتألف من (11) مجلد غطت بشكل كبير تاريخ وجغرافية غالبية الألوية والمدن الفلسطينية وعائلاتها ورموزها، كما أصدرت هيئة الموسوعة الفلسطينية بإدارة الراحل الدكتور أنيس الصايغ خلال الفترة بين عامي 1982 و1984 قسمين من الموسوعة، تتضمن القسم الأول أربعة مجلدات، وكل مجلد يغطي معلومات هامة لرموز فلسطين وتواريخها وجغرافيتها حسب الأحرف الأبجدية؛ في حين احتوى القسم الثاني من الموسوعة الفلسطينية سبعة، ستة مجلدات وفهرست، حيث تضمن كل مجلد دراسات وبحوث معينة لباحثين فلسطينيين وعرب معروفين، تراوحت بين الجغرافيا والحضارة والتاريخ والسياسة والأدب الفلسطيني.

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى جهود كتّاب ومفكرين وباحثين فلسطينيين أثرت كتاباتهم وبحوثهم حول القضية الفلسطينية المكتبات الفلسطينية والعربية والعالمية، وفي مقدمة هؤلاء الباحث الدكتور سلمان أبوستة، حيث قضى أربعة عقود في البحث والتمحيص والتوثيق لإنجاز عدة بحوث حول قضية اللاجئين وحق عودتهم، لكن أطلس فلسطين كان من أهم انجازات أبو ستة. 

اللافت خلال السنوات الأخيرة تبني العديد من الجهات والشخصيات الفلسطينية فكرة إعادة طباعة كتب المؤرخ عارف العارف حول تاريخ بعض المدن الفلسطينية، فضلاً عن موسوعة بلادنا فلسطين، وكذلك الموسوعة الفلسطينية بجزأيها وتحميلها إلكترونياً من قبل المهتمين والباحثين والمتابعين للقضية الفلسطينية مجاناً؛ الأمر الذي يشكل خطوة هامة للحفاظ على رمزية القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في وطنه الوحيد فلسطين في ظل ثورة المعلومات الأخذة في التطور السريع .

*كاتب فلسطيني مقيم في هولندا