جاء الموقف العربي من صفقة
القرن سيئا ضعيفا ومتخاذلا، مع استثناءات تثبت القاعدة ولا تنفيها. أما ما خرج عن
الجامعة العربية لجهة رفض الصفقة ورفض التعاطي معها، فقد جاء أساسا نتيجة الموقف
الفلسطيني الصارم، وعجز الأنظمة العربية المتخاذلة عن مواجهته علنا وبشكل مباشر.
يمكن تقسيم الموقف العربي بشكل عام إلى أربعة
أقسام: دول داعمة علنا وبدون خجل للصفقة، وهي التي حضرت الإعلان عنها في البيت
الأبيض، ودول متواطئة معها وشريكة في إنتاجها، ولكن لم تمتلك الجرأة والشجاعة
للإعلان صراحة عن موقفها الداعم، بينما الدول العربية في معظمها لم تستطع مواجهة
الموقف الأمريكي أو رفض الصفقة، فتحدثت بلغة دبلوماسية عامة ومتناقضة عن دعم
الجهود الأمريكية، وفي الوقت ذاته دعم حقوق الشعب الفلسطيني العادلة، ثم أخيرا
الأردن وتونس اللذان رفضا الصفقة (كلّ لأسبابه)، ولكن دون التفكير الجدّي في مواجهتها
أو العمل على إفشالها، بينما يبقى الموقف الفلسطيني وحده رافضا لها بعناد وإصرار
ومستعدا لمواجهتها حتى النهاية.
حضر سفراء الإمارات والبحرين وعمان الإعلان عن
الصفقة في البيت الأبيض أواخر كانون الثاني/ يناير الماضي، في إشارة واضحة على
تأييدها ودعمها، مع تصريحات مباشرة وعلنية تضمنت تلك المواقف، علما أن الحضور بحد
ذاته يكفي للدلالة على مواقف تلك الدول من الصفقة.
أما السعودية ومصر فقد كانتا شريكتين في
التفاوض حول الصفقة ولو بشكل هامشي، ولكن مع اطلاع على محدداتها وخطوطها العريضة
هما تؤيدان الصفقة ضمنيا ومواربة دون القدرة على الجهر علانية بذلك، علما أن
الرياض والقاهرة مارستا ضغوط على السلطة للقبول بها والتفاوض حولها والانفتاح على
الجهود الأمريكية بشكل عام.
بل إن قادة السلطة يتحدثون في مجالسهم الخاصة
عن نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي كعرّاب مركزي للصفقة، كما يتحدثون عن لقاء عاصف
جرى في الرياض (تشرين الثاني/ نوفمبر 2017) جمع الرئيس محمود عباس بولي العهد
السعودي محمد بن سلمان؛ ضغط خلاله الأخير بقوة وفظاظة على أبي مازن للتجاوب مع
مساعي ترامب- كوشنير، عارضا عليه القبول بأبي ديس عاصمة للكيان الفلسطيني دون
القدس ودون عودة اللاجئين، ودون العودة لحدود حزيران/ يونيو 67، مقابل مساعدات
مالية سعودية وخليجية ضخمة للسلطة.
الدول العربية الأخرى أظهرت مواقف خجولة، حيث
لم تؤيد الصفقة بشكل صريح وواضح، أيضا لم تعارضها أو ترفضها، حيث اكتفت بالحديث عن
دعم الجهود الأمريكية التي يقودها الثلاثي الصهيوني (جاريد كوشنير- ديفيد فريدمان-
وصبي القهوة أفي بيركوفيتش، خلفية غيسون غرينبلات)، مع دعم حقوق الشعب الفلسطيني
ومعالم التسوية العامة التقليدية المتضمنة حل الدولتين، ما يعني إقامة دولة
فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس ضمن حدود حزيران/ يونيو 1967 مع حلّ عادل لقضية
اللاجئين وفق الشرعية الدولية.
في خانة الرافضين يمكن الحديث فقط عن الأردن
وتونس، ولا يمكن التعويل على الدول المدارة من قبل الحشد الشعبي في دول سوريا
والعراق ولبنان، المحتلة أو الخاضعة للوصاية والانتداب الأجنبي متعدد المسميات،
علما أن الحشد الشعبي أداة إمبراطورية الوهم والدم الفارسية المذهبية القومية
والموتورة، والذي يتشدق بالعمل على تحرير فلسطين، لم يحرك ساكنا خلال حروب غزة
الثلاث الأخيرة، ناهيك عن استجدائه الغزاة لاحتلال سوريا والعراق، ومساعدتهم على
تدمير حواضرها الكبرى حفاظا على سيطرته أو هيمنته الطائفية الموتورة.
تونس الديمقراطية تسودها أجواء الحرية، وفيها
مزاج رسمي وشعبي رافض للصفقة، لا يمكن قمعه أو قهره، ولكن من ناحية أخرى فهي تتصرف
بواقعية ولا تسعى لمواجهتها أو المضي قدما في سيرورة إفشالها، كما اتضح من إقالة
المندوب التونسي في الأمم المتحدة بعد ضغوط أمريكية، طبعا عقابا له على تقديم
مشروع قرار إلى مجلس الأمن يعرّي الصفقة ويفضح تناقضها الفاضح مع القرارات
والمواثيق الدولية، وانحيازها الصارخ ضد الشعب الفلسطيني وحقوقه غير القابلة
للتصرف.
أما الأردن فهو متضرر بشكل مباشر من الصفقة
وتداعياتها في الملفات الحساسة والاستراتيجية الثلاثة اللاجئين القدس والحدود، وهي
(الصفقة) ستعيد تعويم فكرة الوطن البديل، غير أن الأردن الذي يحكمه نظام استبدادي
ناعم ينخره الفساد، لا ينوي التصدي للصفقة أو السعي لإفشالها، رغم تأثيرها السلبي
ضده في تصرف يشبه تعاطي أنظمة الاستبداد العربي مع غزو العراق في العام 2003، رغم
يقينها التام من تداعياته الاستراتيجية المدمرة على المنطقة برمتها.
إلى ذلك يجب الانتباه إلى أن مواقف الجامعة
العربية لا تعبر في العادة عن حقيقة السياسات العربية، كما أن أنظمة الفلول
القدامى والجدد أو الحشد الشعبي لن تجرؤ على المواجهة أو التصدّي للموقف الفلسطيني
علنا وبشكل صريح. ورغم أن موقف الجامعة الرافض للصفقة جيد في المجمل، لكن لم يأخذه
أحد على محمل الجدّ، لا أمريكيا، ولا إسرائيليا، ولا حتى روسيا، علما أن موسكو
قالت أنها ستحدد موقفها من الصفقة بناء على مواقف الفلسطينيين والعرب.
وبناء على ما سبق، يبدو الموقف الفلسطيني وحده
رافضا ومستعدا للمواجهة حتى النهاية من أجل إفشال الصفقة السيئة التي تسعى لتصفية
القضية الفلسطينية نهائيا، مع شطب ثوابتها الثلاثة: القدس الحدود واللاجئين، بينما
الدولة الفلسطينية الموعودة عبارة عن كانتونات ومعازل "فصل عنصري"؛ لا
تمانع إسرائيل إطلاق تسمية دولة عليها، علما أن نظام الفصل العنصري في جنوب
أفريقيا لم يمانع حتى تسميتها بالممالك.
عموما وتاريخيا، لا شيء يمكن أن يمر في ظل
الرفض الفلسطيني. ومن هنا لن تجرؤ معظم الدول العربية على تأييد الصفقة أو الدعوة
لقبولها، ومن ناحية أخرى فإن إفشالها منوط بالفلسطينيين أنفسهم المطالبين بالتحلّي
بالمسؤولية التاريخية اللازمة عبر إنهاء الانقسام، وتطبيق تفاهمات المصالحة،
وتوحيد المؤسسات، والذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية لتجديد الشرعيات، وإعادة
بناء منظمة التحرير كمرجعية قيادية عليا، مع التوافق على أساليب المواجهة استنادا
لخيار المقاومة بكافة أشكالها. وطالما أن الصفقة تهدف إلى إعادة تكرار تجربة جنوب
أفريقيا العنصرية، فإن إفشالها يقتضى بالضرورة اتباع الأساليب والقواعد ذاتها التي
اتبعها رفاق نيلسون مانديلا، طبعا مع تحديث فلسطيني لها.