هو أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي
الملقب بشهاب الدين (1154- 1191)، اشتُهر باسم السهروردي المقتول تمييزا له عن
صوفيين آخرين هما: شهاب الدين عمر السهروردي مؤلف كتاب "عوارف المعارف"
في التصوف، وصاحب الطريقة السهروردية، أما الآخر فهو أبو النجيب السهروردي.
ولد في بلده سهرورد من أعمال زنجان من عراق
العجم، تلقّى علومه الأولية في هذه البلدة، ثم انتقل إلى أصفهان وتلقى علمه على يد
ظهر الدين القاري، وكان زميله في الدراسة فخر الدين الرازي.
قابل عددا من شيوخ المتصوفة ومال إليهم، ثم رحل
إلى سورية فزار دمشق ثم حلب التي حصلت فيها محاكمته الشهيرة، بعد مطالبة بعض أهل
الظاهر بإعدامه بتهمة ترويج بعض العقائد الخاصة بالولاية.
يقول ابن خلكان إن السهروردي كان يتهم
بالانحلال والتعطيل، فأفتى علماء حلب بقتله وأشدهم الزين والمجد ابنا جهبل، حتى
أنهم لم يعتبروا كتبه من كتب الإسلام مثل كتاب "التلويحات اللوحية
والعرشية"، وكتاب "اللمحة" وكتاب "هياكل النور"، وكتاب
"المعارج والمطارحات"، وكتاب "حكمة الإشراق".
أعدم السهروردي بأمر من صلاح الدين الأيوبي بعد
أن طالبه فقهاء حلب بذلك، فأرسل "صلاح الدين" لولده "حاكم
حلب" الذي أقام مناظرة بين "السهروردى وفقهاء حلب" تفوق فيها
عليهم، لكن الإعدام كان من نصيبه هو.
في صراع علماء وفقهاء حلب معه، اتهم السهروردي
بأنه يتبنى أفكار القرامطة، واتهم بالكفر بسبب موقفه من النبوة، إذ قال إن الله
قادر على أن يخلق نبيا لأنه لا حدود لقدرته، وهو ما رأى البعض أنه قول يفضي إلى
نقض ختم النبوات، غير أن بعضهم عللها بأن قدرة الله لا تنتهي عند حد من الحدود.
بين السهروردي وابن سينا
يلتقي السهروردي مع ابن سينا في مسألة التصوف،
لكنهما يختلفان في الطريقة: التصوف عند ابن سينا عقلي، أي نتاج النظر العقلي، تصوف
نظري استدلالي، وإن كانت فلسفته تعتمد الرؤية الداخلية، أما بالنسبة لـ السهروردي،
فالتصوف عنده ذوقي إشراقي.
اقرأ أيضا: حي بن يقظان: أربع قصص بأهداف أيديولوجية مختلفة (1-4)
اعتبر السهروردي إشراقه متمما لفلسفة ابن سينا،
فقد أخذ عنه الأفكار الأساسية في الفيض ومراتب الموجودات وروحانية النفس ودرجات
العقل.
وحين يقال "متمما لفلسفة ابن سينا"،
فليست هذه الجملة إلا تأكيدا على أن السهروردي كمل طريق ابن سينا، لكن في اتجاه
آخر نحو المعرفة الصوفية الروحانية.
وقد قسم السهروردي الحكمة إلى قسمين:
الحكمة البحثية: وهي قائمة على الدليل الملموس،
وتعتمد بشكل كبير على العقل والبرهان وهذه الحكمة التي أخذها من الفلسفة.
الحكمة الذوقية: وهي قائمة على الإحساس
والتخيّل، وهذه الحكمة التي أخذها من دراسة الإشراق والفلسفة الإشراقية الإسلامية،
وهي تفتقر لعامل البرهان والعقل.
يقول عبد المجيد رضا نوار إن السهروردي سمى
الأنوار بالقاهرة، وهي تفيض على الأنوار المتسلطة، وهذه تفيض بدورها على الأنوار
المسيطرة، ثم على الملائكة وكأنها نظرية فيض الأنوار مقابل نظرية فيض العقول عند
ابن سينا.
يكتب السهروردي في كتابه هياكل النور:
إني لما رأيت قصة حي بن يقظان
وصــادفتها، مع ما فيها من عجائب
الكلمــات الروحــانية والإشــــارات
العميقة، عارية من تلويحات تشير
إلى الطور الأعظم المخزون فـــي
الكتب الإلهية إلا فــي آخر الكتاب،
أردت أن أذكر طـــورا فـــي القصة
سميتها أنـــــا قصة الغربة الغريبة.
إذا، يعترف السهروردي بأن قصته "الغربة
الغريبة" مطابقة لقصة ابن سينا "حي بن يقظان"، والجديد لدى
السهروردي يكمن في تطوير القصة الأصلية، وقد قال هو بذلك ".. أضيف إلى قصة حي
بن يقظان لـ ابن سينا المزيد من التلويحات والإشارات العلوية".
ويمكن الإشارة إلى بعض الاختلافات بين القصتين.
ـ كثف السهروري الاعتماد على الرموز أكثر من
ابن سينا، فجاءت قصته أكثر صعوبة.
ـ البعد الإشراقي في قصة السهروردي كان جليا،
بكثرة اعتماده على التضمينات القرآنية.
ـ اختلاف في اللفظ وليس في المضمون، فكلمة
المشرقيين عن ابن سينا تحيل إلى دلالة جغرافية، والمقصود بها ثقافات شرق العراق،
الزرادشتية والماوية وغيرهما، أما كلمة الإشراقي عن السهروردي، فهي تعني المعرفة
الإشراقية، وفي هذا تلتقي في الجوهر مع فلسفة ابن سينا، لكن أحدهما نتاج العقل
والأخرى نتاج النفس.
لكن، كليهما ينتميان إلى مشروع أيديولوجي واحد،
فالإشراق، سواء كان عقليا (ابن سينا) أم ذوقيا (السهروردي)، يعبر عن ثقافة قومية
تجد أصولها في الثقافات الفارسية، وقد قال السهروردي صراحة:
.. وكــان في الفرس أمة يهدون بالحــــق
وبه كانوا يعدلون، حماء فضلاء غير مشبة
المجوس قد أحيينا حكمتهم النــــــورانية
الشريفة التي يشهد بها ذوق أفــلاطون،
ومن قبله، فـــي الكتاب المسمى حكمة
الإشراق.
يقول محمد عابد الجابري، إن حكمة الإشراق
السهروردية لا تتجاوز الحكمة المشرقية السينوية معرفيا، فهي ليست سوى نسخة منها
مكتوبة بمصطلحات نورانية، ولكنها مع ذلك، بل وبسبب ذلك، تفسرها أيديولوجيا، لقد
كانت الفلسفة المشرقية السينوية في آن واحد تعبيرا عن وعي قومي مهزوم ووعي
أيديولوجي مقلوب.
الغربة الغريبة
يمثل السهروردي الطريق العرفانية، أي الصوفية،
وجاءت قصته "الغربة الغريبة" تجسيدا للمعرفة الصوفية، وهي المعرفة التي
لا تقوم على تجريد الصور (التجريد) كما هو الحال مع الفلسفة، بل هي معرفة تقوم على
الحدس الذي يربط الذات العارفة بالجواهر النورانية صعودا كان أم نزولا.
يتابع السهروردي في ذلك:
من يبحث عن الحقيقة مــن خلال
البرهان كمن يبحث عـن الشمس
بواسطة المصباح.
تبدأ القصة بخروج السهروردي في رحلة مع أخيه
عاصم من ديار ما وراء النهر إلى القيروان من أجل صيد الطيور ـ الطير في مؤلفات
السهروردي يرمز إلى الصوفي أو الإنسان الكامل في مواجهة العامة ـ وهناك تم القبض
عليهما وحبسا في جب عليه قصر مشيد، وكان يسمح لهما إذا جن الليل أن يخرجا إلى
السطح، على أن يعودا عند الفجر.
وبينما هما على تلك الحال إذ جاءهما الهدهد
فقال: إني قد أحطت بوجه خلاصكما، وجئتكما من سبأ بنبأ يقين، وألقى إليهما الهدهد
رسالة جاء فيها: أنه من أبيكما الهادي، وأنه بسم الله الرحمن الرحيم، كم شوقناكم
فلم تشتاقوا، ودعوناكم فلم ترحلوا …، فإن أردتما الخلاص من ما أنتما فيه فلا تنوا
في العزم، واعتصموا بحبلنا… فسافرا واركبا السفينة التي بسم الله مجراها ومرساها.
فتقدم الهدهد وركبا السفينة، للوصول إلى طور
سيناء حيث صومعة أبيهما، وهناك وجدا أباهما شيخا كبيرا تكاد السماوات والأرض تنشق
من تجلي نوره، وشكوت له من حبس القيروان، فقال: إنك لابد راجع إلى القيروان.
وعندئذ تضرعا إلى الله طالبين الخلاص؛ فبشرهما
بأنهما يمكن أن يرجعا إليه متى أراد، وإن كانا في الحبس، كذلك بشرهما بالخلاص.
تحيل هذه القصة إلى علاقة الإنسان بالله، وأن
الإنسان يمكن أن يتصل بالله مباشرة متى صفت النفس.
لكن هذا الصفاء ليس بالعمل السهل، فعلى الإنسان
أن يكابد الكثير للوصول إلى حالة الصفاء، وهي درجة روحية لا يبلغها سوى القلة
القليلة من البشر، الذين يتمكنون من التحكم بالشهوات.
وهنا يقصد السهروردي من عنوان قصته
"الغربة الغريبة" بالعالم الحسي الذي هو غربة غريبة، يتعارض مع العالم
العقلي، وللوصول إلى المعرفة الحقة، يجب على المريد أن ينتقل من العالم الحسي إلى
العالم العقلي والعالم الصوفي حتى تنكشف أمامه الحقائق.
وهذا الأمر، لا يتحقق إلا بأن يجمع المريد بين
النهج الصوفي الباطني من جهة، والمنهج العقلي من جهة ثانية، لأن التجربة الصوفية
بلا أسس فلسفية ستؤدي إلى الضلال.
والاتصال بالألوهية في القصة يحدث بطريقة
رمزية، حالما وصل السهروردي وأخوه إلى قمة الجبل سينا، ظنّ أنه وصل إلى المكان الذي
يصل به إلى الله لأن موسى كان قد صعد إلى قمة جبل سيناء فتجلى الله عليه وكلمه.
لكن، سرعان ما يدرك أن فوق جبل سيناء جبالا
كثيرة وأن وراء هذا الأب الروحي الذي خاطبه آباء روحيين كثر، وهذا الأب الروحي طلب
من السهروردي العودة إلى الأرض، ثم بشره بأنه سيصل إلى الإله بعد ذلك.
إنها مراحل التصوف التصاعدي الذي تتصل فيه
النفس البشرية مباشرة مع الله، بعد تغلبها على العقبات الكبيرة التي تواجهها
(الشهوات، الغرائز).
وهكذا، فإن الإنسان الذي اكتمل عقله، بدأ مرحلة
الصعود الذوقي عن طريق الكشف للوصول إلى معرفة الله.
عطوان ينعى ناصر ويتحدث عن تجربتهما الثقافية والسياسية (شاهد)
حي بن يقظان: أربع قصص بأهداف أيديولوجية مختلفة (1-4)
أربعة مرشحين لجائزة "غونكور" الأدبية.. تعرف عليهم