اختلفت ردود فعل الدول العربية تجاه التطورات المتسارعة التي
حدثت في المشهد السوري، ما بين التحفظ والصمت وما بين الرفض المعلن والمُبطّن!! -دعك
من الجامعة العربية!- وكذلك اختلفت ردود فعل البعض ما بين التدرك في المواقف
والانتقال من خانة التحفظ إلى خانة الترحيب والانفتاح..
لكنّ المفاجأة كانت في تفاعل المملكة العربية
السعودية
تجاه المشهد السوري وانتقالها من أقصى اليسار بتبني عودة بشار الأسد للقمة العربية
في الرياض وإنهاء قطيعة النظام السوري، محققا أول ظهور رسمي له على أرض المملكة، إلى
أقصى اليمين وأقصى درجات التحول بالتفاعل النشط مع المعارضة السورية -ذات التوجه
الإسلامي!- والمسيطرة على مقاليد الأمور في دمشق، وهو ما يشير إلى احترافية صانع
السياسة الخارجية للمملكة في التعاطي مع مصالح البلاد، والأمر بلا شك مفاجأة كبرى لا
يصح أن تمر مرور الكرام!!..
المفاجأة كانت في تفاعل المملكة العربية السعودية تجاه المشهد السوري وانتقالها من أقصى اليسار بتبني عودة بشار الأسد للقمة العربية في الرياض وإنهاء قطيعة النظام السوري، محققا أول ظهور رسمي له على أرض المملكة، إلى أقصى اليمين وأقصى درجات التحول بالتفاعل النشط مع المعارضة السورية -ذات التوجه الإسلامي!- والمسيطرة على مقاليد الأمور في دمشق، وهو ما يشير إلى احترافية صانع السياسة الخارجية للمملكة في التعاطي مع مصالح البلاد
أن يصل النضج في البحث عن مصلحة المملكة إلى هذا القدر
من
البراجماتية التي لا تلتزم بالقوالب الجامدة التي تمنع الاستفادة من المصالح
التي تحتاجها الأوطان، وللأسف الشديد فلقد اشتهرت بلادنا العربية باختزال المصالح
في شخص الزعيم المُلهم ووفقا لرؤيته الأُحادية، ولربما أطاح أحدهم بالمصالح العليا
للبلاد لانطباعه ومزاجه الرافض والمتصادم مع ذلك الأمر المهم لبلاده!!
ما معنى أن تتفاعل المملكة العربية السعودية بهذه السرعة
مع تطورات المشهد السوري؟!
البراجماتية المدهشة التي أصبحت سمة في طريقة التفكير
التي ارتبطت بصانع السياسة الخارجية للمملكة وقفزه فوق القوالب الجامدة المعتادة
التي افتقدت المرونة في كثير من المواقف والقرارات التي يتم اتخاذها؛ رغم الأضرار
المؤكدة -غير المتوهمة!- التي تلحق بالأوطان، تستحق منا التريث والتأني من أجل
تقييم الفعل والإشادة بتلك المرونة في صناعة الموقف، وللعلم فإن البراجماتية السياسة
الخارجية للمملكة شواهد سابقة شهدت بعض التحولات الإيجابية التي قفزت فوق القوالب
الجامدة نذكر بعضها كالتالي:
1- الانسحاب من اليمن وإعادة التموضع الصحيح مع الجارة
الجنوبية بل وقبول التفاهم مع جماعة الحوثي المسيطرة على الأوضاع في صنعاء،
فالإحتواء الذي يوقف نزيف الخسائر أفضل من العداء الذي لا نهاية له، ولم يكن
مقبولا أن تستمر المملكة في استنزاف مواردها البشرية والمالية في حرب لا طائل من
وراءها وربما استفادت من تورطها قوى إقليمية ودولية ترغب في عدم خروجها من
المستنقع اليمني!،، إضافة لحالة الكراهية التي تولّدها مثل تلك الحروب بين الشعبين
الشقيقين،،ولن تخمد نارها حتى بعد مرور عقود طويلة من الزمن..
2- الموقف السعودي داخل منظمة أوبك كأحد أكبر أعضاء
المنظمة من منتجي البترول، وعدم خضوع الرياض للرغبة الأمريكية في زيادة الإنتاج
لتحقيق أهم مكاسب واشنطن المعتادة؛ خفض الأسعار بكثرة المعروض من ناحية، ومن ناحية
أخرى الإضرار بالدولة الروسية بتعويض السوق من إيقاف موسكو لعملية امداد الوقود
والغاز -كورقة ضغط روسية- إلي المستهلكين الأوروبيين، وجاء الرفض السعودي مخيبا
لأمال البيت الأبيض الساعي إلى دعم السعودية، حتى أن الرئيس الأمريكي "جو
بايدن" قام بزيارة الرياض لحث الجانب السعودي على زيادة معدلات الإنتاج لكنه
عاد خائبا لعدم قدرته على ثني المملكة عن موقفها.
برهن صانع السياسة الخارجية للدولة السعودية على نضج كبير في البحث عن المصالح العليا للمملكة، وكانت تتمة تلك المواقف ما ذكرناه عن التفاعل الجيد مع تطورات المشهد السوري وعلى الانتقال من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ضاربا بذلك عدة عصافير بحجر واحد، كما يقال في المثل المصري الدارج
3- التقارب السعودي الإيراني بوساطة وترتيب من الصين
التي نجحت في صناعة تفاهم بين الدولتين بعيدا عن التوتر المعتاد الذي تريده وتصنعه
وتباركه الولايات المتحدة الأمريكية!! ورغم الأبعاد الأيديولوجية (سنة- شيعة) وما
تمثله من فرصة لبعض القوى الغربية للنفخ في نار الصدام والتوتر الإقليمي الدائم، فلقد
تجاوزت المملكة ذلك ببراجماتيها الرائعة وقفزت فوق القوالب الجامدة وأبرمت اتفاق
المصالحة والتقارب مع الجمهورية الإيرانية برعاية ناجحة لدولة الصين، بعيدا عن
الضور الأخضر والأحمر الأمريكي!..
4- العلاقات الاستراتيجية للمملكة مع تركيا والتحول من
حالة التوتر التي أعقبت مقتل الكاتب السعودي "جمال خاشقجي" داخل
القنصلية السعودية في إسطنبول وطبول الشحن والصدام التي دقت، ثم ما لبثت العواصف
أن هدأت ووضعت الحرب أوزارها وتقاربت الدولتان بل وتسارعت الخطى؛ حتى عُقدت الاتفاقيات
الاستراتيجية بينهما وأُعلن توقيع أكبر صفقة تصدير على صعيد الدفاع
والطيران في تاريخ تركيا مع وزارة الدفاع السعودية لشراء الطائرات المسيرة
المقاتلة من طراز أكينجي وبيرقدار التركية الصنع والتي تقدر قيمتها
بنحو 3 مليارات دولار! وسيمتد الاتفاق الذي أُبرم لشراء الطائرات المسيّرة ليشمل
التعاون في نقل التكنولوجيا والإنتاج المشترك. ولم يقف الأمر عند الطائرات المُسّيرة فخر الصناعة التركية، بل طالعتنا
الصحف والمواقع بخبر هام أن المملكة تخطط لشراء 100 طائرة مقاتلة من
الجيل الخامس من طراز "قآن (KAAN)
الشبحية من تركيا! تلك الطائرة التي تُعد كما
وُصفت البديل المناسب للطائرة الأمريكية F35! وغيرها الكثير من أوجه
التعاون الاستراتيجي بين الرياض وأنقرة..
الحقيقة لقد برهن صانع السياسة الخارجية للدولة السعودية
على نضج كبير في البحث عن المصالح العليا للمملكة، وكانت تتمة تلك المواقف ما
ذكرناه عن التفاعل الجيد مع تطورات المشهد السوري وعلى الانتقال من أقصى اليسار
إلى أقصى اليمين، ضاربا بذلك عدة عصافير بحجر واحد، كما يقال في المثل المصري
الدارج.