ارتبطت قصة حي بن
يقظان لدى الكثيرين بالفيلسوف الأندلسي ابن طفيل 1105- 1185، لكن الحقيقة هي أن
هناك من سبقه في كتابة هذه القصة، وهو ابن سينا 980- 1037، ثم تبعه في ذلك
السهروردي المقتول، الملقب بشهاب الدين 1154- 1191، وجاءت القصة الرابعة على يد
ابن النفيس 1213- 1288.
تميزت الروايات
الأربع باعتماد الأسلوب القصصي الرمزي للتدليل على أفكار كاتبيها، لكن ابن سينا
والسهروردي قد ضحيا بحسب الدكتور سليمان العطار بالجانب القصصي لصالح الفلسفة،
فجاءت قصتاهما مفتقرتين للتشويق الدرامي، أما ابن طفيل فامتلك أصول السرد الروائي
الحديث، ومن هنا سبب ارتباط القصة بابن طفيل في الثقافة العربية الإسلامية أكثر من
ارتباطها بابن سينا والسهروردي المقتول وابن النفيس.
لكن بعض الباحثين،
ومنهم يوسف زيدان يرفض هذا الرأي، ويعتبر نص السهروردي من أعلى النصوص في الثقافة
العربية من حيث المكانة الأدبية واللغوية والمجاز الصوفي.
هي قصص خيالية من وحي
أفكار مؤليفها، وأهميتها تكمن ليس فقط في جانبها القصصي فحسب، وإنما في أهدافها
الأيديولوجية، المعرفية والسياسية، وفي أنها عكست الميول الفكرية لكل واحد منهم،
فطغى التصوف العقلي على قصة ابن سينا، وطغى التصوف الإشراقي عند السهروردي، في حين
طغى التفكير البرهاني على قصة ابن طفيل.
يلجأ الفلاسفة
والمفكرون عادة إلى الخيال من أجل التأسيس المعرفي، كما حصل مع فلاسفة المدن
الفاضلة وفلاسفة العقد الاجتماعي في أوروبا (هوبس، لوك، روسو)، فقد تخيلوا حالة
طبيعية قبل مدنية يعيش فيها الإنسان، والغاية من هذا التخيل، الوصول إلى أن المجتمعات
السياسية، أي الدول التي تأسست نظريا على اتفاق الأفراد، للانتقال من الحالة
الطبيعية إلى الحالة المدنية، وبالتالي فإن هذه النظريات الخيالية كان لها غايات
دنيوية سياسية لشرعنة تأسيس الدولة.
لكن الفرق بين الحالة
الأوروبية والحالة الإسلامية، هو أن فلاسفة العقد الاجتماعي كتبوا ضمن فضاء معرفي
مفتوح، وغايتهم كانت سياسية واضحة، أما مؤلفو حي بن يقظان المسلمين، فكانت
إشكاليتهم تكمن في التوفيق بين العقل والنقل، أي بين الدين والفلسفة.
وفي فضاء معرفي محكوم
بالمنظومة الإسلامية، لم يكن بالمستطاع الإفصاح عن الآراء الفلسفية بشكل واضح
وصريح، من هنا تم الاعتماد على القصص الرمزية للدلالة على الأفكار العقلية
لأصحابها.
حيّ بن يقظان لابن
سينا
تتضمن القصة أن جماعة
خرجت للتنزه، فالتقت مصادفة بشيخ طاعن في السن، لكنه بهي الطلعة، ممتلئ القوة،
أكسبته السنين خبرات كبيرة.
هذا الشيخ هو حي بن
يقظان، وهو يرمز إلى العقل، في حين ترمز الجماعة التي التقت به إلى الحواس و
الغرائز والشهوات.
جاء الشيخ حي بن يقظان
من بيت المقدس وكانت مهنته التجوال بين البلدان، فأحاط بها علما كبيرا، إضافة إلى
المعارف التي تعلمها من والده وساعدته في الاهتداء إلى السبيل القويم.
تطور الحديث بين حي
والجماعة إلى أمور مختلفة، حتى وصل الحديث إلى علم
الفراسة الذي يؤدي إلى
كشف الأمور الخفية عن طريف مقدمات عرفانية بديهية.
يتحدث حي بن يقظان عن
الرفقة التي تصحب الإنسان، ويقصد بالرفقة هنا الشهوات الإنسانية، التي يصفها بأنها
رفقة سوء وأنها ملاصقة للنفس، وعلى الإنسان، إن أراد الفكاك منها، أن يغترب إلى
أرض لم يطأها من قبل مثله، وهذا أمر في غاية الاستحالة.
وفي ضوء هذه
الاستحالة، على الإنسان التمسك بأحكام العقل فهي التي ستبلغه أعلى درجة من درجات
سلم السعادة.
تستمر القصة لتحكي
حقائق هذا العالم المحسوس وأقاليمه الجغرافية، التي هي رموز للمعاني البعيدة التي
قصد إليها ابن سينا، اعتمادا على الفكرة القائلة بمقابلة الإنسان للكون، فالإنسان
هو العالَم الصغير، والكون هو الإنسان الكبير، ولذا يقابل الإنسان جميع الموجودات.
بعد ذلك، يتحدث حي
للجماعة عن حدود الأرض، فيقول إنها ثلاثة، حد يحده الخافقان، أي أفق المشرق
والمغرب، وحدان هما: حد المشرق وحد المغرب لكل واحد منهما صقع قد ضرب بينهما وبين
عالم البشر بسور لا يتعداه إلا الخواص بخروجهم من عين الحيوات الراكدة واغتسالهم
في العين فيتطهرون، ثم يحدثهم عقب ذلك عن ملك تلك الحدود الثلاثة الذي يقوم بوصفه
بأكمل وأتم صفات الجلال والكمال، والبهاء والجمال.
وبين عالم البشر حــد
محجور لن يعدوه
إلا الخـــــــواص
منهم، المكتسبون منه،
لــم يتأت للبشر
بالفطرة، وممــا يفيدها
الاغتسال فـــي عين
خرارة جـــوار عين
الحيوان الراكــدة،
إذا هدى إليها السايح
فتطهر بهـــا وشرب
مــــن فراتها سـرت
فـــي جوارحه منة
مبتدعة يقــــوى بها
على قطع تلك المهام.
بعبارة أخرى، لن
يستطيع الإنسان الخلاص من قواه الحسية إلا بالارتقاء إلى الحضرة الإلهية حيث
تتلاشى الرغبات والنوازع النفسية تحت سطوة النور الإلهي.
وفي الأجزاء الأخيرة
من القصة يعرج بالكلام من الأرض إلى السماء، فيصف العالم العلوي الذي يتربع على
قمته الملك، "من عزاه إلى عرق فقد زلّ ومن ضمن الوفاء بمدحه فقد هذى".
يستشف من هذا، أن ابن
سينا يهدف إلى تبيان أهمية قوة العقل وتمييزها على ما سواها من غرائز وملكات،
فالعقل الإنساني وحده القادر على الاتصال بالعقول السماوية ومنها إلى واجب الوجود
في ذاته، إي الله.
وإمكانية التواصل
العقلي مع الله واجب الوجود في ذاته، ممكنة لأن العالم نشأ عبر وسائط هي العقول
السماوية التي تربط الأول، الله بالموجودات، في الحالة الأولى، أي في نظرية الفيض،
كان التصوف العقلي تنازليا، أما في حالة حي بن يقظان فالتصوف العقلي تصاعديا.
الفيض
لفهم ذلك، لا بد من
شرح نظرية الفيض بشكل سريع: كانت الإشكالية الفلسفية لدى الفلاسفة في المشرق
العربي، وخصوصا الفارابي وابن سينا، تكمن في كيفية التوفيق بين الفلسفة والدين،
بين الرأي العقلي الذي يرفض نشوء الموجودات من العدم، والرأي الديني الذي يقول
بذلك، أي أن الكون وجد من العدم بإرادة الله.
توصل الفارابي وابن
سينا إلى نظرية الفيض كحل وسط، وفي حين كان الفيض عند الفارابي ثنائي، جاء الفيض
عند ابن سينا ثلاثي.
العقل الأول الصادر عن
الله واجب الوجود، يعقل ذاته باعتباره صادرا عن واجب الوجود بذاته، فيصدر عن هذا
التعقل عقل مثله، وهذا العقل الثاني، يعقل ذاته باعتباره ممكن الوجود بذاته وواجب
الوجود بغيره، أي من الله، فتصدر عنه نفس سماوية، وهذا العقل الأخير يعقل ذاته
بوصفه ممكن الوجود فيصدر عنه جرم فلكي.
ولهذا، كانت الأجرام
السماوية عند ابن سينا تحس وتتعقل، لأن لكل جرم سماوي نفسا مستقلة عنه ومتجوهرة
بنفسها، وهي تعقل لأن لكل نفس وجرم سماويين عقلا سماويا مستقلا، وتستمر عملية
التعقل هذه إلى أن تصل إلى العقل العاشر، وهو العقل الفعال المدبر لعالمنا.
وهكذا، فإن حي الممثل
للإنسان استطاع الوصول إلى حقيقة الوجود عبر العقل الفعال.
إن كل عقل من العقول
السماوية يصدر عنها، ثلاثة موجودات: عقل، نفس، جرم فلكي، ويعطي ابن سينا أهمية
كبيرة للنفس، في تجاوز للتيارين الفكريين الرئيسين، التيار العقلي الذي يتخذ من
العقل أساسا لمعرفة العلوم والحقيقة، والتيار النقلي الذي يتخذ من الوحي سبيلا
لمعرفة الحقيقة.
اقرأ أيضا: أربعة مرشحين لجائزة "غونكور" الأدبية.. تعرف عليهم
قدم ابن سينا اتجاها
ثالثا، اعتبر فيه النفس بمثابة مصدر المعرفة البشرية، فمنها تنبثق الإدراكات
والقوى، والنفس جوهر روحاني فاض على القالب الجسماني الإنساني، واتخذت النفس من
الجسم آلة في اكتساب المعارف حتى يستكمل جوهره بها ويصير عارفا بربه وبحقائق
معلومات، فيستعد للرجوع إليه ويصير ملاكا من ملائكته.
لقد كان الشيخ الرئيس
يهدف من وراء ذلك كله إلى دمج الدين بالفلسفة والفلسفة في الدين، للوصول إلى فلسفة
دينية تجمع بين العقل والنقل، وتكون النفس جوهر هذه الفلسفة.
وهذه الفلسفة هي
انعكاس وتجسيد لفلسفة ابن سينا الحقيقية، والمقصود بذلك، الفلسفة المشرقية أو
الإشراقية، وليست الفلسفة المشائية الأرسطية التي كتب ابن سينا عنها الكثير.
بعبارة أخرى، قدم ابن
سينا نوعين من الخطاب الفلسفي، الأول، لا يعبر عن رأيه الحقيقي بقدر ما هو عرض
للفلسفة، أما الخطاب الثاني، الإشراقي فهو موقف ابن سينا الحقيقي.
والحقيقة أن ابن سينا
نفسه لم يخف ذلك، فقد كتب في مقدمة منطق المشرقيين ما يلي:
مــا جمعنا هـذا
الكتـاب إلا لأنفسنـا، أعنــي
الذين يقومون منا
مقـام أنفسنا، وأمـا العامة
من مزاولـي هـذا الشأن
فقد أعطيناهم فـي
كتاب الشفاء ما هو
كثير لهم وفوق حاجتهم".
إذا، يشكل كتاب منطق
المشرقيين الذي لم يعثر منه إلا على المقدمة، جوهر فلسفة ابن سينا، إنها الفلسفة
التي تعتمد الرمز للتعبير عن حقيقتها، وقد حملت قصة حي بن يقظان معان ورموز لها
دلالات صوفية إشراقية، فكانت أفضل تصوير للبعد الإشراقي في فلسفة ابن سينا.
حسين عبد العزيز
إعلامي وكاتب سوري
أربعة مرشحين لجائزة "غونكور" الأدبية.. تعرف عليهم
لغة الحياة في شعر محمد الثبيتي