كتبت هنا مراراً، كما تحدثت عبر منابر إعلامية مختلفة، عن الموقف التركي من القضية
الفلسطينية؛ الموقف الذي تعرض (وما زال) لحملة تشويه ممنهجة ومتعمدة من تحالف غير معلن بين يتامى توماس لورنس ويتامى أحمد سعيد.. إعلام الفلول والثورة المضادة، وإعلام الحشد الشعبي المدار من أدوات قاسم سليماني.
الموقف التركي نفسه يتم نقله أحياناً للأسف بشكل غير دقيق؛ أقرب للرغبات منه إلى الحقائق، وعن طيبة وحسن نية (طبعاً) من قبل محبي وعشاق
تركيا في العالم العربي.
الأسبوع الماضي تزامن حدثان رسما معاً صورة دقيقة واضحة عن حقيقة الموقف التركي من القضية الفلسطينية، حيث استضافت إسطنبول اللقاء السنوي للسفراء الفلسطينيين في أوروبا، بالتزامن مع وقف تركيا مشاركتها في برنامج الأمن الأمريكي المخصص لمساعدة الأجهزة الأمن الفلسطينية، بالاشتراك مع كندا وبريطانيا، والمدار من القتصلية الأمريكية في
القدس الشرقية.
وزير الخارجية التركي شاويش أوغلو شارك في لقاء إسطنبول، حيث عرض أمام السفراء الفلسطينيين الموقف التركي المساند للقضية والحقوق الفلسطينية، وتحدث تحديداً عن بذل مزيد من الجهد لأجل العدل والسلام في ما يخص القضية الفلسطينية. كما
دعم الحق التاريخي والقانوني الفلسطيني في مدينة القدس، ورفض قرار اعتبارها عاصمة لإسرائيل، مع انتقاد الضغوط الإسلامية على القيادة الفلسطينية للقبول بالمقاربة الأمريكية للتسوية المتمثلة بصفقة القرن، وتجديد وتأكيد الاستعداد التركي الدائم للتنسيق والمساعدة على الصمود الفلسطيني في مواجهة الضغوط، كما للدفاع بشكل مشترك عن القضية الفلسطينية في المحافل الدولية.
في نفس الأسبوع الأول من آذار/ مارس، قررت تركيا وقف مشاركتها في البرنامج الأمني الأمريكي لدعم الأجهزة الأمنية الفلسطينية ومساعدتها على تنمية قدراتها وخبراتها، والمدار من القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، المعنية بالتواصل مع السلطة الفلسطينية.
لكن بعد دمج القنصلية في السفارة الأمريكية بالقدس، قررت أنقرة وقف مشاركتها في البرنامج بالتنسيق مع العضوين الآخرين، كندا وبريطانيا، احتجاجاً على القرار الأمريكي، ورفضا لاعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، مع البحث عن خيارات ووسائل أخرى لمساعدة السلطة الفلسطينية.
إذن كما تقدم، وفي الدلالات السياسية للحديثين، يمكن استنتاج أو رسم صورة عن الموقف التركي من القضية الفلسطينية المتضمن التعامل مع القيادة الفلسطينية الشرعية والمعترف بها من أجل المساعدة والدفاع عن القضية الفلسطينية المحقة. أنا أفهم ومقتنع تماماً بأن القيادة الفلسطينية هي نموذج من الفلول القدامى الذين أسقطتهم الثورات العربية، فهي مترهلة وهرمة وفاسدة وغير ديمقراطية، ولكن تغييرها مسؤولية الفلسطينيين أنفسهم، فلا يمكن الطلب من تركيا الانتظار أو التقاعس عن مساعدة الفلسطينيين إلى حين قيامهم بتغيير قيادتهم.
في هذا السياق، دعت تركيا مراراً وتكرار إلى الوحدة الفلسطينية وإنهاء الانقسام والمصالحة ورص الصفوف، من أجل الصمود في مواجهة السياسات الإسرائيلية، كما الدفاع عن الحقوق والمصالح الفلسطينية في الساحة الدولية. ولا ينفصل عما سبق في الجانب السياسي أن تركيا تدعم حل الدولتين الذي يتبناه الفلسطينيون أنفسهم، والعرب والمجتمع الدولي بشكل عام. وإذا كان هذا الحل لم يعد واقعياً أو منطقياً، فإن مسؤولية الفلسطينيين أنفسهم بلورة صياغة والتوافق على حل آخر أكثر عدلاً ومنطقية، ومن ثم الطلب من تركيا والمجتمع الدولي الدعم والمساندة.
سياسياً؛ أيضاً في السياق نفسه، فإن تركيا دعت دائماً إلى اتباع الوسائل السياسية الدبلوماسية لاسترجاع الحقوق الفلسطينية. هي كانت مستعدة دائماً للخدمة وتقديم المساعدة، حتى أنها دعت أكثر من مرة وبشكل علني؛ حركة حماس لاتباع المقاومة السلمية والانخراط في الجهود السياسية والدبلوماسية من أجل التوصل إلى حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية.
هنا لا بأس من التذكير بأن تركيا قادت الجهود الإسلامية والدولية لمواجهة قرار ترامب باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، حيث استضافت مؤتمرا طارئا لمنظمة التعاون الإسلامي، للتأكيد على الرفض الإسلامي القاطع والجامع للقرار الأمريكي، كما توجه وزير الخارجية الفلسطيني بصحبة نظيره التركي على طائرة واحدة من إسطنبول إلى نيويورك، للمشاركة في جلسة الجمعية العامة التي كانت تركيا أحد الداعين لعقدها وضمان غالبية واسعة فيها لدعم الموقف الفلسطيني، ورفض قرار ترامب وإظهار عزلته على المستوى الدولي.
لا بد من التذكير أيضاً بأن أحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء التركي السابق، كان أرفع مسؤول دولي، بل حتى المسؤول الرفيع الوحيد الذي حضر جلسة الجمعية العامة لرفع مستوى عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، كما أن حفل الاستقبال والاحتفال بالمناسبة جرى بحضوره وبرفقة الرئيس محمود عباس، في مقر البعثة التركية لدى الأمم المتحدة.
في السياق التركي الفلسطيني كذلك، وجه وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي الأسبوع الماضي؛ الشكر لتركيا على رفع مساهمتها في ميزانية وكالة الأونروا لتعويض العجز الناجم عن القرار الأمريكي وقف تمويل الوكالة، مع قيادة جهود إسلامية ودولية لفعل الأمر نفسه أيضاً.
أما في ما يتعلق بالمشاركة في برنامج الأمن الأمريكي، فإن تركيا تعتقد (كما المشاركة في برامج أخرى في أفغانستان من خلال الناتو) أنها بذلك تقوم بواجبها، وتخدم وتساعد الفلسطينيين وتقدم لهم الخبرات الاستراتيجية لبناء الأجهزة والمؤسسات الأمنية المهنية اللازمة لقيام الدولة. أما العقيدة الأمنية أو كيفية استخدام وتشغيل تلك الأجهزة، فإن هذه مهمة ومسؤولية الفلسطينيين؛ لا تتدخل فيها تركيا، ويفترض أن يكون هذا محل توافق الفلسطينيين فيما بينهم.
طبعاً، تركيا ترفض علانية الممارسات الإسرائيلية التهويدية، خاصة في القدس، وهي تحاول مساعدة أهل القدس على الصمود بوسائل مختلفة، منها زيارة الأتراك للمدينة للمسجد الأقصى، وترميم مبان ومؤسسات أثرية تاريخية فيها، وتقديم خدمات في مجالات الصحة التعليم الرعاية الاجتماعية، كما تنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الضفة الغربية، وتشجيع السياح على زيارتها أيضاً.
الانزعاج الإسرائيلي من الحضور التركي السلمي الإنساني الديني، خاصة في القدس، تبدّى فى بلورة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية خطة لمحاربة هذا الحضور، بما في ذلك التضييق على حركة المواطنين الأتراك في المدينة، وحتى تلفيق التهم لهم.
تركيا ترفض كذلك الحصار الإسرائيلي الجائر وغير القانوني بحق غزة وأهلها، وتحاول تقديم المساعدة قدر استطاعتها، أيضاً في مجالات ومناح مختلفة. ورغم الاهتمام الإعلامي بما تقدمه من مساعدات خدمات إنسانية هناك، إلا أنها تفعل ذلك في الضفة الغربية ومدنها المختلفة أيضا، بما في ذلك القدس طبعاً.
باختصار؛ تركيا تدعم القضية والحقوق الفلسطينية بما يتلاءم مع نظامها العلماني الديمقراطي والمزاج الشعبي الجماهيري فيها، المتعاطف جداً مع الشعب الفلسطيني.. تفعل ذلك بشفافية وبوسائل سلمية، وتتعاطى مع القيادة الفلسطينية الشرعية، وتدعم ما تتبناه من سياسات ومواقف، بما في ذلك حل الدولتين، وتتعاون معها في المحافل الأممية، بما يتلاءم مع قناعاتها التزاماتها والمواثيق الشرائع والقرارات الدولية ذات الصلة.. تدعم صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته السلمية في الداخل، خاصة في القدس وغزة، وتحاول المساعدة قدر الإمكان أيضاً وبشكل سياسي إنساني سلمي، وعلني.