ينزعج البعض من صراحتي وقوة طرحي، ويبرر ذلك تارة بأنني أتخذ مواقفي هذه من باب الانتقام من المنظومة
الفلسطينية، وتارة أخرى يقولون بأن أطروحاتك بالرغم من أنها منطقية وأنك مُحِقٌ فيها، إلا أنها تسير عكس التيار، انسجاما مع الأصوات المنادية بالإطاحة بهذه المنظومة الفاسدة في سياق خصومة معها، وطمعا في الحصول على منصب كبير في المستقبل.
لا أريد أن أعقب على هذا الرأي أو ذاك برد مباشر، ولكني سأرد في سياق مقالي هذا الذي سأتطرق فيه للتصريحات التي طالبت بضرورة مقاطعة مؤتمر الشتات الفلسطيني الذي سيعقد في مدينة إسطنبول التركية يومي السبت والأحد 25 و26 من شباط/ فبراير 2017، حيث اعتبره البعض بأنه خروج عن الصف الفلسطيني، ووصفوا فكرة انعقاده بأنها تأتي ضمن حسابات حزبية ضيقة تضرب وحدة الصف الفلسطيني، وتعمل على إضعاف فرص إنهاء الانقسام، وتسعى لإيجاد بديل لمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
كما أن هذا البعض عبروا عن استغرابهم من أن تتم هذه الدعوة لعقد هذا المؤتمر، في الوقت الذي يتم فيه عقد العديد من اللقاءات والحوارات؛ التي ضمت الفصائل الفلسطينية في بيروت وموسكو، للتحضير المشترك لتشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، الذي يضم كافة مكونات الطيف السياسي الفلسطيني. واتهموا المؤتمر بأنه يرتهن إلى أجندة خارجية، وصفوها بأنها هي نفسها تلك التي عملت على تفتيت الدول العربية، ونشر حالة الفوضى فيها خدمة للاحتلال الإسرائيلي، والأطماع الاستعمارية، والاقتصادية في المنطقة.
كما ادعى هؤلاء بأن هناك عملا على دعم مشاركة الشتات الفلسطيني في القرار السياسي وحماية حقوقهم الوطنية، وحقهم في العودة والتعويض، والدفاع عن قضيتهم وحقوقهم في تحرير أراضيهم والعودة إليها، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
حقيقة إن ما ذهب إليه هؤلاء هو أمر مثير للاستهجان، كونه لا زال يسير في فلك الحديث الإنشائي المكرر الذي لم يعد بمقدوره أن يقدم أو يؤخر شئ، ويبدو بأن هذا الأمر قد جاء في سياق متطلبات الموقع، ولكنه بالتأكيد ليس بغريب على من لديه القدرة على قراءة المشهد الفلسطيني جيداً، ويدرك أبعاد مثل هذه التصريحات المتخبطة التي تصدر عن هذا وذاك بدون آلية واضحة لتحسين العمل الفلسطيني وإعطائها مصداقية، حيث أنها غالباً ما تحمل في طياتها الكثير من النقاط التي تمثل انعكاساً لعقلية القيادة الفلسطينية الحالية مجتمعة، وهي القيادة المتمسكة بالكرسي والمنصب بغض النظر عن حجم الآلام والأوجاع التي يتعرض إليها أبناء الشعب الفلسطيني، من جهة وتكرار الفشل السياسي من جهة أخرى، لذلك لا بد من التوقف عندها حتى نضع النقاط على الحروف ونعطي لكي ذي حقٍ حقه.
أولا، لا يساورني شك بأن الذين يطالبون بمقاطعة المؤتمر الشعبي الفلسطيني هم قامات وطنية لها احترامها وتقديريها وتاريخها النضالي المشهود به في الماضي والحاضر، ولكن هذا بالتأكيد لا يمكن أن يكون مبرراً ليجعلنا كالإمعات الذين يقبلون بتكميم أفواههم ويسقطون عقولهم مجاملة لأحد مهما علا شأنه أو مكانته، خاصة إن كان الأمر يتعلق بالشأن الوطني العام.
ثانيا، لا شك بأن فكرة انعقاد المؤتمر المذكور أثار مخاوف القيادة الفلسطينية كل حسب تقديره ومصالحه، ولكن بالتأكيد، وأنا على يقين من ذلك، بأن هذه المواقف ومثيلاتها ليس لها علاقة لا من بعيد أو من قريب بالمصلحة الوطنية العامة، ولكنها أقرب ما تكون نابعة من تخوفات على مصالح فردية بحتة تتعلق بالحفاظ على البقاء والنفوذ.
ثالثا، سأفترض أن كل ما جاء في التصريحات التي صدرت بين الحين والآخر في الآونة الأخيرة على لسان عدد من القيادات الفلسطينية، بأنها نابعة من الحرص على المصلحة الوطنية العليا، وبأنها جاءت في سياق دعوة مخلصة للتلاقي وعدم المضي قدما في الانشقاق أو العمل على إيجاد البدائل عما هو قائم أو موجود، ولكن أليس من المنطق أن من يطلب الشيء عليه أن يبدأ بتطبيقه أولا حتى يقتدي به الآخرون؟! أم أننا لا زلنا نعشق بأن نبقى نكابر ونخدع ونلف في دائرة التظليل التي يظن هؤلاء القادة بأنه من حقهم علينا أن نبقى أسرى لأفكارهم التي شاخت وعفا عليها الزمن، ليحصلوا بذلك على ضمانة بقائهم بالسير في طريق العيش في نفس مكونات زمنهم للإستمرار بالاحتفاظ بالمزايا وتضخيمها على حساب كرامتنا وأوجاعنا وآلامنا في زمننا هذا!
لا يا سادة، لقد خذلتم شعبكم، وكل ما تتحدثون به هو أوهام وسرد أشياء ليس لها علاقة بالواقع، ومنظمة التحرير الفلسطينية التي ترونها أنها تتحسس آلام وأوجاع أبناء الشعب الفلسطيني أينما وجدوا، بات واقعها ينافي ما تدعونه؛ لأن بعض قادتها أصبحوا وقحين للغاية، وهم يتغولون على لقمة عيش أطفال الشعب الفلسطيني، ويتمتعون بمنع الحليب والدواء عنهم، في ظل صمت مشبوه ومخز ممن يطالبون بمقاطعة أي حراك فلسطيني يرفض المهانة والذل والفساد.
كما أن استمرار واقع هذه المنظمة بشكلها القائم مع البعد عن المحاسبة والشفافية، حيث أنها أصبحت تسخر مقدراتها لأبناء المسؤولين فيها وبناتهم ومن أصبح ضمن كوتتهم، هو السلوك الذي بات يحتاج في الواقع إلى تقويم ورفض ومقاطعة وإعادة نظر!
لقد أخجلتمونا أمام أنفسنا وأنتم تتحدثون باطل طوال عقود من الزمن بنفس الأسطوانة المشروخة التي لم تقدم حلولاً منطقية وفاعلة، ولم تأت بجديد، ولم تخفف آلاما، ولم تداو جراحا، ولم تهدئ أوجاعا. لا بل عمقت الأوجاع وفضحت الناس المستورة وانتزعت منهم حقهم في الحياة الكريمة المستقرة والآمنة وتركتهم فريسة للجوع والتسول والحاجة والمرض، وهؤلاء القادة المغيبون عن الواقع والحقيقة هم أنفسهم الذين لا زالوا يتباكون بالتضليل وعمى بصيرة، وانهزامية غير مسبوقة، ويملأون الدنيا صراخاً بأن هناك مؤامرة كلما تحسسوا بأنه قد حان الوقت لسحب البساط واقترب موعد نهاية حقبتهم وحكايتهم.
لذلك في تقديري أنه لم يعد لهم مكان في وجداننا، ولا مكانة في ذاكرتنا ولا موقع في تطلعاتنا، ولا قبول في عقولنا، فجيلنا مختلف عن جيلهم، فكفاهم ما أخذوا واستفادوا وكَدّسوا من أموال ومنافع شخصية، فليتركوا لأفكارنا حريتها لكي تنطلق من أسرهم، وليبتعدوا عنا أو يرحلوا، فليس كل فلسطيني صاحب مبادرةٍ أو فكرٍ لعمل شيء جديد فيه إبداع، ليتناسب مع التحديات القائمة والفكر المتطور والمتجدد في العالم والانفتاح أمام التحديات أصبح خائناً معدوم الشرف، وهم النموذج الوحيد للشرفاء الذي يتوجب أن يُحْتَذَى به، أو أنه يسعى لإيجاد بديل عما هو موجود، طالما أنه لا يتوافق مع رؤيتهم التي شاخت وأصابها العجز ولم تعد مناسبة للزمن الذي نعيش فيه!
لذلك أقول لهم في هذا المقام، كفاكم قمعاً لأي جديد وتشكيكاً في كل مبادرة وطنية تتجاوزكم، لأننا أبناء أجيال لم تعد تصدقكم ولم تعد تثق بكم، ولم تعد تقبل منكم وعوداً فارغة تقتل أمالنا وأحلامنا وتسلب أعمارنا، وكلمات فضفاضة خاوية بدون أفعال تُذْكَر، كما أننا لم نعد نقبل بأن تمضي أعمارنا أسيرةً لعقم تفكيركم وكبر سنكم وشيخوخة أفكاركم؛ لأنها لم تعد تتناسب مع تحديات زمننا، وإن كنتم حريصين بالفعل علينا وعلى كرامتنا وعلى قضية شعبنا فأخلوا الطريق لإبداع الشباب المخلص، وليس لأدوات منحطة الفكر ومشبوهة الأداء تأتي في إطار المحسوبية والفساد الإداري لترفعوا من قدرها على حساب الكفاءات والمؤهلين من أبناء شعبنا، وهي عاجزة غير مؤهلة ولا تمتلك مقومات تحمل المسؤولية ومن ثم تتباكون بأن هناك مؤامرة على القضية؟!
وكوني تحدثت الحقيقة ولم أبالغ فيها بالرغم من قسوة كلماتي، فإنني أؤكد هنا بأنني لا أشجع في كلماتي هذه أن يكون هناك بديل عن
منظمة التحرير الفلسطينية، ولكن سؤالي هو: إلى متى تريدون أبناء الشعب الفلسطيني ينتظرونكم وأنتم تتنقلون بين العواصم الدولية للحوار بدون نتيجة تُذْكَر وكأنه حوار طرشان؟! لا بل تسجلون فشلا بعد فشل، بدون أن تعطوا حتى إشارة بأن هناك أملا في إصلاحٍ أو في تغييرٍ فاشل، أو حتى في محاسبة فاسدٍ أو ملاحقة لصٍ أو محاكمة مشبوه، فهل هذا هو شكل المنظمة التي تريدون لأبناء الشعب الفلسطيني أن يقبلوا بتمثيلها لهم على أن يبقوا ينتظرن تحسن أحوالها إلى الأبد؟
لربما أن كلماتي هذه ستشكل صدمة للكثيرين لأنها خرجت عن النص المتوقع، ولكني أجد أن المنطق يتحدث عن أنه لا بد من حراك يزلزل أقدام هؤلاء المسنين، بدون خشية منهم أو على مشاعرهم أو مجاملة لهم، لكشف الحقيقة كما هي، حتى يتم إجبارهم على ترك الساحة الوطنية والقبول بالفكر الشبابي الجديد المنفتح الذي من المفترض أنه سيعتمد المشاركة الشعبية نهجاً ويسقط نظرية التبعية لقيادة فاسدة، ويرفض الاستفراد بمقدرات المؤسسات الوطنية بعيداً عن الرقابة والشفافية وتحمل المسؤولية.
لذلك فإنني أرى أن الالتقاء بين أبناء الشعب الفلسطيني والحوار فيما بينهم في أي مكان في العالم هو أمر مفيد وحيوي، وبات مُلحا، وأن ما يقال حول هذا المؤتمر بأنه يخضع لأجندة دينية أو يعمل في سياق رؤية خارجية مشبوهة؛ هو أمر معيب وهدفه التشويش والتشكيك كالعادة في أي حالة خلافية في النهج والأداء أو الخروج عن السياق المأمول الخارج عن السيطرة والتبعية، حيث أن هذا المؤتمر، كما هو معلوم، بأنه لم يتم احتكاره على أحد من أبناء الشعب الفلسطيني، لا بل عُرِضَت آلية المشاركة فيه على صفحات الإنترنت بشكل اختياري، بغض النظر عن فكرهم الأيديولوجي أو دينهم، وفُتِحَ باب التسجيل للحضور أمام الجميع بدون استنثناء لأحد أو التشكيك بشرعية أحد، آملاً أن ترتقي توصيات هذا المؤتمر لدرجة دق ناقوس الخطر بأن منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني قد أصبحت متهالكة بالفعل، وباتت تحتاج إلى إعادة هيكلة وتجديد ومحاسبة، وهي الآن في خطر!