خلال أيام، يبدأ المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج الذي أمضى فيه المنظمون أشهرا من التحضيرات الفنية والتعبئة والحشد.
ينعقد هذا المؤتمر في الوقت الذي أمعن فيه من ينبغي أن يكونوا ممثلين حقيقيين للملايين من
الفلسطينيين المنتشرين في أصقاع الأرض؛ في تجاهل إمكاناتهم وقدراتهم ورغباتهم وطموحاتهم وحقوقهم التي طالما تاقوا إلى إيلائها الاعتبار.
لم تنجح
منظمة التحرير عبر مسيرتها في تحويل هذا الكم الهائل من الفلسطينيين - أكثر من ستة ملايين- إلى شركاء حقيقيين في بناء المستقبل الفلسطيني أو صناعة القرار، بل عملت على الدوام على تهميشهم وادعاء تمثيلهم من غير وجه حق، استنادا إلى ديكتاتورية قيادية - لا تختلف عن باقي ديكتاتوريات المنطقة - لم تسمح لتلك الجماهير أن تدلي برأيها حول ما يتعلق بمصيرها ومستقبل قضيتها. تعدى الأمر ذلك بعد أن دخلت المنظمة في اتفاقيات أوسلو في العام 1993، والتي قزّمت الحلم الفلسطيني وحصرت الفعل داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، سوى أن الفلسطينيين هناك أيضا لم يكن لهم الحق يوما في أن ينتخبوا ممثليهم في المجلس الوطني الفلسطيني أو هيئات المنظمة ومؤسساتها الأخرى بشكل حرّ ونزيه.
دخلت المنظمة إلى سجن الضفة الغربية وغزة. وبدلا من أن تظل هي صاحبة القول الفصل في المسيرة الوطنية، تحولت إلى مجرد بند على أجندة وزارة المالية في السلطة الفلسطينية. إذ لم يتم استدعاؤها إلا في أضيق النطاقات ولأغراض تسويغية محددة، كما حصل حين اجتمع المجلس الوطني الفلسطيني آخر مرة في قطاع غزة في نيسان/ أبريل من العام 1996 تحت الضغط الأمريكي، من أجل إلغاء بعض بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تتعارض مع اتفاقيات أوسلو.
فعليا بقيت المنظمة هياكل لا حياة فيها ولا حيوية، إذ لم تعد قائدة نضال الشعب الفلسطيني نحو التحرير. وتحولت بعثاتها إلى سفارات للسلطة، كما لم يعد لها فعل يذكر في أوساط اللاجئين الفلسطينيين في الداخل أو الخارج. كل هذا لم يمنع قيادة المنظمة من المضي قدما في تقديم ذاتها، باعتبارها القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني وممثله الوحيد الذي من حقه النطق باسمه في المحافل الدولية، متجاهلا حقيقة كونه ممثلا بالإكراه لا بالانتخاب.
هذا الواقع المرّ لمنظمة التحرير تريده قيادة المنظمة أن يظلّ قائما، كي تتمكن من الاستمرار في التحكم بزمام المبادرة حيثما وكيفما شاءت. وعلى الرغم من الاتفاقيات التي جرت بين الفصائل الفلسطينية - والتي منها اتفاق القاهرة في العام 2005 - والدعوات المتكررة من أجل الشروع في إعادة إحياء المنظمة وصياغة هياكلها على أسس شفافة وديمقراطية، إلا أن ذلك كله كان يصطدم بإرادة من يملك مفاتيح المنظمة في جيبه، وهو رئيس السلطة يساعده بعض المتحكمين في مداخلها ومخارجها.
أمام هذا الانسداد في الحالة الوطنية العامة، فإن الفلسطينيين حيثما كانوا مطالبون بإبداء الرأي في ما يجري من سحق للهوية النضالية الفلسطينية تحت أقدام السلطة المتحكم بها إسرائيليا وغربيا. فهل يقبل الفلسطينيون أن تستمر سرقة القرار الفلسطيني والتحكم به تعسفا، أم يبادرون إلى ما من شأنه سحب شرعية من أصبحوا عقبة كأداء أمام تطوير أي صيغة من صيغ الوحدة الوطنية أو القرار الفلسطيني المستقل. من هنا جاء المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج كي يوفّر لهم منبرا حرا للتعبير عن آرائهم أمام هذا التغول على حقهم في اختيار قيادتهم وممثليهم.
غير أن هذا المنبر ينبغي ألا يكون منصّة للتفريغ عن الاحتقان، أو لمجرد تأكيد التمسك بالثوابت الفلسطينية أو للتجمع من أجل الهتاف لفلسطين وشهدائها ومعتقليها، بل لا بد من خطوات عملية تعيد الحق إلى نصابه دون أن تكون هناك خشية من الاصطدام بالمسلّمات الموهومة. فما اعتاد الناس على اعتباره مسلّمات ليس كذلك، وما استمرأه كثيرون بصمتهم على يجري ليس بخيار عاقل أو عادل، بل الخيار العاقل يكمن في الشروع بما من شأنه تغيير قواعد اللعبة. فالمنظمة كَبَيْت جامع هي محطُّ حرص عند الكل الفلسطيني الحيّ، أما قيادتها في كل المستويات فلا تحمل قداسة، ولا حقا يؤهلها للبقاء في مواقعها.
فأبواب المنظمة إن لم تفتح للكل الفلسطيني عبر تمثيل حقيقي ديمقراطي فلا بد من فتحها عبر تغيير الأقفال، وهذه هي المهمة التي يجب على المؤتمر أن يضطلع بها ولا أقل.
سيقول لك البعض أن هذا انقلاب، وأن كل المحاولات التي جرت فيما مضى لفعل ما يشبه ذلك فشلت، إلا أن هذا التخذيل لا ينبغي أن يعطل ضرورة البدء في مسيرة الخمسين ميلا بخطى محكمة وواثقة. فلئن كانت المنابر الدولية مفتوحة لقيادة السلطة التي تعد مغتصبة للقرار الوطني الجامع، فإن بلورة هياكل تمثل جمهور الفلسطينيين في الخارج من شأنه أن يكرس واقعا تعي معه قيادة المنظمة ومن يسمعها؛ أنّ أيّ تجاوز لذاك الجمهور بعد اليوم لن يكون مقبولا.
وحتى يكون هذا المؤتمر إنذارا أخيرا لقيادة المنظمة كي تعود إلى شعبها وتشركه في صناعة قراره واختيار قيادته، فإن من المطلوب خروج قرار بشكل لا لبس فيه؛ يدعو عموم الفلسطينيين في الخارج حيثما وجدوا إلى الشروع في التسجيل من أجل انتخاب جسم تمثيلي معبر عنهم، ليس بديلا عن أحد، بل رديفا هدفه الحفاظ على الثوابت وتوظيف إمكانات الخارج وطاقاته في صناعة القرار الفلسطيني المتعلق بهم وبقضيتهم.
في هذا السياق، ينبغي أن يوضع سقف زمني تنتهي فيه عملية التسجيل الإلكتروني، مستفيدين من الإمكانات التي توفرها التكنولوجيا الذكية لهذا الغرض، في إطار عملية محكمة تتسم بأعلى درجات الدقة والقدرة على التدقيق والفحص والإقرار. وإذا قامت قيادة منظمة التحرير في أعقاب ذلك بالتقاط هذه الإشارة وعدّلت من مسيرتها، فإنّ على هيئة متابعة أعمال المؤتمر الشعبي وضع مخرجات عملية التسجيل الإلكتروني في خدمة مشروع إعادة هيكلة المنظمة وانتخاب قيادتها ديمقراطيا.
أما في حال أصرت تلك القيادة على صمّ أذنيها، فعلى هيئة المتابعة استكمال إجراءات انتخاب الجسم التمثيلي لفلسطينيي الخارج، ودعوة قطاع غزة أيضا للسير على ذات النهج، إلى أن تتاح ظروف الضفة الغربية لعمل ذات الإجراء، لضمان تكوين جسم موحد معبر تعبيرا سليما عن الإرادة الجمعية الفلسطينية.
الخطوة العملية المذكورة سوف تعكس نية جادة في التغيير، بينما إذا خرج المؤتمر ببيانات تعلن عن هيئات أو شعارات أو مبادئ نظرية درجت عليها العادة، فإنه يُخشى أن يكون مجرد حدث عابر كغيره من المؤتمرات، ما سيتسبب في المزيد من الرخاوة في الحالة الفلسطينية.