سأحكي لك قصة (حقيقية) ... صل على النبي العظيم في هذا الشهر الكريم!
***
في عام 2014، وبعد أقل من عام على الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو 2013، داهمت قوات من الجيش أحد المولات الشهيرة جدا، على أحد الطرق الصحراوية التي يتولى الجيش مهمة تجديدها، فوجئ أصحاب المول بهذه القوات تطالبهم بإخلاء المساحة الأمامية من الأرض (مساحة باركينج مخصصة لصف سيارات الزائرين).
حين أخرج المحامي أوراقا تدل على أن هذه الأرض ملك لأصحاب هذا المول التجاري بعقد رسمي مسجل منذ عشرات السنين، سمع من السادة الضباط ما لا يسره، ووجهت له تهديدات غريبة.
بدأوا بتهديده بأنهم سوف يستولون على المساحة التي يريدونها غصبا، وبسبب رفضه فسوف يقيمون (كوبري مشاة) عقابا له أمام باب المول مباشرة، أي إن مدخل المول سيتحول إلى (موقف باصات) وهيهات أن يتمكن أو أن يرغب أحد في زيارة المول لو حدث ذلك.
كل ذلك حدث فجأة، دون أي إنذار سابق، ودون أي محاولة لإظهار الأمر وكأن له سندا قانونيا ما، بل كان الأمر واضحا كالشمس، مجموعة مسلحة، ومعها مدرعات، تطالب مجموعة من المدنيين بتسليم أرض يملكونها منذ عشرات السنين.
بدأ أصحاب المول بعمل اتصالاتهم، فكلموا فلان بيه، وعلان باشا، وفلانة هانم زوجة سيادة اللواء، والآنسة علانة بنت سعادة الفريق!
في النهاية ... تدخلت شخصية أو شخصيات كبيرة في الموضوع، وتم الوصول إلى اتفاق، بمقتضاه يتنازل أصحاب المول عن مساحة 4 أمتار بطول مساحة الباركينج (الباركنج طوله حوالي مائة متر)، ويقومون ببناء الشكل الهندسي المطلوب على حسابهم (حديقة صغيرة مع شكل ديكوري يمتد بطول الطريق)، على أن يستلمه الاستشاري (الجيش)!
ويتم نقل كوبري المشاة إلى مكان آخر، ولكن على أن يتم تشييده على حساب أصحاب المول.
حين عرض أصحاب المول أن يشيدوا هم كوبري المشاة عن طريق مقاولهم الخاص، رفض السادة الضباط، وأمروه بتسديد تكلفة الكوبري للهيئة الهندسية، (طبعا لست محتاجا أن أقول لك عزيزي القارئ إن ما سددوه كان أضعاف التكلفة الحقيقية المنطقية للكوبري).
***
هذه القصة (دون أسماء، ودون عناوين لعدم الإحراج) حدثت مع أناس لهم نفوذ كبير، وهم بالمناسبة (موالون للنظام)، ولا علاقة لهم بأي شكل من الأشكال بالإخوان المسلمين أو بالتيار الإسلامي.
هذه القصة حدثت في عام 2014 أي قبل أن يصدر السيد "سيسي" القرار الجمهوري رقم 233 لسنة 2016، الذي يقضي بتخصيص 2 كيلومتر على جانبي 21 طريقا لوزارة الدفاع كمناطق استراتيجية ذات أهمية عسكرية.
هذا السفيه يعتبر أن الأراضي التي تجاور الطرق الصحراوية مناطق استراتيجية، ويعتبر أن لها أهمية عسكرية بالغة، ولكنه لا يرى في جزيرتي "تيران" و"صنافير" أي أهمية استراتيجية !!!
لقد صودرت مئات الأفدنة من الناس على جانبي الطريق في أثناء تشييده، وهذه القصة مجرد واحدة (وغيرها كثير جدا)، وكلها حدثت قبل صدور القانون، فكيف سيكون الوضع بعد صدور هذا القانون ؟!
سيصبح للقوات المسلحة حق احتكار المنشآت التجارية والسياحية على كل هذه الطرقات، وبإمكان المواطن أن يختار أي مقهى على الطريق ليشرب فنجان قهوته برعاية الجيش، ولكنه إذا طلب قهوته سادة، فأحضرها المجند زيادة، لا بد أن يشربها (والجزمة على رقبته)، لأنه إذا اعترض سيعرض نفسه لمحاكمة عسكرية، لأن كل تلك المطاعم والمقاهي ... منشآت عسكرية.
هنيئا لكل الذين أرادوا أن يعيشوا في دولة مدنية حديثة، يتساوى فيها المواطنون، هنيئا لمن قالوا لنا إن القوات المسلحة هي "بيت الوطنية
المصرية"، ثم هم اليوم ساكتون عن كل هذه المهازل، بل ما زال بعضهم مستمرا في موالاته.
ولكن ... هل انتهت نعمة المعيشة في الدولة المدنية إلى هذا الحد؟
لا ... انتظر !
***
لقد قلت في مقالات سابقة إن هذه الدولة ليست دولة عسكرية فقط، وليست دولة دينية فقط، بل هي دولة (عسكدينية)، منهجها هو (العلمانية المموّهة) :
(إنها العلمانية المموّهة، تُمَوِّهُ الحياة كلها، فتصبح مواضيع الحياة تنبع من مشكاة واحدة، توقد من "زيت" الشؤون المعنوية، ويحليها "سكر" أمن الدولة، لا فرق بين ديني ودنيوي، لا فرق بين ما لله وما لقيصر، لا فرق بين نصوص القرآن، واتفاقيات ترسيم الحدود التي تمنح حقول الغاز المصرية في البحر المتوسط لإسرائيل وقبرص، فكل ذلك قد لبس زي الصاعقة، ووضع "البيريه" معوجا، وقال للجنرال : "تمام يا افندم).
***
كلنا نتابع الآن مهزلة القبض على المجاهرين بالفطر في رمضان، وإغلاق المقاهي والمطاعم "المخالفة"، ومصادرة المنقولات في هذه المقاهي، دون سند من قانون.
لا يهمني الرأي الشرعي في هذه الممارسات، فخطابي موجه لهؤلاء الذين شاركوا في تخريب المسار الديمقراطي، بدعوى أننا نعيش تحت حكم فاشي ديني، يخطط لإقامة دولة دينية، هؤلاء أوجه لهم سؤالا واحدا: (هل شاهدتم أقذر من هذه الممارسات الفاشية المتخلفة التي تحولنا لدولة "مطاوعة" بها مؤسسة "أمر بالمعروف ونهي عن المنكر"؟ ... هل شاهدتم أقذر من ذلك؟)
أجيبوني يا أنصار دولة القانون، يا دعاة المدنية !
***
لا يوجد إلا إجابة واحدة على هذا السؤال، لقد دفعنا ثمن الانقلاب على المسار الديمقراطي، ولا حياة لنا جميعا إلا بالتوحد مرة أخرى في وجه هذا النظام الفاشي، لا حياة لنا إلا بإسقاط هذه العصابة (العسكدينية)، التي تستقوي بالسلاح، وتستخدم الدين، وتقتل الناس باسم الله، وباسم الوطنية، وتبيع الأرض بلا أدنى خجل.
إما أن نتحد، وإما أن تعيش مصر عهدا قد لا ينتهي إلا بفناء هذا البلد.
نحن أمام خطر وجودي يهدد بلدنا، وثقافتنا، ومتاحفنا، ومبانينا، وحقولنا، ومصانعنا، وجامعاتنا، وجوامعنا، وكنائسنا، والأهم من كل ذلك أنه يهدد قيمنا الحضارية الراسخة.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين...
موقع إلكتروني : www.arahman.net
بريد إلكتروني :
[email protected]