ألقى الحوثي آخر ما في جرابه، فإذا بها حية تسعى، ليمثل ما ألقاه الفصل الثالث من المؤامرة على الثورة
اليمنية.
البداية كانت بقبول ثورة اليمن بالدنية، وبأنصاف الحلول، على النحو الذي قبلت به الثورة
المصرية، عندما هتفت لتنحي مبارك، ووافقت على قراره بتسليم السلطة لرجاله؛ أعضاء المجلس العسكري، الذين صنعهم على عينه، وسط "زفة" من الجيش الذي حمى الثورة، وكيف أن المخلوع أصدر أوامره لتابعه المشير محمد حسين طنطاوي بأن يقصف ميدان التحرير، فرفض بإباء وشمم، وهو ما نفاه طنطاوي بنفسه في شهادته لتبرئة مبارك من قتل المتظاهرين!.
الثورة اليمنية وافقت على أن يحل "عبد ربه منصور هادي" نائب الرئيس اليمني، محل رئيسه علي عبد الله صالح، وجرى اختياره لهذا الموقع بالتوافق، حتى صارت كلمة "التوافق" من جراء ابتذالها في بلاد الربيع العربي، كلمة سيئة الصيت. ومثل هذا الفصل الأول من المؤامرة على الثورة اليمنية، بموافقة الثوار أنفسهم كما جرى في مصر عقب تنحية مبارك، ليخلفه من بعده المجلس العسكري وبقرار منه.
ولم يحفظ، "بن عبد ربه"، الجميل للثورة، التي انتقلت به من تابع لمتبوع، ومن نائب لعلي عبد الله صالح، ليكون رئيساً للبلاد، فخطط للفصل الثاني من المؤامرة، بأن استدعى قوات الحوثي وتآمر معها، ضمن مخطط خارجي، شارك فيه سيده "علي عبد الله صالح" للإطاحة بـ "الإصلاح" الذي يمثل حزب الأغلبية في اليمن، لكن وجهاء الحزب عندما علموا بالمؤامرة التي أقر بها "الهادي" نفسه، فوتوا عليه الفرصة، وانسحبوا ليجد "بن عبد ربه" نفسه في مواجهة مدفع "الحوثي"، ويلتفت حوله فيجد جيشه المتآمر معه على استقدام الأعداء للتنكيل بالثورة، أعجز من أن يحميه أو يحمي نفسه، وقد تبخر في الهواء الطلق. فالجيوش العربية لم تعد لها سوى مهمة واحدة هي حماية العروش من إنزال إرادة الشعوب فيها، لكن عند المواجهة مع الاحتلال تصبح "كأن لم تغن بالأمس"، ومن العراق، إلى اليمن، يا قلبي لا تحزن!.
"الحوثي"، الذي هو قوة احتلال، وإن حمل الجنسية اليمنية، والمتعطش للفتك باليمنيين، نظر حوله فلم يجد مقاومة، ووجد أمامه الرئيس "ابن عبد ربه" فاختطفه، وربما كان الاختطاف هو للاحتفاظ به كورقة عندما ينظر في "جرابه" فلا يجد فيه شيئاً!.
لقد قدم "الحوثي" نفسه على أنه يمثل الثورة، ومع هذا فقد انطلق ينكل بثوار اليمن، متحررا من تقاليد عربية تعرفها القبائل كما يعرفها أهل اليمن، وهي حرمة البيوت، وحرمة النساء، فكان قراره بحصار منزل من صارت أحد العناوين المهمة للثورة اليمنية "توكل كرمان"، ثم انطلق ينكل بحرية الرأي، وتعتدي مليشياته على المظاهرات الرافضة لوجوده، ويغلق الصحف.
وقد يكون صحيحاً أن "الحوثي" يمثل الثورة، كما ادعى وكما وصفه الزعيم الشيعي الكبير حسن نصر الله، لكنها الثورة المضادة، وذلك بعيداً عن العناوين البراقة التي رفعتها نفس هذه الثورة في مصر يوم 30 يونيو، للانقلاب على الشرعية، وعودة نظام مبارك. وهي مثل اللافتات التي ملأ بها "الحوثي" جدران صنعاء، عن الموت لأمريكا والموت لإسرائيل، مع أن مدافعه موجهة لصدور اليمنيين دون غيرهم.
للأمانة، فإن براءة الاختراع للقب "ابن عبد ربه" هي لخبير العلوم السياسية المرموق، الدكتور عصام عبد الشافي، و"ابن عبد ربه"، كان جده مولى للأمير هشام الرضا، وهو مولود في جدة سنة 246 هـ، وكان شاعراً له في قصائد الغزل صولات وجولات، وعندما تاب وأناب، لم يتب عن نفاق الحكام، وقد انتقل به شعر النفاق من الفقر إلى الثراء!.
وللعلم أيضاً، فقد كنت من الذين وقفوا مع الشيخ حسن نصر الله في عهد مبارك، وفي مواجهة حملات الشيطنة التي يقوم بها إعلامه، لكني أعترف بأنني فوجئت بخطابه الأخير، الذي هو يختلف عن خطابات كان فيها "نصر الله" يتحدث باسم الأمة، ومن موقع زعامة المقاومة. وفي الأخير كان خطاب التمكين، الذي جعله يظهر طائفيته، ويتحدث على أنه زعيم الشيعة العرب، ويساوم دول الخليج، باعتبار أن الخطر من "داعش" وليس منهم، مع أن خطاباً طائفيا مثل تهديداً لدول الخليج كان للحوثيين بعد أن ظن "الحوثي" أنها دانت له في اليمن.
لم أكن يوماً في حياتي محكوماً بانطلاقات مذهبية، ففي اليوم التالي بعد تنحي مبارك، قلت في حديث متلفز، إن الثورة الإيرانية هي الثورة الأم، وينبغي أن تنظر مصر الثورة على أن إيران أقرب إليها من حبل الوريد. وفي حكم الرئيس محمد مرسي كتبت كثيراً مطالباً بعلاقات قوية مع طهران. لكني كنت أتحدث عن إيران الثورة، وما أشاهده الآن هو المذهب وليس الثورة.
لقد أعلن "الحوثي" أنه وضع "ابن عبد ربه" تحت الإقامة الجبرية، لوقت "عوزة"، وفي مداخلة مع قناة دريم "منى سلمان" قال أحد قيادات جماعة "الحوثي"، إن ما فعلوه مع الرئيس "عبد ربه منصور هادي" من تحديد لإقامته، حدث مع محمد مرسي!.
لا بأس، إنه الاعتراف الذي هو سيد الأدلة، فالحوثي هو سيسي اليمن، لكن "ابن عبد ربه" ليس هو "محمد مرسي"، فالثورة المضادة تأكل نفسها عندما لا تجد ما تأكله!.
الدكتور محمد مرسي لم يتآمر على الثورة، ولم يخنها بالغيب مع الثورة المضادة، و"ابن عبد ربه" فعل، ومرسي لم يخضع بالقول ويتنازل عن الحكم عقب اختطافه، وظل إلى الآن شامخاً في مواجهة رجال مبارك وثورتهم المضادة، لكن هناك من قال "أنا عيشة" بمجرد رؤيته للعين الحمراء.
وبعيداً عن كل هذا، فإنني لم أستطع أن أهضم فكرة هروب "الرئيس اليمني المستقيل" من مقر اختطافه، ولم يقنعني الفيلم الهندي، عن السيارة التي دخلت وهي محملة ببعض النساء المنتقبات إلي منزله، ثم خرجت من هناك والرئيس اليمني في زي منتقبة، ولم يكتشف حراسه من جماعة "الحوثي" أنه اختفى إلا بعد إعلان وصوله إلى عدن، على مسافة 400 كيلو متر!.
"ابن عبد ربه" هو ورقة "الحوثي" الأخيرة، التي كان يدخرها في "جرابه" لوقت الحاجة، وها هو المجتمع الدولي يرفض كل الإجراءات التي تمت على الأرض بواسطة الحوثيين، وها هو الخليج يستشعر الخطر الذي تمثله طائفية الحوثي، فيعلن دعمه للقبائل.. وها هي القبائل تخرج لتواجه هذا الاحتلال بعد أن ظنت أن زمن المتآمرين قد ولى، فجيش الهادي، لم يعد له ذكر، كأنه فص ملح وذاب، والهادي نفسه في قبضة الحوثي ورهن الإقامة الجبرية، والثورة الكاملة توشك أن تنتصر وتنهي الثورة المضادة إلى غير رجعة!
فكان لا بد من الدفع باللاعب الاحتياطي "ابن عبد ربه" ليلعب في الوقت بدل الضائع، فقد تراجع عن استقالته وأعلن أنه سيحكم من عدن، دون أن يلبي طلب إعلان صنعاء عاصمة محتلة، ودون أن يطلب من أنصاره مواجهة المحتلين، وظل يتحدث عن اتفاقات عن التوافق الذي وقعه مع الحوثيين!.
وفي المقابل فالثورة رأت في "عبد ربه منصور" باعتباره يمثل الشرعية أنه جزء من الحل، مع أنه الأزمة بشحمها ولحمها، فشرعيته سقطت مرتين: الأولى، عندما تعاون مع الثورة المضادة، ومكنها من اليمن، ضمن مخطط شارك فيه المخلوع وسيده السابق "علي عبد الله صالح".. والثانية: عندما قدم استقالته وأثبت أنه ليس جديراً بثقة اليمنيين!.
الثورة اليمنية تعيش الآن مع ظهور "الرئيس الغائب"، على وزن "الإمام الغائب" - ما دمنا في أجواء شيعية - الفصل الثالث من المؤامرة.
هناك من يعتقد أن "ابن عبد ربه" هو "نصف العمى" الذي هو أهون من "العمى كله"، مع أنه هو العمى الكامل، ووجوده مع أي تسوية ولو انتصرت فيها الثورة سيجعل الخطر عليها قائماً.
إن الخيانة ليست مرضاً عارضاً، ولكنها فيروس يجري في العروق مجرى الدم. واسألوا
السيسي إن كنتم لا تعلمون.
[email protected]