في لحظة الاعتراك السياسي التي تعيشها
اليمن هذه الأيام، تتضارب الرؤى وتتقاطع المصالح وتتنوع الاتهامات، ويوحد الخوف على مصير بقايا الدولة بين المتحاورين والإخوة الأعداء، فقد كشفت
استقالة الرئيس
هادي عن خيبة كبيرة، وغباء أكبر مارسه الرئيس أثناء فترة حكمه (ثلاث سنوات إلا شهرا!).
حكم هادي البلاد بلا رؤية ولا خبرة ولا خيال، وظل فقط يفكر كيف ينتقم من الرئيس صالح وعائلته، وكيف يقلم عناصر القوة التي في يد حلفائه السياسيين والعسكريين، دون خيال أو تصور بما ستؤول إليه الأمور، وفي مصلحة من كل ما يفعل، ليكتشف لاحقاً أنه ضرب عوامل قوته بعنف كبير، وأصبح رجلا بلا قوة ولا قدرة.
ليس هناك ما يعبر عن استياء أو غضب أبداه الرئيس هادي تجاه الجماعة الحوثية، ومنذ توليه السلطة وحتى اللحظة لم يصدر قراراً واحداً ضد السلوك المليشاوي، بل يسير موازياً لرغبات الجماعة الحوثية، وأحياناً يمهد لها الطريق ويوفر لها فرصة الاحتجاجات المتبوعة بالاقتحام والتوسع، كقرار رفع الدعم عن المشتقات النفطية بصورة مجحفة، جعلت البنك الدولي نفسه يبدي مخاوفه منها، ووفر بذلك ذريعة للحوثيين لإسقاط العاصمة، والتخلص من خصومهم السياسيين والعسكريين، وبعدها تراجع عن تلك الأسعار المجحفة.
ومنذ اختطاف الجماعة الحوثية لمدير مكتب رئاسة الجمهورية في 17 فبراير الماضي، وحتى لحظة الإفراج بعد 10 أيام رفض هادي أن يصدر بياناً يدين فيه اختطاف مدير مكتبه.. فهل هناك سلبية وعدمية أكثر من هذه؟!.
وليعقب ذلك هجوم حوثي عنيف ضد القصر الرئاسي، وألوية الحماية الرئاسية طيلة نهار يوم 19 يناير، وانتهى الأمر بسيطرة تامة للحوثيين على معسكرات الحماية الرئاسية (من بينها اللواءان الأول والثالث حرس جمهوري سابقاً، الذي كان يقوده العميد طارق نجل شقيق الرئيس صالح)...
هل يعقل أن خمس أو عشر سيارات تحمل مسلحين حوثيين تتمكن من السيطرة على اللواء الثالث وهو الأقوى في اليمن، هذا الكم الضئيل من المسلحين يسيطر على 230 دبابة T82 القادرة على فصل رأس عن جسد من على بعد عدة كيلومترات.. الحقيقة لم تكن غير توجيهات رئاسية بالتسليم الكامل للحوثيين، فقد قال هادي لقيادي حوثي رفيع إن اللواء الثالث لا يزال يتبع صالح، لذا فسأسلمه لكم، وعليكم أن تتواجهوا مع السناحنة (نسبة لسنحان منطقة الرئيس السابق)..
وكعادة الحوثي الذي يكسب دائماً من غباء الحكام الذين بلا خيال.. فقد ابتلع عتاد الحماية الرئاسية ووضع يده المسلحة على القصر الرئاسي وما حوله من تباب استراتيجية، ثم عاد ليقتحم منزل هادي، ويهينه في عقر داره!
ومنذ فجر الأربعاء 22 يناير كان رأس هادي في قبضة اليد الحوثية.. فقد اقتحموا منزله، بعد معارك استمرت ثلاث ساعات قتل فيها 11 من أفراد أسرته وحراسته، وجرح 38 آخرون، بحسب تأكيد مستشاره سلطان العتواني.. ليعلن استقالته بعدها بثلاثة أيام، احتجاجاً على تعنت الحوثيين في مطالبهم، والتي بدأت بفرض نائب للرئيس ونائب لرئيس الحكومة، وتعيين قادة عسكريين في مواقع كبيرة، والتوجه بجيش الدولة وطيرانها الحربي نحو محافظ مأرب النفطية، وتصفية رجالها البدويين المسالمين وتمشيط الطريق أمام عربات الحوثي الآتية لتصفية الخصوم السياسيين، وتفجير بيوتهم.
لم تأت استقالة هادي احتجاجاً على إسقاط الحوثيين لعمران ونهب أسلحة اللواء 310، ولا احتجاجاً على إسقاط العاصمة، ولا بسبب توسعهم في 10 محافظات.. ولم تكن تعبيراً عن غضب بسبب اقتحام القصر الرئاسي أو محاصرة رئيس الحكومة، أو بسبب اقتحام بيته وقتل ذلك الكم من أفراد أسرته وحراسته، إنما جاءت الاستقالة احتجاجاً على مطالب الحوثيين، خاصة ما يتعلق بقيادة الدولة للحرب في مأرب، التي اعتبرتها السعودية جزء من أمنها الداخلي.
ويمكن قراءة استقالة هادي أنها جزء من عملية ابتزاز وضغط يمارسه ضد مستشاريه من قيادة الأحزاب ودول الجوار، ليضعهم بين حدين: إما أن تقبلوا بمطالب الحوثيين، أو فإن البديل هو الفراغ الدستوري والفلتان الأمني والاحتراب الداخلي، وإذا لم يعره أحد اهتماما أو مطالبة بالعدول عن قراره، فسيعود بذريعة أن ضغوطاً دولية وشعبية مورست ضد قرار الاستقالة، وسيبحث لنفسه عن مخرج بلا قيمة، بدلاً من أن يطالب القوى المحلية والدولية بالضغط على الحوثي للتخفيف من مطالبه غير المشروعة، وتشذيب سلوكه المليشاوي..
سيعمل المحال من أجل شركائه في الخراب من الحوثيين، يقدم لهم كل خدمة جليلة ويقدمون له الشتائم والمهانات في وسائل الإعلام، ويصمت هادي تحت ضغط الوثائق التي يملكونها بشأن قضايا فساد ونهب أموال بمئات ملايين الدولارات مارسها هادي ونجله المثير للجدل جلال هادي.
وفي الجبهة السياسية الداخلية فقد كانت الاستقالة محط سخرية ولا مبالاة ولا أدل على ذلك من إعلان رئيس الدولة استقالته -وقبلها بساعات استقالة حكومة بلاده- عشية الجمعة، ويرد البرلمان بأنه سينظر في استقالة الرئيس يوم الأحد، وهو اليوم الذي غادر عشيته رئيس البرلمان إلى السعودية لتقديم العزاء في وفاة الملك عبدالله. وفي اليوم التالي يصدر البرلمان بلاغاً عن تأجيل جلسة النظر في استقالة الرئيس إلى أجل غير مسمى.
أما صالح الذي أوعز لصديقه ورجله الأمين رئيس البرلمان بالذهاب إلى السعودية فهو نفسه من أوفد أمين عام حزبه إلى صعدة للتفاوض مع الزعيم الحوثي بشأن ترتيب الوضع الرئاسي بعد استقالة هادي... في حين كانت السعودية وهي دولة مؤثرة في صنع القرار اليمني، منشغلة بترتيب شأنها الداخلي بعد وفاة الملك.