تضمّ
فرنسا العدد الأكبر من اليهود على النطاق الأوروبي، أكثر من نصف مليون من حيث ديانة الأمّ والأب؛ وفيها يعيش 750 ألف ممّن يسري عليهم قانون «حقّ العودة» واكتساب الجنسية الإسرائيلية (جدّ واحد يهودي، على الأقلّ)؛ ومقابل كلّ 1000 مواطن فرنسي، هنالك 6.87 يهودي؛ وبذلك فإنّ فرنسا (نحو 65.300 مليون نسمة) تعدّ في المرتبة الثالثة، عالمياً، من حيث أعداد السكان اليهود.
هذه معطيات إحصائية ديموغرافية، وعلى أهمية دلالاتها فإنها غالباً غير مرشحة بالضرورة لتوفير المزيد من عناصر التأثير على حقيقة كبرى راسخة تتصل بخصوصية فرنسا البلد في الذاكرة اليهودية الحديثة والمعاصرة عموماً، من جانب أوّل؛ أو في التوظيف الصهيوني لهذه الخصوصية، من جانب ثانٍ، على مستويات سياسية واجتماعية ــ اقتصادية وعقائدية وإعلامية وثقافية، خصوصاً.
هنا، في باريس، تواترت فصول محاكمة الضابط الفرنسي اليهودي ألفريد دريفوس، الذي استثار رسالة إميل زولا الشهيرة «إني أتهم!» في سنة 1898؛ بالنظر إلى براءة الرجل، وكذلك مناخات العداء للسامية التي عمّت شوارع فرنسا وشهدت على ألسنة الحشود الغفيرة ولادةَ الهتاف الشهير: «الموت لليهود!».
هنا، في باريس هذه السياقات ثانياً، كان صحافي نمساوي يهودي يدعى تيودور هرتزل يعمل مراسلاً لـ«الصحافة الحرة الجديدة» أبرز المطبوعات الليبرالية في أوروبا تلك الأيام. ورغم أنّه لن يشهد تبرئة الضابط البريء دريفوس، لأنه توفي عام 1904، فإنّ مناخات تأثيم اليهود كانت أحد أبرز حوافزه لكتابة مسرحيته «الغيتو الجديد» التي ترصد انعزال مختلف الطبقات الاجتماعية والثقافية ليهود فيينا في صيغة أقرب إلى الغيتو.
ثمّ كرّاسه الأشهر «الدولة اليهودية» الذي لم يتوّجه في موقع الأب المؤسس للحركات الصهيونية فقط، بل كان النصّ ذاته بمثابة تبشير مبكّر بفكرة يهودية دولة
الاحتلال كما تعاقبت صياغاتها تباعاً.
وهنا، ثالثاً، موطن «عقدة الذنب» التي لا تُمحى عواقبها ولا يُحسم النقاش حولها، حول المسؤولية الفرنسية عن ترحيل عشرات الآلاف من اليهود إلى معسكرات الاعتقال النازية خلال فترة حكومة فيشي (1940ــ1944): هل تقع على عاتق فرنسا/ الأمّة بأسرها، كابراً عن كابر، كما ساجل يهود فرنسيون صهاينة؟ أم هي فرنسا/ الدولة، البيروقراطية الخاضعة لاحتلال نازي، حيث المؤسسات الحكومية خاضعة مأمورة؟
في الهرم الأعلى من رئاسة الجمهورية الخامسة، كان أربعة رؤساء (شارل دوغول، جورج بومبيدو، فاليري جيسكار ديستان، وفرنسوا ميتيران) قد اعتنقوا التأويل الثاني؛ وفي سنة 1995 استقرّ الرئيس جاك شيراك على التأويل الأوّل، فاعتبر أنّ حكومة فيشي كانت الدولة، وفرنسا الرسمية، وبالتالي فهي مسؤولة عن الترحيل.
لا حاجة، أغلب الظنّ، إلى أكثر من هذه السياقات الثلاثة لقراءة آخر مسرحيات النفاق الفرنسي، الحكومي والشعبي معاً، تجاه يهود فرنسا في المقام الأوّل؛ ودولة الاحتلال الإسرائيلي، في الجوهر الأهمّ والأشدّ صفاقة؛ حتى إذا اقتصر الأمر على مباراة كرة قدم بين الفريق الوطني الفرنسي والفريق الإسرائيلي، ولكن ربما تحديداً لأنه لا يقتصر على الجانب الشكلي من المسألة الأعمق.
وعند كتابة هذه السطور كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس وزرائه ميشيل بارنييه، وسلفه الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، ورئيسة منطقة العاصمة فاليري بيكريس؛ هم السباقون إلى إعلان حضور هذه المباراة، والمتبارون في أيّهم يغطي النفاق الفاضح بالعبارة المفضوحة.
الرئاسة الفرنسية أعلنت أنّ حضور ماكرون في الملعب هو «رسالة أخوّة وتضامن بعد أعمال العداء للسامية التي أعقبت المباراة في أمستردام، ولا يمكن التسامح معها». بيكرس، من جانبها، تحضر المباراة لأنها «أُصيبت بالهلع إزاء صور أمستردام» و«الجمهورية لن تسمح لأحد باضطهادها».
وزير الداخلية برونو ريتايو، الذي أخرجه ماكرون من قبعة يمين مندحر يزعم الديغولية ولا يتمسح إلا باليمين المتطرف، صوّر المباراة وكأنها تجري بين «قِيَم» الجمهورية الخامسة وفلول البرابرة أعداء الحرية والديمقراطية. ولقد بدأ من رفض نقل المباراة إلى موقع آخر (كما فعلت بلجيكا مثلاً، حين نقلت مباراة فريقها الوطني مع الفريق الإسرائيلي من بروكسيل إلى ديبرستين في هنغاريا)؛ ثمّ ذهب أبعد حين فسّر قراره هكذا: «فرنسا لن تتراجع، لأنّ ذلك يعني الاستسلام في مواجهة تهديدات العنف ومعاداة السامية»ّ.
محافظ العاصمة أمر بنشر نحو 4.000 شرطي حول الملعب وفي داخله (وهذا ممنوع، طبقاً لتعليمات الاتحاد الدولي لكرة القدم) بالإضافة إلى 1.600 من موظفي الستاد الأصليين؛ وأمّا جمهور الكرة، بالغ التحمس عادة لفريقه الوطني الفرنسي، فلم يحجز سوى 20.000 بطاقة، من أصل 80.000، في إشارة لا تخفى نحو تأكيد خيار المقاطعة.
دافيد غيرو، النائب عن حزب «فرنسا الأبية» خاطب صنّاع مسرحية المباراة هكذا: ”لا تنسوا، وأنتم تصفقون للفريق الذي يمثّل دولة ترتكب إبادة جماعية، أنه في غزّة لم يعد هناك ملعب لكرة القدم. ومع ذلك، فإن المنتخب الإسرائيلي يطلق النار، ولكن في صدور الأطفال. لا تنسوا أنه في فلسطين، كما في لبنان، الضربات جوية وتقتل الأبرياء».
لقد أسمعَ غيرو لو نادى أحياء، ولكن أيّ حياة لمنادى مثل وزير الداخلية ريتايو ابتلع لسانه، قبل أيام قليلة فقط، حيال المشهد المهين لإقدام الشرطة الإسرائيلية على اقتحام حرم موقع إليونا الديني الواقع تحت الوصاية الدبلوماسية الفرنسية، الأمر الذي دفع وزير الخارجية الفرنسي جان ــ نويل بارو إلى الامتناع عن دخول المكان؛ وانتهاء المشهد باعتقال مهين لاثنين من عناصر الدرك الفرنسيين حرّاس القنصلية في القدس.
وقال غيرو، من داخل الجمعية الوطنية برلمان فرنسا: ”سيدي وزير الداخلية، أنت الذي عادة ما تكون سريعاً جداً في الحديث، لقد كنت متحفظاً للغاية عندما قامت الشرطة الإسرائيلية في فلسطين المحتلة باعتقال اثنين من رجال الدرك الفرنسيين». كان صامتاً بالطبع، كما كانت حال قصر الإليزيه غير المعتاد على السكوت عن إهانة «الجمهورية»؛ وكانت حال بارو، أيضاً، الذي لاذ بالعبارة المهذبة الشهيرة «غير مقبول»…
وقد لا تكون هذه الأحوال الفرنسية بمنأى عن منزلقات سابقة ومحورية ذهب إليها الرئيس الفرنسي شخصياً، ومنذ الأيام الأولى لحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، حين ارتجل مبادرة مضحكة قوامها دفع التحالف الدولي، المتواجد في المنطقة ضدّ «داعش» أساساً؛ إلى التوجه صوب القطاع، والقتال ضدّ «حماس».
صحيح أنه تراجع عنها، بين ليلة وضحاها تقريباً، في تصريحات تالية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس والملك الأردني عبد الله والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي؛ إلا أنّ جهل ماكرون وانحيازه إلى الاحتلال وحاجته إلى تعظيم ذاته، فضلاً عن خلائط جهالة أخرى متقاطعة، دأبت على إعادة إنتاج ذاتها منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وحتى موعد مباراة فرنسا ودولة الاحتلال.
وليست تلك الخلائط مرشحة لمراجعات جدية أو تبدلات جوهرية، وما تكرر مع وزير الداخلية السابق جيرار دارمنان، لجهة حظر تظاهرات تأييد الفلسطينيين واضطراره إلى التراجع أمام رأي مضادّ صدر عن مجلس الدولة؛ يتكرر اليوم مع خليفته ريتايو بصدد ملفات أخرى عديدة، ليس الحماس الهستيري لتطويق مباراة كرة قدم سوى الأحدث فقط في فصولها.
وثمة في العمق نسخة من صناعة الهولوكوست فُصّلت على مقاييس فرنسا تحديداً؛ لا تُستعاد خلالها قضية دريفوس بقلم إميل زولا، بل بلسان مجرم حرب مثل بنيامين نتنياهو؛ وتتساوى في أخلاقياتها ملاعب كرة القدم مع ساحات القتل والإبادة والتجويع والتهجير، في قطاع
غزة.
القدس العربي