رغم أنه لا يوجد ما يثبت وجود دور للولايات المتحدة في إسقاط نظام الأسد في
سوريا، إلا أن المسؤولين الأمريكيين يرون فيما جرى تعزيزاً لمكانة ونفوذ بلدهم في المنطقة. فهم يعتبرون سقوط الأسد ضربة قاصمة لنفوذ خصوم أمريكا، روسيا وإيران والقوى الإقليمية المتحالفة معهما.
مثل هذه الحسبة متوقعة في الصراع بين المحاور على الساحة الدولية. ولكن أياً كان التقدير الأمريكي، لا يوجد أدنى شك في أن ما حدث في سوريا فاجأ أمريكا كما فاجأ غيرها من القوى الإقليمية والعالمية، أي رغماً عنها وليس بإرادة منها. لا يمكن وصف ما حصل في سوريا إلا باعتباره إنجازاً تاريخياًَ لشعب مظلوم تمكن أخيراً من كسر الأغلال ليتحرر من الاستبداد ومن القهر والفساد. مثل هذا الإنجاز العظيم لا يمكن بحال أن يعتبر نصراً لأي قوة استعمارية أجنبية مثل الولايات المتحدة ولا لوكيلها في المنطقة، الكيان الصهيوني.
ولذلك تسعى الولايات المتحدة الآن، وبشكل محموم، إلى ترتيب الأوضاع بالتعاون مع شركائها في المنطقة لضمان إبقاء الأمور تحت السيطرة. بينما يقوم الكيان الصهيوني بشن اعتداءات وتدمير كل ما يظنه مظهراً من مظاهر القوة العسكرية أو العلمية في سوريا المحررة، فيما اعتبر إجراءً استباقياً لضمان عدم وصول ذلك إلى أيدي حكام سوريا الجدد. وفي هذا وذاك أوضح الأدلة على أن نظام بشار، وإن لم يكن حليفاً لأمريكا ولا جزءاً مما يسمى معسكر الاعتدال (الصهيوني) في المنطقة، إلا أنه كان أمراً واقعاً تأقلم الأمريكان والإسرائيليون على التعايش معه، بل وحرصوا على استمراره خشية من بديل لا يسرهم.
لقد كان التدخل الإيراني ثم الروسي بالفعل من أهم عوامل تمكين نظام بشار الأسد وضمان بقائه في الحكم بعد إجهاض الثورة قبل ما يقرب من عقد من الزمن، إلا أن الولايات المتحدة هي التي قررت منذ اللحظات الأولى للثورة الشعبية عام 2011 أن إسقاط النظام الطائفي ومجيء بديل إسلامي ديمقراطي إلى الحكم في دمشق يمثل خطراً على المصالح الغربية وعلى المشروع الصهيوني في
فلسطين، ولذا لعبت دوراً لا يقل أهمية عن دور الإيرانيين والروس في قطع الطريق على الثورة وفي تثبيت النظام طوال الأعوام الماضية.
ثمة من يعتقد بأن إسقاط نظام بشار الأسد يعتبر خسارة للقضية الفلسطينية، وذلك باعتبار أن النظام كان جزءاً مما يسمى محور المقاومة. لكن هذا المحور، وعلى الرغم من كل مساهماته التي لا تنكر في دعم المقاومة في فلسطين، هو في الأساس جزء من صراع على النفوذ في الإقليم. لكن مشكلة هذا المحور تكمن في أن بعض أهم أركانه لم تكن تؤمن بحق الشعب العربي، في المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج، في الحرية والكرامة. بل ساهمت هذه الأركان في دعم الاستبداد والظلم والقهر، كما تجلى في الدور الذي مارسته إيران وبعض أذرعها الطائفية من جرائم ضد الشعب في سوريا خلال ما يزيد عن عقد من الزمن. وهل يمكن لمن لا يؤمن بحق الشعب العربي في الحرية والكرامة أن يكون مؤهلاً لتحرير فلسطين من
الاحتلال الصهيوني؟
يضاف إلى ذلك أن النظام السوري البائد لم يزل يؤدي واجبه على أكمل وجه في حراسة الحدود مع الكيان الصهيوني حفاظاً على الأمر الواقع. ولم يحصل بتاتاً أن بادر، ناهيك عن أن يسمح، بأي جهد يذكر انطلاقاً من الأراضي السورية من أجل تحرير الجولان المحتل منذ عام 1967. لا ريب أن تلك من الأمور التي كانت تلقي بظلال من الشك على نوايا النظام من الانتساب إلى محور المقاومة.
في المحصلة، لا أتصور أن فلسطين، رغم كل تضحيات وصمود أهلها، الذين لا خيار لديهم سوى مقاومة الغزو الصهيوني بكل ما أوتوا من قدرات وإمكانيات، يمكن أن تتحرر طالما ظل العرب من حولها في الأصفاد، وطالما ظلت عواصم العرب محكومة بأنظمة فاسدة مستبدة، تكتظ سجونها بالآلاف من العلماء والمفكرين والنشطاء المطالبين بالإصلاح، تديرها عصابات تهرب خيرات البلاد إلى الخارج لإثراء حفنة من المتسلطين على رقاب الناس. وهل كانت فلسطين ستبقى أسيرة في أيدي الصهاينة منذ عام 1948 وحتى الآن لولا هذا الوضع المأساوي الذي ترضخ له الشعوب العربية؟
ما كانت فلسطين لتتحرر وسوريا مغتصبة، ولا أظنها سوف تتحرر ومصر أسيرة المشروع الصهيوني.
ولذلك، نستبشر خيراً بتحرر الشام، ونتفاءل بأن المستقبل سيشهد مزيداً من الفتوحات التي ستعيد للشعوب العربية حريتها وكرامتها وقرارها، والتي لا مفر من أن تعبد طريق العودة إلى فلسطين.