الأرجح أنّ السُذّج وحدهم، والمتغافلين عن سابق قصد وتصميم، هم في طليعة الذين «قبضوا» الإعلان الأوّل الصادر عن وزارة الخارجية الفرنسية بصدد مذكرتَيْ الاعتقال اللتين أصدرتهما محكمة الجنائية الدولية بحقّ رئيس حكومة
الاحتلال بنيامين
نتنياهو ووزير حربه المقال يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزّة؛ وجاء فيه، باسم الخارجية وعلى لسان الوزير جان ــ نويل بارو، أنّ
فرنسا سوف تلتزم بقوانين المحكمة، وستحترم القرارات الصادرة عن المحكمة.
وعلى نقيض امتناع فرنسا عن اللجوء إلى الذريعة الركيكة ذاتها بصدد مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة بحقّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استفاقت الخارجية الفرنسية على معطى يفيد بأنّ دولة الاحتلال ليست ضمن لائحة الموقّعين على نظام روما الذي أسّس للمحكمة (حالها في ذلك حال روسيا)؛ وبالتالي، فإنّ نتنياهو «يمكنه التمتع بالحصانة» على الأرض الفرنسية، فلا يكون لمذكرة اعتقاله أيّ مفعول إجرائي.
وجاء في «الفذلكة» القانونية المرافقة أنّ نظام روما لا يجيز مطالبة دولة ما بالتصرّف على نحو لا يتطابق مع التزاماتها بموجب القانون الدولي حول حصانات الدول غير الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية؛ وهذه حصانات تنطبق، غنيّ عن القول، ليس على نتنياهو وحده، بل على «الوزراء الآخرين المعنيين» حتى إذا انتزع نتنياهو الحقيبة الوزارية من أيديهم.
وإلى جانب السذّج والمتغافلين، ثمة فئة ليست أقلّ تفذلكاً، سارعت إلى تبرئة فرنسا الحكومية من آثام الانقلاب رأساً على عقب بين تصريح وآخر نقيض له، خلال أيام قلائل، عن طريق المساجلة بأنّ إعفاء نتنياهو من الاعتقال على الأرض الفرنسية كان صفقة تبادل مباشرة لقاء موافقة الأخير على مشاركة باريس في الإشراف على تطبيق وقف إطلاق النار مع «حزب الله» وفي مراقبة انتشار الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني، وضبط بوّابات تهريب السلاح إلى الحزب؛ ولم يتبقَ إلا القول بأنّ نتنياهو أجاز للرئيس الفرنسي التدخل في «هندسة» انتخاب رئيس لبناني جديد.
وقد تصحّ منافحة كهذه، أغلب الظنّ في قليل شكلاني فقط وليس في كثير جوهري؛ لولا أنّ الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون يحمل على كتفيه أثقال مبادرات مماثلة، أقصى انحيازاً إلى دولة الاحتلال وأقلّ اكتراثاً بالحقوق الفلسطينية عموماً، ثمّ بعد «طوفان الأقصى» وإطلاق حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، خصوصاً.
فهذا الذي ينحني أمام نتنياهو، أو يقايضه عند الذين استطابوا تجميل صفحة ماكرون، هو نفسه الذي التحق سريعاً بصفوف «حجيج» أمريكي وبريطاني وألماني وإيطالي واتحاد ــ أوروبي… عانق نتنياهو في سياق إعراب عن تأييد مطلق وغير محدود لجرائم الحرب والإبادة التي انخرط فيها الاحتلال سريعاً ضدّ الفلسطينيين المدنيين في قطاع غزّة.
وكان في وسع المتابع لمشهد انتقالات الموقف السياسي والدبلوماسي الفرنسي من تخبّط إلى آخر، ابتداء من شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 وحتى اليوم، أن يسجّل سلسلة المحطات التالية: 1) ارتجال ماكرون فكرة ساذجة كسيحة تطالب التحالف الدولي ضد «داعش» (وهو أمريكي/ بريطاني، ومشاركة فرنسا فيه تضعها على قدم المساواة مع البوسنة والهرسك مثلاً!) بالانتقال إلى قطاع غزّة والقتال ضدّ «حماس».
و2) كلمة وزيرة الخارجية الفرنسية يومذاك، كاترين كولونا، أمام مجلس الأمن الدولي، والدعوة إلى هدنة إنسانية تمهد لوقف إطلاق النار.
و3) بيان رئيسة الحكومة الفرنسية آنذاك، إليزابيت بورن، أمام البرلمان، المطالب بهدنة إنسانية أيضا.
و4) وجهود قصر الإليزيه الحثيثة للتخفيف من سخف فكرة ماكرون، حيث انضمّ الرئيس نفسه إلى جوقة التصحيح خلال لقاءات لاحقة مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس والملك الأردني عبد الله والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
سُعاة تبرئة ماكرون من جرائر هذا التخبط، بذرائع مضحكة على غرار القول إنّ وزراء خارجية فرنسا تبدلوا ثلاث مرات منذ «طوفان الأقصى» يتناسون عن عمد أنّ السياسة الخارجية والدفاع هما ملعب الرئيس الفرنسي الحصري بموجب أعراف الجمهورية الخامسة؛ عدا عن حقيقة أنّ وزراء ماكرون عموماً يندر أن يغادروا صيغة البيدق والمأمور المنفّذ.
وإلى جانب ما يكنّه ماكرون من «عشق» طافح لدولة الاحتلال عموماً، وشخص نتنياهو خصوصاً، فإنّ الكامن عميقاً في خيارات الرئيس الفرنسي حول السياسة الخارجية لا يخرج كثيراً عن المعايير التي تسقف تفكيره بصدد السياسات الداخلية.
إنه المنافح الأكبر عن فلسفة نيو ــ ليبرالية اعتنقها مبكراً، وأعلن عنها في برامجه الانتخابية منذ ترشيح نفسه للرئاسة الأولى؛ بل في الوسع الافتراض بأنها كانت «البصمة» الشخصية التي دفعته إلى مغادرة وزارة الاقتصاد في حكومة مانويل فالس، خلال عهد الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند.
أبرز خطوط تلك البصمة كان ذلك المزج البارع بين اليسار (في شؤون الحقوق المدنية العامة، بصفة خاصة)؛ واليمين (في الاقتصاد والسياسات الضريبية، جوهرياً)؛ والوسط (في الملاحة بين قطبَيْ الاشتراكية الفرنسية واليمين الديغولي). وفي الأصل كان إرث سنوات من العمل المصرفي المعولَم قد أكسبه ثقافة مالية روتشلدية بامتياز، تخصّ المال والأعمال أوّلاً بالطبع، ولكنها تنسحب على ما يمثّله آل روتشلد في المشروع الصهيوني.
البعض لمس فيه شخص بونابرت، لجهة توحيد متناقضات فرنسا والسباحة فوق كلّ الأمواج المتلاطمة؛ والبعض الآخر (وكاتب هذه السطور في عدادهم) رأى فيه شخص الحالم بإعادة إنتاج «منجزات» بريطانية تُنسب إلى مرغريت ثاتشر تارة، وتوني بلير طوراً، وذروة الحلم كانت تطبيق ذلك المزيج في فرنسا اليعاقبة والثورات الاجتماعية العارمة… دون سواها !
وعلى لسان دبلوماسي فرنسي مخضرم، تنقل كليا كولكت مراسلة موقع «بوليتيكو» في أوروبا أنّ خطّ التخبط والتأرجح في سياسة ماكرون تجاه الشرق الأوسط عموماً، والنزاع الفلسطيني ــ الإسرائيلي خصوصاً، يمكن ببساطة اختصاره هكذا: «بعض المسؤولين حول الرئيس منحازون إلى إسرائيل تماماً، وبعضهم الآخر مناصرون للفلسطينيين؛ ويسود غالباً الانطباع بأنّ الرئيس يذكر آخر شيء قيل له» من طرف أو آخر.
وعلى سبيل المثال، بعد «المناوشة» الكلامية الأخيرة بين نتنياهو وماكرون، لاح أنّ مجموعة الضغط الإسرائيلية في وزارة الخارجية الفرنسية هي التي كانت صاحبة الكلمة الأخيرة؛ بالنظر، حسب دبلوماسي فرنسي مخضرم آخر، إلى أنّ سياسة ماكرون حول الشرق الأوسط «يمكن أن تتغير في اليوم الواحد ذاته، طبقاً للجهة التي أعارها الرئيس أذنيه».
وبصرف النظر عن مقادير الصحة، أو الكاريكاتور، في هذا التشخيص الذي يمسخ رئيس قوّة أوروبية اقتصادية وسياسة وعسكرية/ نووية إلى آذان تحيل الإصغاء إلى مواقف دولية، حسب ما يُهمس للرئيس؛ فإنّ الكثير من الدلائل تجمعت وتقاطعت وتكاملت وتنافرت وتطابقت، في آن معاً أحياناً، كي تؤكد قسطاً غير قليل من عناصر ذلك التشخيص.
وإذا كان آخر الأدلة تراجع فرنسا عن خيار الالتزام بمذكرات الجنائية الدولية الخاصة بتوقيف نتنياهو ووزرائه، فإنّ أحدث البراهين في الجوانب الإنسانية التي تخصّ جرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزّة هو فشل فرنسا في الوفاء بتعهدّ طرحه ماكرون شخصياً في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 وتضمن استقبال 100 طفل غزاوي في مشافي فرنسا، فلم يصل منهم إلا 17 طفلاً رغم انقضاء سنة ونيف على الوعد.
وعلى منوال حال عتيقة تشير إلى أنّ الأذن يمكن أن تعشق قبل العين، وفي ضوء خطوط الإليزيه المتعرجة بصدد قطاع غزّة ودولة الاحتلال، ليس من العسير التكهن بالجهة التي يعيرها ماكرون أذنيه.
القدس العربي