مقالات مختارة

فرنسا: لا نقبل الإهانة (إلا من إسرائيل)!

مالك التريكي
جيتي
جيتي
من أعجب المواقف التي قد تصادف المرء أحيانا، أن يشهد حادثة يتعرض فيها شخص آخر للإهانة، فتستفزّه المظلمة ويفور الدم في عروقه وتتملكه الرغبة في أن يرى الشخص المظلوم يرد الصاع صاعين، فيمحو الإهانة وينتصر لنفسه تعبيرا عن شعور الإباء، المفترض أنه مركز في صميم كل كائن بشري. ولكن العجب العجاب، أن تأخذ المشاهدَ سَوْرةُ الغضب المتلف للأعصاب تضامنا مع المظلوم، بينما يظل المظلوم ذاته ساكنا لا تظهر عليه أي من علامات الغضب والإباء، فيبدو كما لو أنه مجرد طرف خارجي يراقب الحادثة (التي تعرض لها) ببرود الحياد!

ولعل أحدث الأمثلة، هي تلك الحادثة التي وقع ضحيتها وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو. كان في زيارة للقدس الشرقية، في إطار جولة شملت الأسبوع الماضي دولة الاحتلال ومناطق السلطة الفلسطينية، وكان مقررا في البرنامج الرسمي أن يزور مجمع إيليونا، الذي يُؤوي كنيسة باتير نوستر، فوق جبل الزيتون.

وهذا المجمع، هو أحد أربعة أوقاف تملكها الدولة الفرنسية وتديرها قنصليتها في القدس، أي إنها تقع في نطاق السيادة الفرنسية، ولو أنها لا تحظى بوضع مساو لمباني السفارات التي يعدّها القانون الدولي أراضي تابعة للدول التي تمثلها، وليس للدولة التي تستضيفها.

كما تشمل الأوقاف الفرنسية، بحكم امتياز ممنوح من السلطنة العثمانية، دير القديسة مريم للقيامة بقرية أبو غوش؛ وقبور السلاطين؛ وكنيسة القديسة حنة التي أهداها السلطان عبد المجيد الأول عام 1856 إلى نابليون الثالث، والتي يعتقد أنها قائمة حيث عاشت والدة السيدة مريم العذراء. أما كنيسة باتير نوستر، فقد اشترتها امرأة أرستقراطية ثم وهبتها عام 1874 إلى الدولة الفرنسية.

اقتحمت الشرطة الإسرائيلية حِمَى كنيسة باتير نوستر قُبيل وصول الوزير الفرنسي، في انتهاك سافر للأعراف الدبلوماسية واستخفاف بأبسط قواعد التنسيق الأمني. ولأن هذا كان استفزازا متعمدا (بأمر من بن غفير، وربما بمباركة من نتنياهو)، فإن الشرطة لم تكتف باقتحام الحرم الكنسي، بل إنها اعتقلت شرطيين فرنسيين رغم أنهما كانا في داخل الحرم، ورغم أنهما بثياب مدنية، ودون سلاح سوى الهاتف الجوال! وقد تناقلت قنوات التلفزة وشبكات التواصل مشاهد للشرطة الإسرائيلية وهي تعنّف أحدهما، وتوقعه أرضا ثم توثق يديه خلف ظهره، بينما هو يصيح بلا انقطاع: إياكم أن تلمسوني!

فماذا كان موقف الوزير؟ قال؛ إن هذا وضع غير مقبول لأن الشرطة الإسرائيلية دخلت بالسلاح، ودون ترخيص، أرضا تديرها السلطات الفرنسية، وإن من شأن ما حدث أن يضعف العلاقات الثنائية التي أتيت هنا لتعزيزها. ولتأكيد استنكاره، امتنع ساعة عن دخول المزار الديني.

هذا، إذن، كل ما في الأمر! أي نعم، الجواب صحيح! هذه الكلمات الواهنة الخَجْلَى وهذه العبارات المائعة، هي أقصى ما وَسِع الوزيرَ عملُه! بل الأدهى أني لم أسمع طيلة أيام من التناول الإعلامي الفرنسي لهذه «الحادثة الدبلوماسية» أي استنكار للإهانة الإسرائيلية، إلا من مصدرين: العسكري السابق الجنرال نيكولا ريشو الذي قال؛ إن هذا سلوك دولة مارقة. وعضو البرلمان الأوروبي برنار غيتا الذي قال؛ إني لَمندهش كيف أن الوزير لم يقفل عائدا إلى باريس! وقد بثت التلفزيونات، بهذه المناسبة، حادثة المواجهة الشهيرة عام 1996 بين الرئيس شيراك وضباط الأمن الإسرائيليين في القدس الشرقية، وزجره إياهم قائلا: أَفَتريدونني أن أركب الطائرة راجعا إلى فرنسا؟ خلوا بيني وبين الناس!

ولكن، بدل أن يكون موقف شيراك حافزا للمعلقين للتشهير بميوعة موقف الحكومة الحالية، فإنهم ظلوا يتنافسون في فهم حيثيات الحادثة وفي فقه «الحساسية الإسرائيلية». ولكن الباحثة في تشاتهام هاوس سامانتا ديبندارن، هي التي بزّت الجميع لما قالت: الشيء الوحيد الذي يمكن أن يعذر سلوك الإسرائيليين، هو ما إذا كانت سحنة الشرطيين الفرنسيين توحي بأنهما من أصول مغاربية أو عربية! ثم لما انتبهت لسماجة عذرها الفقهي هذا، غردت نادمة: أعتذر، لم أقصد… إلخ.

الغريب، أن المرأة ذاتها علقت على زعم نتنياهو بأن حربه على غزة هي «حرب المدنيّة على الهمجية» قائلة: أدعوكم إلى مشاهدة الصور الآتية من غزة، لتكوّنوا رأيا عمّا هي الهمجية حقا، فأنا لم أعد أقوى على مشاهدتها؛ لأني لا أستطيع بعدها أن أنام (..). أما ماكرون، فهو محقّ عندما قال مُعرِّضا بنتنياهو: «لست متيقّنا أنه يمكن للمرء أن يذود عن المدنيّة إذا كان هو ذاته يَعيث فيها همجية».

القدس العربي
التعليقات (0)