تناولت عدّة تقارير في الإعلام الغربي انهيار
نظام الأسد بالتحليل والتعليق، وبدا أنّ هناك سردية طاغية في هذه التغطيات
والتحليلات التي نقلتها مواقع ومراكز مثل كارنيغي، وبروكينجز، ورويترز،
والأسوشياتد برس، وسكاي نيوز، والبي بي سي، وغيرها بأنّ أحد أهم أسباب سقوط نظام
الأسد هو تخلّي حلفاء نظام الأسد عنه. وتوحي هذه السردية بغض النظر عن هدفها، أنّ
الحلفاء كان بإمكانهم مساعدته ولكنّهم قرروا عدم فعل ذلك، والحقيقة أنّ مثل هذا
التفسير غير صحيح.
هناك سلسلة طويلة من الأسباب التي يمكن لها
أن تفسّر سقوط نظام الأسد السريع منها ما هو آني ومنها ما هو استراتيجي، منها ما
يتعلق بهجوم المعارضة، ومنها ما يتعلق بنظام الأسد، ومنها ما يتعلق بحلفائه،
والبيئة الإقليمية، لكن ليس من بينها أنّ حلفاءه تخلوا عنه ولهذا سقط.
هناك عدّة عوامل تفسّر سقوط نظم الأسد
السريع، منها ما هو آني ومنها ما هو استراتيجي، منها ما يتعلق بهجوم المعارضة،
ومنها ما يتعلق بنظام الأسد، ومنها ما يتعلق بحلفائه، والبيئة الإقليمية، لكن ليس
من بينها أنّ حلفاءه تخلوا عنه ولهذا سقط. لعلّ أبرز هذه الأسباب على المستوى
الآني ما يتعلق بالمعارضين أنفسهم، تليها عوامل أخرى تابعة أقل أهميّة تتعلق بنظام
الأسد نفسه، ومن ثمّ حلفائه في إيران وروسيا، والمطبّعين معه في العالم العربي
وأوروبا.
إيران، روسيا، الولايات المتّحدة، وإسرائيل ساهمت بشكل أو بآخر في دعم نظام الأسد أو في إطالة أمده أو في منع سقوطه منذ اندلاع الثورة السورية. خلال اتصالاته الأخيرة، كان الأسد يراهن على أنّ إعادة إنتاج سردية الإرهاب ستدفع هذه الأطراف إلى المساهمة مجدداً في الدعم السريع الذي يحتاج له.
أبرز هذه العوامل على الإطلاق هي توقيت
الهجوم وسرعته الفائقة. الهجوم جاء في وقت كان النظام يركّز فيه على محاولة تحاشي
الانجرار إلى مأزق النزاع الإسرائيلي ـ الإيراني، وبالتالي فقد كان كل تركيزه على
الحسابات الخارجية.
وبالرغم من أنه نجح في ذلك إلى حد بعيد، مما
منحه ثقة بالنفس بالاستفادة من الوضع الراهن في تحسين موقعه، إلا أن ذلك جعله عرضة
لهجوم داخلي غير متوقع. لقد رأت المعارضة في اتّخاذ النظام موقعاً حيادياً في
المواجهة الخارجية بين إسرائيل وإيران، فضلاً عن تفادي النظام اصدار بيانات إدانة
لهجمات إسرائيل ضد حزب الله وإيران، بأنّه تعبير عن حالة ضعف. وحقيقة أنّ نظام
الأسد كان يحاول التموضع بين المعسكرين، فقد كان توقيت الهجوم مثاليا.
ثانيا، طبيعة الهجوم. الهجوم كان سريعا
ومنظماً ومعقداً بشكل غير متوقع، وحقيقة أنّه قد تمّ التسويق له على أنّه هجوم
دفاعي "رد العدوان"، فقد أعطى ذلك انطباعاً بأنّه هجوم محدود في الطريقة
والأهداف، وأنّه لا يهدف إلى تحرير مناطق من سيطرة النظام، ممّا أبقى النظام في
حالة استرخاء نسبي معتبراً أنّه جزء من العمليات التقليدية التي تجري عادة، لكن ما
أن بدأ الهجوم حتى تسبب ذلك بصدمة لدى النظام. المعارضة لم تسع إلى السيطرة على
الأرض، وإنما إلى استغلال انهيار الصفوف الأمامية لجيش النظام لتحقيق المزيد من
المكاسب.
حاول النظام تدارك الوضع من خلال عدّة
مبادرات على المستوى العسكري والسياسي والدبلوماسي لكنها باءت جميعا بالفشل. على
المستوى السياسي والدبلوماسي، كانت اتصالات الأسد الأولى في الأزمة في 30 نوفمبر
2024 إلى كل من الإمارات والعراق. الإمارات لديها اتصالات مع إسرائيل والولايات
المتّحدة، والعراق لديه اتصالات مع إيران والولايات المتّحدة. لقد كان الأسد يأمل
من خلال اتصالاته هذه في حشد أوسع دعم ممكن لنظامه.
كما أنّ عدداً من التقارير تحدّث عن زيارة
خاطفة قام بها الأسد إلى موسكو لهذا الغرض، قبل أن يزور وزير خارجية إيران عباس
عراقجي
سوريا في 1 ديسمبر 2024، ناقلاً رسالة من القيادة الإيرانية تؤكد موقف طهران
الثابت إلى جانب نظام الأسد في "محاربته للإرهاب واستعدادها التام لتقديم شتى
أنواع الدعم للحكومة السورية لأجل ذلك".
إيران، روسيا، الولايات المتّحدة، وإسرائيل
ساهمت بشكل أو بآخر في دعم نظام الأسد أو في إطالة أمده أو في منع سقوطه منذ
اندلاع الثورة السورية. خلال اتصالاته الأخيرة، كان الأسد يراهن على أنّ إعادة إنتاج
سردية الإرهاب ستدفع هذه الأطراف إلى المساهمة مجدداً في الدعم السريع الذي يحتاج
له.
في 2 ديسمبر، أي بعد يومين من اتصال الأسد بالرئيس الإماراتي، نشرت رويترز
تقريراً أشارت فيه إلى أنّ الولايات المتّحدة بحثت مع الإمارات رفع العقوبات
المفروضة على نظام الأسد، وبالرغم من أنّها أشارت إلى أنّ مثل هذه المحادثات كانت
تجري منذ فترة، إلاّ أنّ اللافت أنّها أكّدت أن إسرائيل أيضاً حاولت أيضاً رفع
العقوبات عن الأسد للمساعدة.
نعيم قاسم، الأمين العام الجديد لحزب الله،
قال في خطاب متلفز له في 5 ديسمبر 2024، أي قبل يومين من إسقاط النظام، بأنّ الحزب
سيقف إلى جانب نظام الأسد حتى النهاية، واصفا المعارضة السورية بأنّها مجموعات
إرهابية تريد إسقاط النظام وتخريب سوريا وخدمة إسرائيل، ومؤكداً أنّهم لن يتمكنوا
من تحقيق أهدافهم حيث سيقف الحزب إلى جانب النظام في إحباط هذه المحاولة.
أمّا الجانب الإيراني، فقد استمر في إصدار
البيانات الداعمة لنظام الأسد على مختلف المستويات كما في التزامه في تقديم الدعم
العسكري إلى نظام الأسد حتى اليوم الدقائق الأخيرة لانهيار النظام. وكذلك الأمر
في ما يتعلق بروسيا، فخلال حضور وزير خارجيتها في منتدى الدوحة، 7 و8 ديسمبر، قال إن
بلاده ستواصل دعم نظام الأسد.
أمّا وقد تمت الإطاحة بالنظام، فالمهمة القادمة أصعب خاصة أنّ هناك العديد من اللاعبين الإقليميين والدوليين الذين يتطلعون إلى ما جرى على أنّه ضد مصلحتهم وبالتالي قد يكون تخريب المسار السوري بمثابة أولوية لهم خلال المرحلة المقبلة.
عسكرياً، حاول نظام الأسد التستّر على
انهيار قواته في المناطق الأماميّة في حلب وحماة مصوّراً ذلك على أنّه انسحاب
تكتيكي وأنّ المقصود هو الاستعداد لمعركة كبيرة عند حمص تتيح لجيش النظام شن
الهجوم المعاكس واستعادة ما خسره سابقا. لكنّ تصوير النظام حالة الانهيار التي كان
قد دخل فيها على أنها انسحاب تكتيكي أرسل رسائل متضاربة إلى أعوانه في الداخل
وحلفائه في الخارج وسرّعت من عملية الانهيار.
قوات الأسد التي كانت تنهار لتستمع إلى
بيانات تشير إلى أنّ الانهيار هو في حقيقة الأمر انسحاب تكتيكي أدركت أنّ النظام
منفصل عن الواقع. أمّا حلفاء النظام، فقد أشارت بعض التقارير إلى أنّ حزب الله
أرسل بالفعل مقاتلين، أمّا القوات الروسية فقد شنّت مقاتلاتهم في 5 ديسمبر أي قبل
يومين من انهيار النظام العديد من الغارات من بينها ما لا يقل عن 9 غارات على جسر
الرستن بريف حمص الشمالي بهدف فصل مدينة حمص عن ريفها الشمالي المتاخم لمحافظة
حماة ومنع تقدم المعارضة.
أمّا إيران، وبسبب سرعة الأحداث، والوضع
السيئ للنفوذ الإيراني في لبنان وفي سوريا وبسبب مشاكل إيران الداخلية، حاولت
طهران الضغط على العراقيين لإرسال ميليشياتهم ريثما يتم إعادة ترتيب المشهد، لكن الحكومة العراقية وعدد من القيادات الشيعية
بما في ذلك مقتدى الصدر كانوا قد رفضوا التورّط لأنّهم كانوا يرون مأزق إيران ولا
يريدون أن يقعوا في نفس المأزق، حتى أن الصدر أصدر في 5 ديسمبر 2024، أي قبل يومين
أيضاً من سقوط النظام بياناً طالب فيه بمنع أي تدخلات عراقية من الحكومة أو الشعب
أو الميليشيات أو القوات الأمنية في سوريا.
وبموازاة ذلك، حرص الأسد شخصياً على ألاّ
يبلغ أحداً بخطته البديلة، أي الهروب إلى الخارج، وحرص حتى الدقيقة الأخيرة على إبلاغ
مسؤوليه العسكريين والمسؤولين في حكومته ومستشاريه والعاملين معه في القصر على أنه
موجود وصامد، حتى إنّه في عملية تمويه دقيقة جمع بعض المسؤولين بحسب رويترز وقال
لهم إنه سيذهب إلى البيت بعد انتهاء الاجتماع وطلب أن يتم تكليف مستشارته بثينة
شعبان بالذهاب إلى منزله لكتابة خطاب له. أما حساب الرئاسة السورية فأصدر قبل وقت
قليل من هروب بشار بياناً قال فيه إنّ الرئيس يمارس مهامه بشكل معتاد من دمشق.
وفجأة أدرك الجميع أنّ الأسد غير موجود، فلم يعد هناك عملياً أي أمل بالبقاء.
وبخلاف الأسباب التي تم ذكرها، فإن هناك عنصرا إضافيا ساهم في سقوط نظام بشار الأسد بشكل سريع وهو عمليات التطبيع المجاني التي
حصلت معه على المستوى العربي والغربي ـ الأوروبي خلال المرحلة الماضية. لقد أعطى
التطبيع نظام الأسد انطباعاً خاطئاً بأنّه انتصر وأنّ الأمور حسمت لصالحه وأنّ
المسألة مسألة وقت قبل أن يعيد السيطرة على كامل سوريا. جعله هذا الوضع في موقع
المسترخي الذي استنفذ كل قواه، كما أقنعت عمليات التطبيع حلفاء الأسد بأنّه على
المسار الصحيح لاستعادة سوريا وأنّ الوقت قد حان لتخفيف الأعباء عنهم والتفرغ
لتحدّيات الأمنيّة الخاصة في ما يتعلق بأوكرانيا وإسرائيل. ولذلك، فقد رفض الأسد
أيضا المضي قدما في أي عملية انتقال سياسي أو مصالحة حقيقية أو تقديم أي تنازل
يذكر، مما رسّخ الانطباع لديه بأنّه قوي فيما كان عمليا في وضع المنهار سياسياً
واقتصاديا وعسكرياً وكان ينتظر الضربة الأخيرة.
الحقيقة أنّ توقيت هجوم المعارضة وسرعة هذا
الهجوم الضوئية تسببت بانهيار معنوي لقوات النظام، وقطعت الطريق على أي عمليات
إمداد أو مساعدة خارجية سواء من إيران وروسيا، أو حتى من أمريكا وإسرائيل. أمّا
وقد تمت الإطاحة بالنظام، فالمهمة القادمة أصعب خاصة أنّ هناك العديد من اللاعبين
الإقليميين والدوليين الذين يتطلعون إلى ما جرى على أنّه ضد مصلحتهم وبالتالي قد
يكون تخريب المسار السوري بمثابة أولوية لهم خلال المرحلة المقبلة.