كتب

ثورة الكف الأخضر باكورة انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية.. قراءة في كتاب

 التخاذل العربي وحالة التشرذم التي كان يعيشها المجتمع الفلسطيني كانت نتيجة حتمية لظهور الكف الأخضر وعمله العسكري
التخاذل العربي وحالة التشرذم التي كان يعيشها المجتمع الفلسطيني كانت نتيجة حتمية لظهور الكف الأخضر وعمله العسكري
الكتاب: "ثورة الكف الأخضر 1929م"
الكاتب: عبد الحميد محمود أبو النصر
الناشر: بيت المقدس للدراسات والبحوث الفلسطينية


مثل ظهور الكف الأخضر ما بين عامي 1929 ـ 1931م، باكورة انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية لمجابهة الاحتلالين البريطاني والصهيوني، في مرحلة من أزهى مراحل النضال الفلسطيني، عبر فيها الكف الأخضر عن انطلاقة المقاومة المسلحة في وجه المخططات التي تحاك ضد الشعب الفلسطيني؛ لسلبه أرضه وتشريده في أصقاع العالم.

تكمن أهمية هذه الدراسة أنها جاءت كدراسة مستقلة عن حالة نضالية فريدة، لم تأخذ حقها في التدوين التاريخي، والتحليل السياسي، فكل ما كتب عنها لا يتجاوز السطور، رفض أبو النصر القفز عنها، فأفرد لها هذه الدراسة نظراً لأهمية مقاومة الكف الأخضر، التي كانت مقدمة للثورات الفلسطينية المسلحة اللاحقة عام 1933، وثورة القسام 1935، حتى الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، الرافضة للنهج السلمي، فالكف الأخضر أيقن منذ وقت مبكر أن النضال السلمي مع حكومة الانتداب البريطاني ضد المشروع الصهيوني لم يكن ناجع مع التصميم البريطاني على زرع المشروع الاستيطان في فلسطين، فالسبيل الوحيد لمقارعته المقاومة الشعبية، والمسلحة.

يقول الكاتب عن هدف دراسته: إنه أراد" إبراز الجوانب الغامضة للعصابة من عمليات، وهجمات أثرت بشكل كبير على الوجود البريطاني اليهودي في فلسطين، وإبراز النتائج التي حققها وجود الكف الأخضر في حركة المقاومة الفلسطينية، والدور البارز الذي لعبه القائد أحمد خليل طافش في تعزيز هذا الوجود ليفتح الباب أمام الحركة الوطنية للعمل المسلح ضد الاستبداد والاستعمار" ص13

ويضيف أبو النصر" المؤرخون لم يستطيعوا القفز عن هذه الفترة رغم قصرها، وغموضها في ظل شح المعلومات؛ بسبب عدم وجود أنداك من يوثق نشاطاتها، وقد يكون ذلك بسبب سريتها وتنفيذ ضربات قوية ضد القوات البريطانية واليهود".

تعززت قوة التنظيم مع انضمام عدد من الثوار السوريين الدروز، الذين حاربوا المستعمر الفرنسي أثناء ثورة 1925 ـ 1927م، وأصبحوا العمود الفقري للكف الأخضر، التي وصل عدد أعضائها 80 مقاتل، وعلى الرغم من أن كتب التاريخ أغفلت تدوين نضال جهاد هذه الحركة؛ إلا أن أرنولد توينبي ذكرها ضمن مقالة له نشرت عام 1930م، مشيرا انها تلاشت بسرعة بفعل قوات الانتداب الفرنسي التي قضت عليها.
ضمت الدراسة تمهيدا، وأربعة فصول، فخاتمة، شمل الفصل الأول منها: نشأة الكف الأخضر، وتضمن الأسباب التي دعت لنشأة عصابة الكف الأخضر، ثورة البراق، بداية الاضطرابات في المدن الفلسطينية، هبة صفد لنصر القائد أحمد طافش، تأسيس عصابة الكف الأخضر، ومؤسسيها، وبرنامجها النضالي والعسكري.

أما الفصل الثاني، تضمن أنشطة وفعاليات الكف الأخضر، فشمل النشاط السياسي، والعسكري، في حين تطرق الكاتب في الفصل الثالث لعلاقات الكف الأخضر الداخلية والخارجية، وعلاقاته بأهالي المدن، والقرى الفلسطينية التي برز نشاطه الثوري فيها، كذلك علاقاته بالحركات والأحزاب السياسة الأخرى كثورة القسام، والثورة الفلسطينية الكبرى، بالإضافة لعلاقاته الخارجية.

كما خصص الكاتب الفصل الرابع لنهاية الكف الأخضر، وحالة الضعف التي مني بها الكف، وتلاشي عمله العسكري، ووضع خاتمة لدراسته شملت أهم النتائج التي توصل إليها الكاتب.

سبقت مرحلة النضال الثوري حالة من السكون في الحياة الاجتماعية والسياسية، تجسدت في تراجع القوة العربية والفلسطينية خاصة مع استفحال المخططات الصهيوني، والقوة الاستعمارية البريطانية بجلب المزيد من يهود أوروبا، للإسراع من إقامة الوطن القومي اليهودي، قبيل أي نهضة ثورية، لذلك تكثفت المؤتمرات الصهيونية، وحملات الدعاية وجمع التبرعات لإغاثة المستوطنات الصهيونية في ظل الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم خلال السنوات 1925 ـ 1929م.

انطلقت ثورة الكف الأخضر من وسط معاناة الفلاحين، تلك الطبقة التي تعرضت لاضطهاد فج من حكومة الانتداب البريطاني بعد ثورة البراق عام 1929م، ورفض الكاتب تسميتها بعصابة الكف الأخضر " فكلمة عصابة تطلق عادة على جماعات معادية تقوم بعمل مسلح لتوقع اصابات بالغة في صفوف العامة، وقد يشبهوا باللصوص وقطاعي الطرق... فهم فدائيين يدافعون عن أرضهم وشعبهم"، يضيف الكاتب قد نتفق مع هذا المسمى بشكل عمل العصابة كعصبة أي جماعة غير منظمة تقوم بعمليات نوعية متفرقة، تكون على شكل غارات مباغتة للعدو، وتتبع سياسة الكر والفر الحروب مما يحقق ضربات مباشرة مع العدو، ذلك ما قام به الكف الأخضر طوال مرحلته النضالية ص33.

تشكل الكف الأخضر في مدينة صفد بدايتها، بقيادة المناضل الدرزي أحمد طافش، بعد أن وصل طافش لقناعة أن بريطانيا صاحبة الدور الأكبر عبر توسيع نفوذ اليهود في فلسطين، واعطاءهم امتيازات على حساب الشعب الفلسطيني، وان مجابهتهم لا تقوى إلا بالسلاح، الخيار الاستراتيجي البديل عن العمل السياسي، وتحقيق ضربات موجعة لدى البريطانيين واليهود تجعلهم يتراجعون عن سياستهم تجاه فلسطين؛ لذلك قام التنظيم بتنفيذ هجمات مسلحة عديدة ضد الجيش والبوليس، وكانت له مشاركة مفصلية في ثورة البراق، قيل أنها تشكلت بعد ثلاثة أشهر من ثورة البراق، وأعلنت عن انطلاقتها بالهجوم على الحي اليهودي في صفد بالتعاون مع أنصاره بداخل المدينة.

تولدت لدى القيادة الوطنية الفلسطينية صدمة من الموقف البريطاني، الذي غرر بالعرب وأهموهم بأنهم جاؤوا لتخليص الوطن من الحكم العثماني، كأنهم مبعوثو العناية الإلهية، لإنقاذ الشعب والوطن مما يحاك ضدهم، إلا أنه تم تسليمهم لقمة سائغة لكبار الملاك المحليين، أربعة قرون من الزمان لم تكن الزعامة العربية تدرك أنها من الشعب لا وسيط بين الشعب وحاكميه، يعملان معاً لجلده وتجويعه؛ تضهد الأول وتستغله، وتنافق الثاني وتحتمي به.

لخص أبو النصر برنامج الكف الأخضر:

ـ الكفاح المسلح وسيلة لإنهاء الوجود البريطاني، والنفوذ اليهودي في فلسطين، ووقف أطماعهم خاصة بعد أن ثبت فشل العمل السياسي في تحقيق أهدافه.

ـ وقف اضطهاد الفلسطينيين خاصة المزارعين والعمال، والحفاظ على ممتلكاتهم، وأراضيهم من الأطماع التوسيعية الصهيونية.

ـ وقف الاعتداءات اليهودية على العرب، وتوسيع المستعمرات الصهيونية على حساب القرى، والمدن الفلسطينية.

ـ تحقيق توازن القوى بخوض حرب العصابات ضد اليهود البريطانيين في ظل عدم وجود قوة عربية رادعة لهم، قادرة على حمل السلاح.

خاض طافش عدة معارك في صفد وعكا بشكل ارتجالي غير منظم قبل تشكيل تنظيمه، فقد دعا الثوار للانضمام لعصابته، فانضم له 27 شخصا من المشاركين الأساسيين في ثورة البراق 1929م؛ لينموا عملهم السياسي، ويتكامل مع النضال العسكري الميداني في مقاومة الاحتلالين البريطاني والصهيوني، ولم يكن معظم أعضاء التنظيم من الدروز؛ إلا أن تركيز نشاط طافش على مناطق الجليل، الذي تقطنه الطائف الدرزية قد جعل حركته تتصف بالطابع الدرزي، فالجليل أيضاً بشقيه الغربي والأعلى يتصف بسهولة الإمدادات، والترابط العائلي الذي ساهم في تقوية نفوذ الكف الأخضر في الجليل.

تعززت قوة التنظيم مع انضمام عدد من الثوار السوريين الدروز، الذين حاربوا المستعمر الفرنسي أثناء ثورة 1925 ـ 1927م، وأصبحوا العمود الفقري للكف الأخضر، التي وصل عدد أعضائها 80 مقاتل، وعلى الرغم من أن كتب التاريخ أغفلت تدوين نضال جهاد هذه الحركة؛ إلا أن أرنولد توينبي ذكرها ضمن مقالة له نشرت عام 1930م، مشيرا انها تلاشت بسرعة بفعل قوات الانتداب الفرنسي التي قضت عليها.

بسبب طبيعة نشأة الكف الأخضر، ونشاطها العسكري لم تكن هناك علاقة وطيدة مع الأحزاب السياسية الفلسطينية، كاللجنة العربية العليا، حزب الدفاع، حزب الاستقلال، والحزب العربي الفلسطيني، فجميع لم تذكر أي علاقة أو اتصال بينها وبين الكف الأخضر، فلم يرد في مذكرات رؤساء وقيادات تلك الأحزاب، أو الكتاب الذين عاصروا تلك الفترة، وجود أي ممثل للكف الأخضر ضمن الاطار السياسي الفلسطيني، أو ضمن الوفود السياسية للأحزاب الفلسطينية، يقول الكاتب هنا:" حتى بغيابهم السياسي- الكف الأخضر-، قد ساهموا وأثروا بشكل كبير في الوضع السياسي والعمل السياسي الفلسطيني، وشكلوا ورقة ضغط على البريطانيين لتغيير نهجهم وسياستهم بطرح من الأحزاب الفلسطينية، وتكثيف المطالب الفلسطينية بالحد من النفوذ اليهودي في فلسطين" ص48

بدأ العمل العسكري المكثف للكف الأخضر في تشرين الثاني عام 1929م، بتنفيذ الهجوم  الأول على الحي اليهودي في صفد بالتعاون مع أنصارها داخل المدينة، وبعد تعزز قوة العصابة، وشنت هجوم أخر على صفد في منتصف تشرين الثاني من نفس العام؛ مما دفع الإدارة البريطانية ارسال تعزيزات من البوليس البريطاني إلى المنطقة، ونصب التنظيم الكمائن في عكا لدوريات البوليس البريطاني، وقاموا بعمليات نوعية مباغتة أحدثت أضرار بليغة في البريطانيين، والمستوطنات الصهيونية" برهنت العصابة على قدرتها في الحركة والمناورة، وهي من أهم صفاتها لأنها تعمل في مناطق يكثر فيها القرويون، الذين يعطفون ويأزرون أعضاءها، ويمدوهم بالتموين اللازم والعتاد والأمتعة، بيد أن افتقار التنسيق والتعاون مع القيادات الفلسطينية السياسية جعل إمكانيات اتساع رقعة المقاومة المسلحة، وامتدادها إلى مناطق أخرى ولا سيما نابلس أمر صعب" ص49

كما قاد أحمد طافش عدة عمليات خارج صفد، واتخذ من التلال المحاذية للحدود السورية- الفلسطينية، مصدر تهريب السلاح من ثوار سوريا وشيوخها، الذي جمعوا التبرعات والسلاح من أهالي الحارات بطريقة سرية، إلى ان تمكنت السلطات البريطانية السيطرة على عدة شحنات السلاح كانت تهرب عبر سوريا، وحاولت قوات الاحتلال الفرنسية منع وصول الثوار السوريين المتطوعين إلى فلسطين.

رغم قصر الفترة الزمنية لنشاط الكف الأخضر إلا أن صداها وصل سوريا والأردن، ولكن عدم التنسيق بينها وبين الأحزاب، والحركات السياسية الفلسطينية، أسهم في ضعفها واندثارها، خاصة مع التحالف الإنجليزي، والفرنسي، والصهيوني لمحاصرة رجالاتها وتقويض عملها الثوري.
اتسمت علاقات الكف الأخضر الداخلية والخارجية بالمتانة والقوة والسرية في اطار عمل وطني موحد بين أعضائها؛ لأنهم اجتمعوا على أفكار وأهداف واحدة سعوا إلى تحقيقها، جمعهم حب الوطن والدفاع عن الأرض، فكانت علاقاتهم الداخلية أخوية بالدرجة الأولى فهم رفقاء درب الجهاد والكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية .

عمل أهالي المدن والقرى على تأمين الأماكن الأمنة عند مطاردة القوات البريطانية لهم، فهبوا لنصرة قائد الكف أحمد طافش في صفد، وعكا، والجليل مما دلل على التعاطف الشديد معه وانصاره، إلا أنه لم يثبت ان هناك علاقة وطيدة بين الكف الأخضر والأحزاب السياسية الفلسطينية(ص55).

أرجع الكاتب عدم وجود أي علاقة بين ثورة عز الدين القسام والكف الأخضر رغم تقارب الفترة الزمنية "الاختلاف العقائدي بين جماعة الكف الأخضر بقيادتها الدرزية، رغم وطنتيها وبين القسام ممثلة بالعقيدة السنية والدعوة" في حين الكف الأخضر كان من الطائفة الدرزية"، عمليات الطرفين، مقر عمليات القسام في جنين، أما الكف الأخضر صفد وعكا والجليل، وذلك لم يمنع رجال الكف الأخضر من زيارة حيفا للعمل للاستماع لدروس الشيخ القسام، ومشاركة جمعية الشبان المسلمين في زيارتها لمناطق عمل الكف الأخضر، وقد حافظ بعضهم على العلاقة مع الشيخ القسام بعد تشتت الكف الأخضر، وانضم لتشكيلات حركة عز الدين القسام، مما دفع القسام أيضا لتشكيل جمعية سميت بالكف الأسود، وشاركوا في الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م.

انتهاء عمل الكف الأخضر:

تعرض الكف الأخضر لحصار محكم من القوات البريطانية، بمساعدة الفرنسيين الذين سيروا دوريات مشتركة على الحدود الفلسطينية- السورية، لكن لعدم تنسيق الجهود بين الكف الأخضر والقيادة السياسية الفلسطينية جعل إمكانية اتساع مقاومتها، وامتدادها إلى مناطق أخرى امراً صعب؛ ليتقلص نشاط الكف عام 1930م، إلا أنه أعاد تشكيل نفسه، وتعرض لكثير من عمليات القمع والملاحقة العسكرية، واعتقل قائدها أحمد طافش في شرقي الأردن بعد عمليات حثيثة من التفتيش للقرى، بالتعاون مع القوات الفرنسية، وقوات حدود شرق الأردن عام 1935م، مع نحو 16 مقاتل بعد تسليمه للبريطانيين، وحكم عليه بالإعدام، من ثم جرى تخفيف الحكم بعد الهبة الشعبية الرافضة التي قادها الصحفي أكرم زعتير، ليتم تخفيف الحكم، وقضاء محكومية أطلق بعدها سراحه عام 1946م، وأمضى حياته ما بين حيفا وصفد حتى عام 1948م.

هذه الدراسة النوعية مليئة بالتفاصيل الدقيقة التي قد يجلها الدراس لتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، استوقفت أبو النصر فألقى الإضاءات عليها، بهذه الدراسة المفصلة، وفي خاتمة دراسته أكد الكاتب:

ـ أن ظهور عصابة الكف الأخضر جاء نتيجة الركود السياسي الذي بلغ مداها في سنوات العشرينيات، ثم أن نشاطه العسكري كان له أثر الكبير على الوجود البريطاني والنفوذ الصهيوني في فلسطين

ـ التخاذل العربي وحالة التشرذم التي كان يعيشها المجتمع الفلسطيني كانت نتيجة حتمية لظهور الكف الأخضر وعمله العسكري.

ـ رغم قصر الفترة الزمنية لنشاط الكف الأخضر إلا أن صداها وصل سوريا والأردن، ولكن عدم التنسيق بينها وبين الأحزاب، والحركات السياسية الفلسطينية، أسهم في ضعفها واندثارها، خاصة مع التحالف الإنجليزي، والفرنسي، والصهيوني لمحاصرة رجالاتها وتقويض عملها الثوري.
التعليقات (0)