وبين مجزرة إسرائيلية بحقّ
الفلسطينيين
وأخرى يسود جدل حول جدوى عملية "طوفان الأقصى". ويطرح السؤال إن كانت
فعلا ضرورية للغزاويين. فتعلو أصوات تأسف لتحميل الغزاويين كل هذا الأذى الذي
يتعرّضون له الآن. وترتفع أخرى تساند نهج المقاومة والمواجهة رغم الثمن الباهض
الذي يدفع. وتحاول هذه الورقة أن تنخرط في الجدل القائم بحذر. فنحن نعتقد، بصرف النّظر عن انتصارنا للرأي
الذي يجد كلّ التضحيات زهيدة حينما يتعلّق الأمر بالمحافظة على الأرض وعلى
المقدّسات أو للرأي الذي يجد أنّ ثمن العملية كان مكلفا جدّا بالنّظر إلى ما ترتّب
عليها من إبادة جماعية، أنّ لا أحد من غير الفلسطينيين الواقفين على الجمر مؤهل
للتفكير نيابة عنهم. فهم أبطال عملية "طوفان الأقصى" وهم من يتحمّلون
بشجاعة تبعاتها. أما نحن فنكتفي بتغيير المنكر بقلوبنا، أو بألسنتنا في أحسن
الأحوال.
وهذا الجزء الأول من ورقتنا يلقي نظرة سريعة
على كيفية تعاطي النّخب العربية والفلسطينية مع وقائع
الاحتلال البريطاني ثم
الإسرائيلي عبر تاريخ الاحتلال الطّويل الذي تجاوز القرن بعد. ويحاول أن يقع على
شيء من القانون الذي يحكم هذا الصّراع وأن ينطلق منه ليفضح آليات الدّعاية
الصهيونية أولا على أمل أن يفكّر في مآل النضال الفلسطيني في مرحلة ما بعد
"الطوفان".
ـ 1 ـ
كانت الأرستقراطية الفلسطينية خاصّة
والعربية عامّة على وعي بالمشروع الصّهيوني منذ بداية التحضير له. فالأكاديمي
الفلسطيني الأمريكي المختص في الدراسات التاريخية رشيد الخالدي على سبيل المثال،
يذكر في كتابه "
حرب المئة عام على فلسطين" أنه عثر في مكتبة العائلة
بالقدس التي أسسها جده الأكبر راغب الخالدي سنة 1899 أنّ يوسف الخالدي أحد جدوده
والمندوب عن القدس في البرلمان العثماني (1876) ومحافظ القدس لمدة عقد من الزّمن،
كان على اطلاع على مؤتمري بازل 1897 و1898 السويسرية اللّذين ضبطا خطط الاستيلاء
على فلسطين، وأنه حاول استباق العملية. فراسل زادوك كان زعيم الحاخمات بفرنسا
ليعبر له عن احترامه للديانة اليهودية وعن تعاطفه مع محنة اليهود واضطهادهم في
أوروبا معتبرا أن الصهيونية من حيث المبدإ "طبيعية وجميلة وعادلة"،
مضيفا: "من يستطيع إنكار حق اليهود في فلسطين؟ باسم الله هذه بلادكم
تاريخيا". ولكنه وجد مخطّط الاستيلاء على فلسطين "حماقة صافية" لما
سيخلقه من صدام بين الديانات السماوية الثلاث. ثم يخلص إلى أنّ الموقف سيكون أكثر
عدالة وإنصافا لو وجد الشعب اليهودي ملجأ آخر له. وينهي رسالته بتضرع عاجز: "بحق
الله، دعوا فلسطين لشأنها".
ـ 2 ـ
يمثّل هذا الموقف الضّعيف نموذجا لكيفية
تعاطي الأرستقراطية العربية مع القضية الفلسطينية. فقد كانت أميل إلى الإيمان
بالحوار وبالتعويل على العلاقات الدبلوماسية ووعود "الأصدقاء الغربيين"
منذ بداية المخطّط إلى اليوم. وليس الادّعاء الإسرائيلي الذي يكرّره كل
ساستها:"لم نجد شركاء للسلام" غير وجه من وجوه الابتزاز بحثا عن خضوع
أكبر من العرب وتبريرا للذّهاب في مشروعهم إلى الأقصى.
وصل التعاطف مع القضية الفلسطينية أوجه منذ د ظهور الزعيم ياسر عرفات في الأمم المتحدة عام 1974 وهو يردّد "لقد جئتم بغصن الزيتون في يد وببندقية الثائر في يد. فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي".
وفي تاريخ الاحتلال الطويل نماذج متعاقبة
تمثل هذا الخط نعرض بعضا منها في شكل ومضات نبني عليها نتائجنا لاحقا.
ـ في مؤتمر باريس للسلام 1919 عرض حاييم وايزمان خريطة تبين حدود الدولة اليهودية التي تقرر
إنشاؤها. فكانت تشمل فلسطين وغور شرق الأردن وتتمدّد في لبنان حتى صيدا وصور وتتجه
شرقا حتى القنيطرة في سوريا. وانتزع من
الملك فَيْصَل الأَوَّل بْن الحُسينِ بن علي الهاشمي موافقته عليها واعترافا بوعد
بلفور. ووقّع معه اتفاقية تسهل إنشاء دولة يهودية في فلسطين تشتمل على تسعة بنود
تمهّد جميعها للتفرّط في الحقّ العربي.
ـ جاء في نص الديباجة: "إن الأمير فيصل ممثل المملكة
العربية الحجازية والقائم بالعمل نيابة عنها والدكتور حاييم وايزمان ممثل المنظمة
الصهيونية والقائم بالعمل نيابة عنه، يدركان القرابة الجنسية والصلات القديمة
القائمة بين العرب والشعب اليهودي ويتحقق أن أضمن الوسائل لبلوغ غاية أهدافهما
الوطنية هو في اتخاذ أقصى ما يمكن من التعاون في سبيل تقدم الدولة العربية وفلسطين
ولكونهما يرغبان في زيادة توطيد حسن التفاهم الذي بينهما".
ـ لمّا تجاوز الوعي الشعبي الفلسطيني حالة الصدمة وتمثل
حجم المؤامرة الصهيونية تصاعدت المقاومة. وتفاعل الأهالي مع الثورة المسلّحة التي كان يقودها عز الدين القسّام.
فأُعلن "الإضراب الكبير" بداية من 1936 وظهرت انتفاضة شاملة واجهتها بريطانيا بعنف شديد. غير أنّ اللجنة
العربية العليا المشرفة على الاحتجاجات اضطرت إلى فكّه بعد ضغوط من زعماء عرب
طالبوهم ب"الإخلاد إلى السكينة حقناً للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا
الحكومة البريطانية، ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل، وثقوا بأننا سنواصل السعي في
سبيل مساعدتكم".
ـ ظل أمين الحسيني مفتي القدس يرابط
بإيطاليا لأربع سنوات منتظرا فوز المحور لاستصدار وعد باستقلال فلسطين. ثم غادرها
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء ليقيم في فرنسا.
ـ 3 ـ
مقابل هذا الاستسلام المقنّع المسمّى عربيّا
بالنويا الحسنة، لم تكن نوايا بريطانيا والغرب عامة تجاه الفلسطينيين حسنة مطلقا.
فهم لم يساعدوا اليهود إلا لضيق بهم ومحاولة للتخلّص من عبئهم الاقتصادي الثّقيل
لصالح الرأسمال القومي ومن سيطرتهم على المجالات الاقتصادية الحيوية كالبنوك
والذهب أولا، ولجعلهم خنجرا مغروسا في الجسد المسلم يمنع نهوضه ثانيا. ومن هنا
جاءت فكرة جمع يهود الشتات في دولة إسرائيل، المترسخة في التراثين اليهودي المسيحي
في فلسطين قبل ظهور المسيح لا بعده كما في نصوصهم.
ـ 4 ـ
تعود بدايات هذا المشروع إلى 1799 بعكا. فقد جاء في خطاب نابليون إلى
يهود العالم "أيها الإسرائيليون انهضوا فهذه هي اللحظة المناسبة. إن فرنسا
تقدّم لكم يدها الآن حاملة إرث إسرائيل، سارعوا للمطالبة باستعادة مكانتكم بين
شعوب العالم". وفي هذه الأثناء كان اليهود مخيرين بين الذوبان في الكيانات
المسيحية أو التعرّض إلى التمييز والاضطهاد أو تبني حلم الوطن القومي. وبعد قرن من هذا الخطاب تقريبا تبلورت الفكرة أكثر
في كتاب "الدولة اليهودية" الذي أصدره تيودور هيرتزل عام 1896 ثم في مؤتمري مدينة بازل السويسرية 1897 و1898.
فتضمّنت ثلاثتها أفكارا لتجنيد اليهود عبر العالم وتهجيرهم إلى فلسطين.
وأسس عضو الحركة الصهيونية حييم وايتمنعام
1907 "شركة تطوير أراضي فلسطين" في يافا. ثم في 1910 واشترى الصندوق
القومي اليهودي الأراضي الشاسعة في سهل مرج بن عامر شمال فلسطيني من ضباط
عثمانيين وأخليت من عشرات الآلاف من
المزارعين الفلسطينيين وعُوضوا بيهود من أوروبا الشرقية ثم بآخرين من اليمن.
وشكلوا الحرس اليهودي هاشومير لحراسة هذه
الأرض. ثم جاءت موافقة مجلس الوزراء البريطاني على إنشاء وطن لليهود وفق الرسالة
التي كتبها أرثر بولفور إلى اللورد الصهيوني ليونيل والتر روتشلد في 1917. واحتل
الجيش البريطاني مدينة القدس بمشاركة فيلق يهودي تم تجهيزه بأوامر من تشرشل وزير
المستمرات آنذاك.
لم تكن نوايا بريطانيا والغرب عامة تجاه الفلسطينيين حسنة مطلقا. فهم لم يساعدوا اليهود إلا لضيق بهم ومحاولة للتخلّص من عبئهم الاقتصادي الثّقيل لصالح الرأسمال القومي ومن سيطرتهم على المجالات الاقتصادية الحيوية كالبنوك والذهب أولا، ولجعلهم خنجرا مغروسا في الجسد المسلم يمنع نهوضه ثانيا.
ـ 5 ـ
لسنا نقدّم درسا في التاريخ ولكننا ننظّم
الوقائع ليكون الوصول إلى قانونها الخفي أيسر. فالقناعة العربية ـ الفلسطينية"
بتحقيق "سلام الشجعان" عبر المفاوضات يتجاهل بحماقة أو تخاذل تواطؤ
المجتمع الدولي، بداية من القرار 181 الذي
يقسّم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية ويطلب أن "ينتهي الانتداب على فلسطين
في أقرب وقت ممكن، على ألا يتأخر في أي حال عن 1 أغسطس/ آب 1948". فيمنح
لليهود الذين لا يملكون غير 5.5 % من الأرض ما نسبته 55% من مساحة فلسطين. ويجعل
ما منح للفلسطينيين غير قابل للتجسيم على الأرض فيقطع يافا عن بقية الأراضي
الفلسطينية. و يعزل
غزة عن أراضيها الفلاحية. أو قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242
في 22 نوفمبر 1967، يونيو 1967. فبنده الأول [يؤكد أن تحقيق مبادىء الميثاق يتطلب
إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط ويستوجب تطبيق كلا المبدأين التاليين:
أ ـ سحب القوات المسلحة من أراض (الأراضي)
التي احتلتها في النزاع.
ب ـ إنهاء جميع ادعاءات أو حالات الحرب
واحترام واعتراف بسيادة وحدة أراضي كل دولة في المنطقة واستقلالها السياسي وحقها
في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها وحرة من التهديد وأعمال القوة.] ويجعل
المشكلة الفلسطينية مشكلة لاجئين لا أكثر.
والتعويل على المفاوضات وعلى الرعاية
الغربية هو تكرار ساذج لحلم الملك فيصل بـ"اتخاذ أقصى ما يمكن من التعاون في سبيل تقدم الدولة العربية وفلسطين
ولكونهما يرغبان في زيادة توطيد حسن التفاهم الذي بينهما" أو لدعوة الزعماء
العرب ب"الإخلاد إلى السكينة حقناً للدماء" والاعتماد على حسن نوايا
صديقتنا الحكومة البريطانية، ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل " أو التضرع أمام
الغزاة المزودين بأعتى الاسلحة: "بحق الله، دعوا فلسطين لشأنها".
ـ 6 ـ
وصل التعاطف مع القضية الفلسطينية أوجه منذ
د ظهور الزعيم ياسر عرفات في الأمم المتحدة عام 1974 وهو يردّد "لقد جئتم
بغصن الزيتون في يد وببندقية الثائر في يد. فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي".
ولكن إسقاط منظمة التحرير الفلسطينية في البندقية وتسليمها بحل الدولتين واعترافها
الضمني بالقرار 242 لمجلس الأمن الدولي الذي ينص على إنهاء حالة الحرب والاعتراف
بإسرائيل دون أن يربط ذلك بحل قضية فلسطين بعد إعلان الدولة من قبل المجلس في 15
نوفمبر 1988 والمشاركة المتهوّرة في مؤتمر مدريد للسلام واتفاق أوسلو الاختيار
المدمّر الذي جعل المنظمة تسمي نضالها إرهابا وتتعهّد بوقفه عصف بماضي المنظّمة
وعاد بالفلسطينيين إلى "التعويل على حسن نوايا الأصدقاء الغربيين وأبناء
عمومتنا اليهود".
فكان أن علقوا في الحلقة المفرغة. فإسرائيل
تتقدّم في قضم الأراضي العربية بمباركة ضمنية من هؤلاء الإصدقاء في السرّ
وباحترازات منافقة في العلن. والنزعة اليمينية تتصاعد. واللوبي الصهيوني يزداد
تغلغلا في المجتمعات الأوروبية ويحوّل دعم إسرائيل إلى موضوع رهان انتخابي
ومزايدات بين المرشّحين. أما السلطة الفلسطينية التي تقف عاجزة منتظرة معجزة من
السماء لتعيد إليها الأرض المسلوبة فتستبدّ بها شهوة المناصب. فتسعى إلى الحفاظ
على الوضع القائم طالما هو يستجيب لشهوتها. لذلك فلا آمل للفلسطينيين في تحقيق
استقلالهم طالما أن الخصم هو من ضبط قواعد اللعبة وجعل نفسه حكما عليها. أما
"طوفان الأقصى"، فقد فرض قانونا جديدا لهذه اللعبة وجعل البندقية حكما من جديد.