منذ إعلان الهدنة في
غزة، ودخولها حيز
التنفيذ، وبرز على سطح الأحداث السياسية ملف وحيد هو الأبرز سياسيا، وإعلاميا،
وشعبيا، وهو ملف: الأسرى، سواء الإسرائيليين، أو
الفلسطينيين، رغم أهمية الملفات
الأخرى وخاصة ما يتعلق بالإغاثة، ومداواة الجرحى، وغيره من الملفات المهمة لما
ترتب على
العدوان على غزة، بهذا الشكل غير المسبوق.
إلا أن ملف الأسرى، هو الأكثر تناولا،
والأكثر تعليقا من الجميع، وبخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، ومع بدء تبادل الأسرى
بين الجانبين، وخروج أسرى إسرائيليين، بدأت تتوالى على وسائل الإعلام صور ورسائل
مباشرة وغير مباشرة، عن أهداف تحققها المقاومة، سواء ما يتعلق بإدارة الملف،
والرسائل العسكرية والسياسية التي تصل للعدو، وتصل للحاضنة الشعبية للمقامة.
لكن الحديث الآن وهو اللافت للنظر، عن
الرسائل المعنوية التي تصل عبر صور الأسرى، وكيفية الوداع بينهم وبين آسريهم،
ومقارنتها بصور أخرى للأسرى الفلسطينيين وما يجري معهم على يد الاحتلال، وما يجري
داخل السجون، وهو حديث ذو شجون، يحتاج لسياق مفصل.
ثم كانت الرسالة الأبرز والأهم،
للأسيرة الإسرائيلية إميليا ومعها ابنتها، وقد كتبت رسالة تعبر بكل صدق عما لاقته
من معاملة حسنة في أسرها، حتى قالت عن معاملة المقاومة لابنتها، إنها كانت تعاملها
كملكة لغزة، وأنها كانت تسعد بصحبتهم، ولم تشعر بأنها أسيرة، وقد شاركوها في
الفاكهة والحلوى إن وجدت وقتها.
الرسالة التي نشرت على مواقع التواصل،
وعلى مواقع الإعلام المختلفة، راجت وانتشرت بسرعة مذهلة، وحققت أهدافا في مرمى
العدو، وأهمها: تكذيب ما يختلقه إعلامهم وساستهم، سواء نتنياهو أو بايدن، من
أكذوبة قتل الأطفال، واغتصاب النساء، فها هي امرأة وطفلتها، تخرجان، وتكتبان رسالة
بمحض إرادتهما، تقول شعرا وغزلا في المقاومة، وفي معاملتهم لها ولغيرها من الأسرى.
ولأن أثر الرسالة كان قويا، ومربكا
ومزلزلا للكيان الصهيوني والإعلام الغربي، سلط أذرعه في محاربة وجود الرسالة،
ففوجئ مرتادو التواصل الاجتماعي، وبخاصة موقع الفيس بوك، بأن كل من ينشر الرسالة،
يهدد بحذف حسابه، ويقيد الحساب لمدة زمنية، رغم أن الرسالة لا تحتوي على أي مضمون
عنف، ولا تحريض عليه، ولا إساءة لأديان، أو كلام عنصري، بل إشادة بأخلاق عالية
وراقية!!
منذ بداية أحداث غزة، وكان السؤال الذي
يثير إعجاب الغربيين من غير المسلمين: كيف ثبت وصبر هؤلاء على كل هذه المجازر
والمحن، ورؤية أقرب الناس إليهم يستشهدون، بل يفقد الإنسان عددا كبيرا من ذويه
أمام عينه؟ وقد كانت الإجابة: إنه الإيمان الذي تحلى به هؤلاء.
لكن الاختبار الأكبر أخلاقيا، يكون لمن
بيده السلاح، وتحت يده أسرى من عدوه، وفي مكان يكون فيه مع الأسرى في الأنفاق، أو
في أماكن مستهدفة من العدو، فلك أن تتخيل أن بيدك أشخاصا قد يكون أحدهم قريبا من
الدرجة الأولى لعسكري يحلق بطائرته الحربية في الأعلى، ويقتل ذويك وأهلك، وبين
يديك بعض أهله أسرى، ومع ذلك لا يحكمك الانتقام، ولا الاعتداء، بل تحكمك قيمك
ودينك.
منذ بداية أحداث غزة، وكان السؤال الذي يثير إعجاب الغربيين من غير المسلمين: كيف ثبت وصبر هؤلاء على كل هذه المجازر والمحن، ورؤية أقرب الناس إليهم يستشهدون، بل يفقد الإنسان عددا كبيرا من ذويه أمام عينه؟ وقد كانت الإجابة: إنه الإيمان الذي تحلى به هؤلاء.
لقد أثبتت المقاومة للعالم كله ليس
نجاحها عسكريا على الأرض، فهذا ميدان آخر، لكن النجاح الأكبر لمن بيده السلاح، وفي
ساحة الوغى، أن يظل متمسكا بأخلاقه، قبل وأثناء وبعد الحرب، ورغم الدمار الهائل،
والخسائر الكبرى، إلا أنهم ظلوا مصرين على أن تكون الخسائر في الماديات فقط، ولا
تطال دينهم وأخلاقهم.
كانت الأكاذيب التي تروج غربيا، أنهم:
يقتلون الأطفال، ويغتصبون النساء، وكل المشاهد التي برزت هي لنساء تلوح بيدها
بالتوديع الحار، وإذ برسالة واحدة تهدم هذا كله، فالرسالة بينت أنهم كانوا يعطون
ابنتها من الفاكهة والحلوى على ندرة ذلك وقلته، وللإنسان أن يتخيل أشخاصا ليس معهم
مخزون من الطعام، يجودون به على طفلة مأسورة، كيف هي الرسالة التي تدل على الخلق
والكرم العربي والإسلامي لديهم.
لم يجد الاحتلال في أسراه المحررين،
أسيرا أو أسيرة واحدة، تخرج للإعلام لتقول كلمة واحدة تسيء بها للمقاومة، ولو وجد
ما تأخر ثانية في إبرازهم وخروجهم والتشنيع عليهم، وقد حاول من قبل مع امرأة مسنة
وقد كانت أول أسيرة تخرج، ولما شهدت لصالح المقاومة، حاول نتنياهو ومعاونوه أن
يثنوها عن ذلك، أو تقول كلاما يسيء ولم تقبل.
في بداية الحرب، كنت أعول كثيرا في
النظر لملف الأسرى، فعلى مدار التاريخ الإسلامي في كل الحروب الدائرة بين المسلمين
وأعدائهم، وجدنا كثيرا من الأسرى، إما أنهم أسلموا، أو تغيرت فكرتهم عن الإسلام،
وأصبحت إيجابية، وهذه ملاحظة تاريخية، منذ عهد النبوة، وقد كان أول أسير يسلم بسبب
حسن العشرة: ثمامة بن أثال الحنفي رضي الله عنه، وقد ذهب لقتل النبي صلى الله عليه
وسلم، في قصة طويلة، ليست مجال حديثنا.
وأعتقد أن من خرجوا من الأسرى رجالا
ونساء، سواء كانوا من الصهاينة أو من غيرهم، فإن المشاهد التي عاشوها بين أهل
المقاومة وأهل غزة، كفيلة بتحقيق مساحات من النصر الأخلاقي والمعنوي، لا يقل عن
النصر العسكري والسياسي، وهو رصيد إيماني كذلك، يكون زادا للنصر، فلا قيمة لنصر
ينفصل عن الخلق.
[email protected]