الكتاتيب التي يحفظ فيها الأطفال القرآن
الكريم لها تاريخ مشرف في حياتنا، فما من فقيه أو مفكر أو أديب، أو مثقف، مسلم أو
مسيحي عربي في القرن العشرين وما قبله، إلا مر على مكتب القرية، أي: الكتاب.
وقد
مرت سنوات في
مصر كانت الحرب الشعواء تشن عليها، وقد مارس وزير الأوقاف السابق
محمد مختار جمعة، دورا سيئا كعادته في محاربتها، والتضييق على مشايخها، وبعد تعيين
وزير أوقاف جديد هو مستشار السيسي الديني السابق، أسامة السيد
الأزهري، خرج خبر في
المواقع المصرية، عن لقاء جمع السيسي ورئيس الوزراء ووزير الأوقاف، بعنوان: السيسي
يوجه بدراسة مبادرة عودة الكتاتيب، وجدوى تطبيقها.
لا يمكن تلقي خبرا كهذا، دون البحث عن
دوافعه، فلو كان خبرا مجردا، لفرحنا، وشكرنا الأوقاف والسلطة التي تولي كتاتيب
تحفيظ القرآن أهمية ورعاية، وهو أمر مقدر لو كانت تلك هي النية، أو الوجهة، لكن
هناك عدة زوايا في الموضوع، لا يمكن فصلها عنه، زاوية استدعاء السيسي في المشهد،
فلو كانت مبادرة وزارة، لكفى أن تقوم بها الوزارة، لكن حضور السيسي، ورئيس
الوزراء، لقطة لا تأتي عابرة، بل لها ما وراءها.
لأن وزير الأوقاف نفسه مشهور بأنه عاشق
للقطة، منذ لقطة حمله على أعناق الجماهير في إندونيسيا، إلى حمله كلمة شيخ الأزهر
في احتفال المولد النبوي، وهي بضع ورقات خفيفة، رغم ما كان يمارسه من مواقف ضد
المشيخة، فهل خبر عن الكتاتيب يستدعي صورة تجمع بينه والسيسي ومدبولي؟
من يرجع إلى مشروع الكتاتيب، سيجد أنه بعد
محاربته لفترة طويلة، قام شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، بإحيائه من جديد، بل
أعلن في دولة إندونيسيا في محاضرة عامة، أنه لا يتمنى قبل أن يموت سوى أن يجلس في
كتاب يحفظ الأطفال القرآن الكريم، معلما للناس، مبتعدا عن المناصب وضوضائها، فهل
كان الأجدر هنا أن يلتقي السيسي بشيخ الأزهر مشيدا بتجربة الكتاتيب التي ترعاها
المشيخة، أم الاحتفاء بقرار وزير الأوقاف وتجربته التي لم تمارس بعد؟!!
ليس خافيا المعارك التي كانت محتدمة بين
السيسي وأجهزته والأزهر: شيخا، ومؤسسة، وجامعا، وجامعة، وبدأ العداء من أجهزة
السلطة يهدأ قليلا، وبخاصة بعد أن تم تعيين مفتي الديار المصرية بناء على ترشيح
شيخ الأزهر، لكن لا يزال الريبة والتوجس من المشيخة قائما، ويأتي مشروع الكتاتيب
الآن مدللا على ذلك، فإبراز عمل سوف يقوم به أسامة الأزهري، بينما هناك عمل قائم
بالفعل، لا يتم الحديث عنه، ولا دعمه، ولا حديث الإعلام عنه، بينما العكس تماما مع
قرار الأزهري الذي لم يطبق بعد، ولم يعلن عن أي من تفاصيله؟!!
لقد جاء مشروع عودة الكتاتيب ليكشف أمرين مهمين هنا في عالم السياسة في مصر، يكشف مدى تربص السلطة بمشاريع الأزهر، لصالح الأوقاف، ويكشف مدى تفاهة وجبن من يدعون التنوير والثقافة في بلادنا، فكلام خالد منتصر، كان قبل تصريح الإعلام عن موقف السيسي، وعن دراسة المشروع، فما بالنا لو تبنى السيسي المشروع وامتدحه؟
كما أن الهجوم الذي مارسه مدعو التنوير على
نظام الكتاتيب، عندما أحياه الأزهر، ليس خافيا، وعندما قرر وزير الأوقاف عودة
التجربة في الأوقاف، وجدنا أحد هؤلاء المدعين، وهو خالد منتصر، يكتب على صفحته على
الفيسبوك ما يلي: (قرار عودة الكتاتيب انتصار للتلقين والإذعان والببغائية،
وهزيمة للتفكير النقدي الإبداعي، الكتاتيب فولكلور مكانه المتاحف في زمن الكمبيوتر
والهندسة الوراثية). وكتب أيضا: (يا بتوع الكتاتيب تعليم الأطفال مافيهوش سيدنا).
لقد جاء مشروع عودة الكتاتيب ليكشف أمرين
مهمين هنا في عالم السياسة في مصر، يكشف مدى تربص السلطة بمشاريع الأزهر، لصالح
الأوقاف، ويكشف مدى تفاهة وجبن من يدعون التنوير والثقافة في بلادنا، فكلام خالد
منتصر، كان قبل تصريح الإعلام عن
موقف السيسي، وعن دراسة المشروع، فما بالنا لو
تبنى السيسي المشروع وامتدحه؟
لن تجد كلمة واحدة لخالد منتصر، ولا إبراهيم
عيسى، ولا إسلام البحيري، ولا فاطمة ناعوت، الذي وصفوا هذا النمط من التعليم بأنه
بدائي ومتخلف، وأنه تلقين وإذعان، لن يتفوهوا بحرف واحد لأن المشروع تحت رعاية
السيسي، فتنويرهم مرهون بألا يكون معارضا للسلطة، ولا مناقشا لقراراتها، فهل سنجد
واحدا منهم يصف تفكير السيسي بالببغاوية لو دعم المشروع وتبناه؟!
ثم الغضب من وصف الشيخ الذي يحفظ القرآن بـ:
(سيدنا) تغضبهم، لأنه معلم فيقال له يا أستاذ فقط، أو شيخ، لكن هذا التبجيل النابع
من ثقافة الريف التي تقدر الكبير، والمعلم، ليست مقبولة في ثقافتهم، لكن المقبول
أن يخاطب هؤلاء أدعياء التنوير خريج كلية الشرطة أو الكلية الحربية الذي يخاطبه
بعد تخرجه بشهر واحد، بـ الباشا، والبيه.
لا بد من تذكر هذه المواقف لهؤلاء المتاجرين
بالتنوير، والمتاجرين بالفكر، والتذكير الدائم بأنهم مجرد أدعياء، فخالد منتصر
نفسه، طبيب، فماذا أبدع في عالم تخصصه؟ لا شيء، المواقف تكشفهم من حيث فشلهم في
تخصصهم، ومن حيث مواقفهم التي تفضح تجارتهم، وقد ذكرني ذلك بموقف حدث بيني والشاعر
السوري أدونيس منذ سنوات، فقد كان في محاضرة في بلد عربي وكال فيها للإسلام كلاما
بذيئا، ثم تعرض للحجاب بكلام ساقط، وأنه تخلف ورجعية ومانع من التقدم والرقي.
طلبت الكلمة للتعليق، وكان لحسن حظي في الصف
الأول تجلس زوجة حاكم هذا البلد العربي، وهي راعية المؤسسة التي دعته، ووزيرة
التعليم، ومديرة الجامعة الأكبر في هذا البلد، ونائب رئيس البرلمان العربي وكانت
سيدة، وكلهن محجبات، فقلت له: أمامك شخصيات مسؤولات عن التعليم في هذا البلد، منذ
الروضة إلى الجامعة، إلى المؤسسة التي دعتك، وكلهن محجبات، فإن كنت ترى أنهن
متخلفات بحجابهن فقم بدعوتهن الآن لخلعه، ووصفهن بالتخلف، إن كان موقفك من الحجاب
موقفا مبدئيا لا يفرق معك من ترتديه؟ فما كان منه إلا أن أسرع بقوله: إنني أقدر
السيدات الفضليات التي ذكرت، وراح يراوغ، لكنه انكشف، فضجت القاعة بالتصفيق لأني
كشفت ادعاءه، وتوقحه.
[email protected]