كتب الشهيد المفكر الكبير سيد قطب رحمه
الله، سنة 1962م كتابين مهمين من أخريات كتبه، الأول بعنوان: (هذا الدين)، وقد
تحدث فيه عن خصائص الدين الإسلامي. أما الثاني فكان بعنوان: (المستقبل لهذا
الدين)، وفي كتيبه الأخير، عقد قطب فصلا بعنوان: انتهى دور الرجل الأبيض، ويقصد
بالرجل الأبيض هنا الرجل الغربي وحضارته، وليس مقصوده بالبياض اللون، فربما رأيت
ألوانا أخرى لا تختلف عنه، كما صك الشيخ محمد الغزالي رحمه الله مصطلح: الإنجليز
السمر، إشارة إلى عملاء وتلامذة الاحتلال الإنجليزي في بلادنا، من أصحاب البشرات
السمراء من أهل البلد، بعد أن غادرها الاحتلال، وتركهم يقومون مقامه وزيادة.
وقد سبق الشهيد سيد قطب لهذه الحقيقة
الفيلسوف الفرنسي برتراند راسل، لكنه قالها من باب النظرة المادية البحتة فقط،
بينما تناولها سيد بنظرة شاملة، تجمع أسباب انتهاء وسقوط هذه الحضارة، وهذا الدور.
أما سيد رحمه الله، فقد بين أن المسألة أعمق من السبب المادي بكثير، وأن حضارة
الرجل الأبيض قد استنفدت أغراضها المحدودة القريبة، ولم يعد لديها ما تعطيه
للبشرية من تصورات، ومفاهيم، ومبادئ وقيم، تسمح لقيادة البشرية، وتسمح لها بالنمو
والترقي، وأنها أصيبت بالعقم، رغم أن ما جادت به قريحة الغربيين من هذه المبادئ
والقيم كانت محدودة تروج في فترة خاصة، وتواجه حالات محدودة، وأوضاعا خاصة.
وفي هذا الفصل العميق الذي كتبه سيد قطب،
وأسهب فيه، في بيان عوامل سقوط هذه الحضارة، وانتهاء دورها عن قيادة البشرية،
وتركيزه على أنها حضارة مادية تجهل الدين، وتجهل الإنسان نفسه، وتجهل طبيعة الحياة
البشرية، التي لا تحتاج لغذاء البدن فقط، بل إضافة إلى ذلك غذاء الروح والعقل
والنفس، وكل نظام للحياة لا يحقق السعادة للكائن البشري، إلا تضمن كفاية هذه
الجوعات المتعددة في كينونته الواحدة.. وهذه السمة هي التي خلت منها حضارة الرجل
الأبيض! ولهذا السبب ـ من وراء كل سبب ـ انتهى دور الرجل الأبيض.
مجازر غزة فضحت وعرت هؤلاء تماما، وأخذت معهم أذنابهم وذيولهم من بني جلدتنا، سواء على مستوى الأنظمة والحكام، أو على مستوى المثقفين والتابعين لهم، فقد تحول لسان الغرب الناطق بحق أي أقلية في العالم، إلى متكلم بالتحريض والتحريش على أطفال ونساء غزة،
هذه المعاني التي أسهب فيها سيد قطب وغيره
من مفكرينا الإسلاميين الكبار، كانت كلاما نظريا، كنا نقرؤه ونعتقد به، لكن كان
هناك من يشكك فيه، تارة بالتشكيك في أصحاب هذه الأفكار، أنهم صداميون، أو أنهم
منغلقون على ذواتهم وتراثهم، وتارة بأنهم لم يسبروا غور الحضارة الأوروبية
بمنجزاتها الكبرى، بينما أثبتت الأيام التي نعيشها، والسنوات التي نمضيها، أنهم
كانوا أبعد نظرا، وأصوب فكرا، وأكثر تشريحا وتحليلا لجوهر هذه الحضارة، بل
ولمظهرها.
وقد جاءت معركة طوفان الأقصى في
غزة، وبدأت
تستدعى مثل هذه الأفكار، ليس لطرحها من جديد، بل للتدليل على صحتها، وللبرهنة على
صدقها، بأن الرجل الأبيض قد انتهى دوره، ولم يعد له وجه يلقى به أحدا يدعي فيه أنه
راعي حقوق الإنسان، أو أنه صك ميثاق الأمم المتحدة، أو أسس مجلس الأمن، فكلها صيغت
على مبدأ التعالي على الخلق، والنظرة الأنانية لمن سواه، وعند التطبيق لا تكون
لصالح المظلوم، إن كان المظلوم ليس على لون هذه الحضارة الأيديولوجي.
مجازر غزة فضحت وعرت هؤلاء تماما، وأخذت
معهم أذنابهم وذيولهم من بني جلدتنا، سواء على مستوى الأنظمة والحكام، أو على
مستوى المثقفين والتابعين لهم، فقد تحول لسان الغرب الناطق بحق أي أقلية في
العالم، إلى متكلم بالتحريض والتحريش على أطفال ونساء غزة، هو نفسه الغربي الذي
منذ شهور كان يملأ الدنيا ضجيجا تعاطفا مع أوكرانيا وحقها في تقرير مصيرها،
والدفاع عن أرضها ضد روسيا، هو نفسه الذي يمد الكيان الصهيوني بما يحتاج وما لا
يحتاج من أدوات
الحرب اللاأخلاقية، والتي لا تتسم بأي لون من ألوان الإنسانية، أو
الالتزام بمعاهدة جنيف ومواثيق الحقوق الدولية التي صكها الغرب نفسه!!
وقبل أحداث أوكرانيا، جاءت أزمة كورونا،
لتعري هذه الحضارة وأهلها، بأنانيتها، وسحقها للإنسان لحساب بقائها فقط، فرأينا
احتكار الدواء لصالح أصحاب هذه الحضارة فقط، ورأينا القرصنة على سفن تحمل أدوات
طبية.
لقد رأى العالم أجمع، بكل مستوياته، إفلاس
الرجل الأبيض، وإفلاس من قلدوه من بني جلدتنا، رأوا الكيل بعدة مكاييل، سواء من
حيث منع الحرب والقتل والتشريد، أو من حيث إغاثة الجرحى، فلم يكتفوا بالتفرج، بل
كانوا مشاركين بالعتاد والسلاح، كانوا من قبل يشاركون بالصمت، والكيل بمكيالين.
من أكبر إيجابيات المجازر التي تجري في غزة،
أنها أسقطت ورقة التوت عن حملة لواء هذه الحضارة، سواء على المستوى الفكري أو
السياسي أو العسكري، عندما تعلق الأمر بالكيان الصهيوني، تخلفت كل المواثيق، ونحيت
جانبا كل العهود، بل صدروا جميعا عن قوس واحد، يصيبون به الأطفال والنساء، وهما
أكبر عنصر يتغنى به الغرب في الحقوق، فهما أقدس المقدسات: الطفل والمرأة.
ما كان يناقش في محافل البحث العلمي، ما بين
رافض ومؤيد، من التردي والسقوط الأخلاقي والقيمي لهذه الحضارة وانهيارها، كان موضع
جدل ونقاش، الآن برهنت هذه الحرب في غزة على صحته، بل دللت ووثقت بكل ما لا يدع
مجالا للشك، على هذه النظرة، وهذه النتيجة: انتهاء دور الرجل الأبيض، ممثلا في
الحضارة الغربية، التي لم يعد لها مجرد التاريخ والماضي الذي يمسح عار واقعها
المخزي.
[email protected]