على مدار أيام متتالية، يخرج
السيسي صباحا مساء متحدثا، وما لم يذع
له في مكان، يعيده من نفسه في أقرب فرصة يمسك بالميكروفون، وكلامه الكثير على مدار
أيام متوالية، رزق يسوقه الله للناشطين على السوشيال ميديا، أو القنوات المعارضة،
ليلتقطوا من كلامه ما يجلب المشاهدات والتعليقات التي لا تنتهي، وفي معظم كلماته
كعادته يرتجل، ويظن أنه ينطق بالدرر والحكم، فيجد نفسه قد أخرج ما يطلق ضحكات
المعارضين وسخريتهم.
كان من آخر ما ذكره، حديثه عن أنه كان في لقاء مع المجلس الأعلى
للقضاء، وأنه حدثهم أنه يستطيع أن يهدم
مصر ببكتة، وشريط ترامادول، ومبلغ من المال
يوزعه، لينزل الناس لأيام معدودة، ثم بعد ذلك تحدث مستشهدا بالقرآن الكريم أن الله
آتاه الملك، ولا يملك أحد أن يعطيه أو يمنعه، مستدلا بقوله تعالى: (قل اللهم مالك
الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء).
ظل الكثيرون لا يصدقون كلامه عن الترامادول والمؤامرات التي تحاك
لحشد الجماهير، ثم دون أن يدري في اليوم التالي يخرج جماهير في عدد من المحافظات،
كلهم تم سوقهم عن طريق كرتونة الغذاء، وتصويرهم على أنهم حشود تطالبه بالترشح
للرئاسة، وأنه مضطر للنزول على رغبة الجماهير بالترشح.
كان هدف السيسي من ذكر قصة الترامادول هو التعريض بثورة يناير،
وبثوار الميادين بوجه عام، ممن ينزلون ضد الفساد والظلم والحكم العسكري، رغم أن
الثابت تاريخيا أن من استخدم الترامادول ومشتقاته وغيره لحشد الناس، كان العسكر،
ومن استأجر الناس بالمال ضد رغبة الجماهير والديمقراطية كان العسكر أيضا.
فمنذ بداية حكم العسكر في سنة 1954م، فوجئ الناس بجماهير حاشدة تخرج
تهتف: تسقط الديمقراطية، وذهبوا إلى مجلس الدولة واعتدوا على رئيسه الدكتور عبد
الرزاق السنهوري، اعترف بعد ذلك بسنوات جمال عبد الناصر لرفقائه: بأنه من قام
باستئجار هؤلاء الناس، ولم يكلفه ذلك سوى أربعة آلاف جنيه، وكانت النتيجة تنحية
الديمقراطية والإتيان بحكم عسكري ديكتاتوري.
وكذلك ما حدث من تفجيرات في القاهرة في نفس العام، ستة تفجيرات، بما
عرف بحادثة لافون، نسبة لوزير الدفاع الإسرائيلي، الذي استأجر خلية من شخصين في
مصر، لينفذا تفجيرين، ولكن مجموع التفجيرات ستة، فمن أين أتت الأربعة الباقية، ثم
إن الأمن قد ألقى القبض على الفاعلين قبل التنفيذ، فمن نفذ؟
اعترف عبد الناصر لرفقائه: عبد اللطيف البغدادي، وخالد محيي الدين،
وذكرا ذلك في مذكراتهما، أنه الذي دبر هذه التفجيرات ونفذها، كي يضع الشعب المصري
بين أمرين: إما الأمن والأمان، وإما الديمقراطية، وبطبيعة الشعب الخائف مال إلى
الخيار الأول.
وهو نفس ما حدث قبل ثورة يناير، من تفجير كنيسة القديسين، ومقتل خالد
سعيد، واتهامه بلفافة البانجو، وكلمة (بكتة) مقصود بها بكتة بانجو، وهي لفافة
البانجو، فالتاريخ البعيد والقريب من حكم العسكر، يخبرنا أنه لا يستعمل الترامادول
ومشتقاته القديمة والحديثة سوى العسكر.
ولعل تسريبات مكتب السيسي والتي أذاعتها قناة مكملين، تبين ذلك
بوضوح، بل إن أحد القضاة السابقين يقيم خارج مصر، حكى عن واقعة قبل الانقلاب بمدة
يسيرة، وقد كان عمله في مراقبة الكاونترات التي تأتي من خارج مصر عن طريق المطار،
ففوجئوا بشحنة كبيرة تأتي للجيش، ولوحظ أنها كلها أدوية، ونوع واحد، واحتالوا
بحيلة معينة ليعرفوا نوع الدواء، فاكتشفوا أنه ترامادول.
من الملامح التي غابت عن الأذهان في خطابات السيسي الأخيرة، هو أن الله عز وجل يسوق دلائل الإنصاف للمرحوم محمد مرسي على ألسنة خصومه، فكل من وقفوا ضده وضد خطابه، لأنه كان يستدل بآيات وأحاديث، أو كان أحيانا يعطي درسا بعد صلاة الجمعة، كل هؤلاء الآن يصمتون، وقد رأوا استدلال السيسي بالنصوص في كل مناسبة، ولا يستدل بها استدلالا يعضد بها ما يذهب إليه، بل ليسقطها على نفسه، ويمتدح نفسها بها
ولم يبتعد كثيرا السيسي عن الترامادول وتوظيفه سياسيا، بل راح
يستخدمه في تخدير الناس بالنصوص القرآنية كما أسلفنا من أن الملك والحكم جاءه دون
رغبة من أحد، ولا يملك أحد أن ينزعه، وهو كلام صحيح دينيا في المجمل، لكن ما أراد
أن يوحي به للناس، أن ذلك عطاء الله، وأن هذا العطاء مرهون برضا الله عنه، فهو
كلام غير صحيح.
لأن الله عز وجل يعطي الملك والدنيا والمال والصحة لمن يحب ومن لا
يحب، والمتتبع لنصوص القرآن الكريم في هذا السياق سيجد نصوصا وافرة، وبخاصة من
ادعوا الألوهية، فنرى (النمروذ)، قال الله تعالى عنه: (ألم تر إلى الذي حاج
إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك)، فمن آتاه الملك هو الله، ومع ذلك وقف يحاجج
إبراهيم في ربه، بل ويدعي الألوهية، فقال: (أنا أحيي وأميت)، وعند هزيمته قال
تعالى عنه: (فبهت الذي كفر). فلم يكن إتيانه الملك عن فضل منه، أو علاقة طيبة بربه.
وفرعون الذي قال: (أنا ربكم الأعلى)، قال عنه موسى عليه السلام في
القرآن الكريم وعن ملئه الظلمة: (وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيۡتَ
فِرۡعَوۡنَ وَمَلَأَهُۥ زِينَةٗ وَأَمۡوَٰلٗا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا رَبَّنَا
لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَۖ رَبَّنَا ٱطۡمِسۡ عَلَىٰٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ وَٱشۡدُدۡ
عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ)،
وقال عن ملكة سبأ وهي تعبد الشمس: (وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم).
وليس معنى إعطاء الله الملك أو المال لإنسان أن هذه علامة رضا من
الله، بل هي علامة امتحان فقط، ولذا أوضح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال:
"إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله ليعطي الدنيا من
أحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الدين فقد أحبه".
وصحيح أن الله هو من يؤتي الملك، وينزعه، ولكن ليس معنى ذلك أن يسلم
الناس بمن أعطي الملك وقد ظلم الناس، بل هم مطالبون بأن يكونوا سببا من أسباب الله
في نزع الملك منه، وإلا فلم كان موقف الرسل والأنبياء وأتباعهم المؤمنين ضد الملوك
والحكام الظلمة، والسعي لإنهاء مظالمهم، وقصة موسى عليه السلام وقومه مع فرعون
واضحة في دلالتها.
من الملامح التي غابت عن الأذهان في خطابات السيسي الأخيرة، هو أن
الله عز وجل يسوق دلائل الإنصاف للمرحوم محمد مرسي على ألسنة خصومه، فكل من وقفوا
ضده وضد خطابه، لأنه كان يستدل بآيات وأحاديث، أو كان أحيانا يعطي درسا بعد صلاة الجمعة،
كل هؤلاء الآن يصمتون، وقد رأوا استدلال السيسي بالنصوص في كل مناسبة، ولا يستدل
بها استدلالا يعضد بها ما يذهب إليه، بل ليسقطها على نفسه، ويمتدح نفسها بها، كما
في آية الملك، بل وفي آية: (ففهمناها سليمان)، ولم نسمع لهؤلاء صوتا ضد استدلالات
السيسي، ولا توظيفه للنصوص، وللمؤسسة الدينية، والإعلام، وكراتين الزيت والسكر، أو
استخدام الترامادول السياسي والديني!!
[email protected]