تنقل صحيفة "
واشنطن بوست" خمس شهادات على
مذبحة رابعة، في تقرير خصصته للمذبحة في ذكراها العاشرة.
تخلص الصحيفة إلى أن "حملة القمع في رابعة غيرت
مصر وللأبد".
وتحت
هذا العنوان كتبت الصحيفة في التقرير الذي ترجمته "عربي21":
بالنسبة
للناجين من حملة القمع أو المذبحة فقد لاحقتهم أشباح وأصوات ورائحة ذلك اليوم عندما
كان الموت في كل مكان، حتى مع مرور عقد عليها.
حياتهم
وبلدهم لن تكون كما كانت. ففي 14 آب/ أغسطس، استخدمت قوات الأمن الرصاص الحي لتفريق
اعتصام في القاهرة. وقتل أكثر من 800 شخص، بحسب منظمات حقوق الإنسان، في واحدة من أكبر
عمليات القتل للمتظاهرين في التاريخ. فيما قالت الحكومة إن عدد القتلى 624، ولكن العدد
الحقيقي قد لا يعرف أبدا. كما أنه تم اعتقال المئات من المعتصمين وسجنهم، وتم الحكم على
بعضهم بالإعدام لاحقا. وفر آخرون من البلد ولن يعودوا إليه. وجاء العنف بعد ستة أسابيع
من انقلاب الجنرال السيسي على مرسي الذي انتخب بعد عام من ثورة 2011 والتي أجبرت الديكتاتور
حسني مبارك على الخروج من السلطة وحملت معها آمالا في التغير الديمقراطي بالشرق الأوسط.
وشارك
في الاعتصام السلمي على الإطاحة بمرسي الآلاف، واعتصموا لعدة أسابيع في عدة أماكن من
القاهرة وبنوا تحصينات واشترى بعضهم سلاحا، خوفا من هجوم القوات الأمنية. وكان التجمع
الأكبر في رابعة، وقالت الحكومة إن من المعتصمين إرهابيين خطيرين. وقال السيسي الذي
أصبح رئيسا في عام 2014 لشبكة "سي بي أس": "كان هناك آلاف من المسلحين بين
المعتصمين لأكثر من 40 يوما، وحاولنا كل الوسائل السلمية لتفريقهم". إلا أن التحقيقات
من منظمات حقوق الإنسان وجدت أن معظم المعتصمين كانوا سلميين.
وتقول
الصحيفة إن عملية القتل الجماعي وغياب العدالة كانت نقطة تحول لمصر، حيث أكدت سيطرة
الجيش على البلد واستعداده لاستخدام القوة من أجل التمسك بالحكم. وما حدث في رابعة
فرق العائلات والأصدقاء وقلب حياة الكثيرين رأسا على عقب، وعمق الانقسامات السياسية
في البلد.
ورغم مضي سنين على المذبحة، فإن من الصعب مناقشتها بشكل
مفتوح. وفي حديث مع خمسة أشخاص كانوا من الحاضرين في ذلك اليوم وتغيرت حياتهم بسببها، فقد رصدت الصحيفة الأثر العميق الذي تركته على حياتهم.
اظهار أخبار متعلقة
ومنهم
أحمد سميح، 44 عاما، وهو ناشط في مجال حقوق الإنسان، فقبل 14 آب/ أغسطس تلقى ناشط حقوق
الإنسان دعوة للقاء مغلق في وزارة الداخلية المصرية. وفي نهاية اللقاء قال إنه كون شعورا
أن "التفريق سيكون عنيفا". وقدرت قوات الأمن عدد الضحايا من الطرفين بحوالي
3,000 شخصا، وهذه أرقام أُشرك بها صحفيون في ذلك الوقت. وقال إن الانقسام حول مستقبل
مصر كان خطيرا وإن العنف في الهواء، و"البعض ممن كانوا سلميين طوال حياتهم. قالوا:
يجب قتل الجميع".
وفي
صباح يوم العملية انطلق عبر القاهرة لكي يكون شاهدا: "فقط أردت رؤية الحقيقة"،
وانبعث الدخان من العجلات المحترقة وكان الدم في كل مكان على الأرض ولطخ السيارات.
وبحلول اليوم التالي، أحصى 152 جثة في المشرحة. وكان اختلاف الآراء بشأن ما حدث سببا
في تدمير علاقاته؛ "لدي أصدقاء لا أتحدث معهم ولا يتحدثون معي" و"بعد
رابعة تغير كل شيء في مصر".
ظل
أحمد لوقت طويل "لا يريد أن يصدق أو يشعر بأن الأماكن العامة قد تقلصت"، واستمر
في عمله بمجال حقوق الإنسان، ثم اتهم في 2015، بأنه يدير إذاعة محلية عبر الإنترنت.
وفتشوا مكتبه وتم تغريمه وأمر بالحضور كل ليلة إلى مركز الشرطة.
وفي
العام التالي عندما كان يراقب الانتخابات في يوغندا، تلقى تحذيرا من شخص يعرفه في القاهرة،
بأن اسمه على قائمة المتهمين وسيدان بتهمة تلقي تمويل أجنبي. وعاد إلى مصر لمدة 24
ساعة ومنح والدته تفويضا قانونيا لكل ما لديه من أرصدة وفر إلى إستونيا التي لديه إقامة
فيها. وفي 2021 بدأ بالعمل مقدما للأخبار في قناة "الشرق" التي يديرها المعارض
أيمن نور في إسطنبول، ولا يعرف ما إذا كان سيعود أبدا إلى مصر.
بالنسبة
لأمل سليم (54 عاما) وسارة علي (34 عاما)، فالوضع مختلف، ففي 14 آب/ أغسطس غادر محمد
علي، الإداري في مستشفى وعضو حركة الإخوان المسلمين، البيت إلى ميدان رابعة، وقال لها
إنه يريد التأكد من تأمين إجلاء النساء والأطفال، لكنها ناشدته بالبقاء و"قال
لو كان قدري الموت فسأموت"، و"قال مع السلامة وطلب مني مسامحته". وشعرت
بالخوف من التقارير عن إطلاق النار، ظلت تتصل به والتأكد أنه لا يزال على قيد الحياة،
وكانت ابنتها سارة علي تتصل بوالدها أيضا، وكانا يتحدثان عندما انقطعت المكالمة.
وعندما
أعادت سارة الاتصال أخبرها شخص أن قناصا أطلق النار وأصاب محمد برأسه. وتقول:
"لقد مات وأنا على الهاتف معه"، واتصلت بشقيقها عمر، وهو صحفي كان يوثق الفوضى
في رابعة وأخبرته وطلبت منه العثور على جثة والديهما، ولم يتم العثور عليها في أي من
العيادات الميدانية.
ومن
أجل الحصول على معلومات وضعت هاتفه على "فيسبوك" وطلبت معلومات. وفي اليوم
التالي، اتصل بها شخص من رقم مجهول وأخبرها بأن جثة والدها رميت في شارع جانبي. وقامت
مع عمر باتباع إرشاداته، وقال عمر: "لقد حملت والدي ووضعته في القبر ودمه على
ملابسي"، وأخبر عمر والدته بما حدث عندما عاد إلى البيت. وبعد فترة من الكآبة
طمأن والدته بأنه سيساعد على إدارة البيت وتنشئة شقيقتيه الصغيرتين، وكان يدرس في كلية
الهندسة. وبعد ثماني سنوات اعتقل عمر عندما كان في مطعم مع أصدقائه، وظنت العائلة أن
الاعتقال كان خطأ، ومع مرور الوقت بدأت تعتقد أن اعتقاله هو عقاب له على نشاط والده.
وأدين في النهاية بتهمة "الكشف عن أسرار عسكرية" وحكم عليه بالسجن مدة
25 عاما بدون أي فرصة للاستئناف.. ما أدى لإصابة والدته بانهيار عصبي، تقول: "لقد
خسرت زوجي واختفى فجأة وانهار كل شيء". وفي الصيف الماضي بدأت سارة بالمعاناة
من الهلوسة والتشوش وفقدان النطق، وتم نقلها إلى مستشفى للأمراض العقلية وشخصت بأنها
تعاني من آثار ما بعد الصدمة، ولا تزال تندب والدها، وفي بعض الأحيان يزحف السخط عليها.
وكان الشخص الوحيد في العائلة الذي انتمى للإخوان ولكنهم دفعوا الثمن. وقالت:
"لا يوجد أي مبرر لما حدث له" و"لكن لماذا أدفع ثمنه؟ ولماذا يقضي شقيقي
كل هذه السنين في السجن".
وتتسلل
ذكريات رابعة إلى ذاكرة الصحفية لينا عطا الله (40 عاما)، عندما لا تتوقعها، ضغط شديد
في بطنها أو ومضة في عقلها وهي تحاول النوم. فقد كانت صحفية شاركت في إنشاء موقع
"مدى مصر" وغطت اعتصام رابعة في ذلك الصيف، واستيقظت صباح 14 آب/ أغسطس وسارعت
مع زميل للمكان، ولم يكن لديهما أدوات حماية. ومع تقدم قوات الأمن، فإنهما حشرا بين الجماهير
قرب مستشفى ميداني. وتتذكر عطا الله الجثث ورجلا كان يحمل بطاقات الهوية للقتلى والناس
الذين كانوا يحاولون إنقاذ بعضهم البعض. ومع انهمار الرصاص وجدا طريقة حيث أمسكا بيدي
بعضهما وفرا. وتقول: "اللغة التي لدي لا تنقل كثافة الحدث". وفي الأشهر التي
تبعت ما حدث في رابعة انغمست في عملها حتى لا تصاب بالكآبة، وفهمت أن "رابعة هي
بداية شيء سيئ للغاية". واعتقل بعض أصدقائها الناشطين والصحفيين ومنهم علاء عبد
الفتاح الذي قضى معظم العقد الماضي بالسجن بتهم واهية. وفي 2017 تم حجب موقع
"مدى مصر"، لكنه لا يزال عاملا حيث يجد القراء في مصر طرقا للتحايل على المنع.
ولا
يزال رجل الأعمال ( 58 عاما) يتذكر كيف مات الرجال أمامه، أولا، شاب كان يختبئ خلف
شجرة وقد أطلق نفسه الأخير وانهار و"عندما فحصته، كانت هناك رصاصة في القلب..
قتله قناص". ثم سائق سيارة إسعاف، قتل وهو يرتدي الزي الطبي "لقد انقسم رأسه
للنصف"، وكان زميله يصرخ ويبكي. ولاحقا، الرجل الذي أطلق عليه النار حينما كان
الناجون يريدون الجلاء، وكانت أذرعهم ملفوفة على بعضهم البعض و"كان علينا الدوس
عليه". ووصل رجل الأعمال البارز إلى مركز اعتصام رابعة في الساعة السادسة والنصف
صباحا، وهو ليس عضوا في جماعة الإخوان المسلمين، لكنه حضر إلى هناك لكي يحتج على ما
رآه من سيطرة الجيش على السلطة. وتم اعتقاله وأجبر على تسليم هويته قبل أن يغادر الميدان.
وخوفا من ملاحقة السلطات له، فر إلى الولايات المتحدة بعد ثلاثة أيام، ولم يعد أبدا.
وطلب عدم الكشف عن هويته خوفا على أمن معارفه في مصر. وتعرضت أعماله في السنوات اللاحقة
للحرق والهجوم، وتحرشت الحكومة بعائلته إلا في حالة وافق على التخلي عن أصوله المالية.
ورغم أنه كان من النخبة، فإنه اضطر للبدء من الصفر في المنفى "تخليت عن كل شيء".
ويرى أن رابعة هي "بداية لمحو كل شيء له علاقة بـ 2011". ويقول إن رابعة
كانت فرصة للجيش "لاستعراض عضلاته" وإرسال رسالة لا غموض فيها "لا أحد
ستكون له حرية التفكير أو الاحتجاج أبدا".