تُوجت زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي ماكرون إلى
المملكة
المغربية ما بين 28 و30 تشرين الأول/ أكتوبر 2024 بالتوقيع على 22 اتفاقية
في قطاعات ذات قيمة استراتيجية بالغة الأهمية، كما دشنت صفحة جديدة في تطور
العلاقات التاريخية المغربية الفرنسية، بالإعلان الرسمي للجمهورية الفرنسية في شخص
رئيسها عن السيادة المغربية على أقاليمه الترابية، أي صحرائه المسترجعة، وأكدت بصريح
العبارة أن الحكم الذاتي الموسع المعلن عنه من قبل المغرب عام 2007 هو السبيل
السالك والواقعي والناجع لنزاع مُفتعل عمر قرابة خمسين سنة (1975-2024).
زيارة الدولة الناجحة التي قام بها الرئيس الفرنسي والوفد الكبير المرافق
له، الذي وصل عدد أعضائه إلى مائة شخصية من وزراء ورجال أعمال وسياسيين
ودبلوماسيين سابقين وصناع القرار والرأي، في المجالات الاقتصادية والسياسية
والثقافية، كانت ناجحة بكل المقاييس، فقد مكنت قائدي البلدين من إجراء مباحثات جدية
وصريحة ومسؤولة وجها لوجه، كما فتحت الباب واسعا أمام الوزراء والمسؤولين كل في
قطاعه بالتوقيع على 22 اتفاقية، شملت السكك الحديدية، وقطاعات الطاقة والهيدروجين الأخضر
وصناعة الطائرات، ناهيك عن مجالات المياه والفلاحة والغابات، والتعليم بكل درجاته والثقافة،
والصناعة المحلية، والقائمة طويلة من دوائر التعاون المشترك.
حملت الصفحة الجديدة التي أسفرت عنها زيارة الرئيس الفرنسي عنونا بارزا،
عبر عنه البيان المشترك للبلدين، بـ"إرساء شراكة استثنائية"، وهو ما
يعبر بجلاء عن إرادة البلدين وإصرارهما على كسر جليد العلاقات الثنائية الموسومة
بالجفاء والتوتر منذ ثلاث سنوات، والنظر بواقعية ومصداقية إلى إعادة بناء العلاقات
التاريخية وفق رؤية جديدة، وتفكير مختلف، ووعي عميق بأهمية ترسيخ علاقات متكافئة، منطوية
على ربح مشترك.
والواقع أن المغرب منذ سنوات عبر لجميع شركائه عن تصوره لما ينبغي أن تكون
عليه الشراكات المستقبلية لدوائر تعاونه، وقد أكدت خطب العاهل المغرب في أكثر من
مناسبة عن هذه الرؤية الجديدة التي تضع قضية السيادة المغربية على أراضيه في قلب
أية شراكة وأي تعاون. والحقيقة أن المغرب استطاع، بما يمتلك من عناصر القوة وإمكانات
الإقناع، إعادة بناء علاقات مع جيرانه الأوروبيين، من قبيل إسبانيا وألمانيا
وإيطاليا، ومن هم في واجهته الأطلسية، أي الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، وقد أضافت
فرنسا من خلال زيارة رئيسها حلقة بالغة الأهمية في سيرورة استكمال التأييد الدولي لقضية
السيادة المغرب على أقاليمه الترابية.
قد يقول قائل: وما هي كلفة الزيارة والاتفاقيات التي أسفرت عنها، وما الذي
سيجنيه المغرب وتجنيه فرنسا؟
حدد الاقتصاديون وخبراء المال والأعمال المتابعون لوقائع الزيارة ونتائجها أن
فرنسا ستجني خلال السنوات المقبلة 10 مليارات يورو من خلال الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية
المشار إليها أعلاه، أما المغرب فقد جنى أولا انضمام فرنسا إلى كوكبة الدول المعترفة
بعدالة قضية السيادة الوطنية على الأقاليم الترابية للمغرب، وهو تحول نوعي في الموقف
الفرنسي، وسيرورة استكمال المغرب للاعتراف بصدقية الحل الذي قدمه منذ العام 2007،
أي الحكم الذاتي الموسع للأقاليم الجنوبية المسترجعة. ثم إن قائمة المنافع التي سيجنيها
فور دخول الاتفاقيات حيز التنفيذ، طويلة وكبيرة، حيث سيُعزز بنياته التحتية في
مجالات السكك الحديدية (للقطار فائق السرعة)، وشبكة الطرق السيارة، ناهيك عن الطاقة
بكل أنواعها، لا سيما وأن للمغرب مكانة مميزة في هذا المجال، إضافة إلى الصناعات
بتعدد أشكالها كالسيارات والطائرات. وستطال نتائج هذه الزيارة المجال التعليمي
والثقافي، من خلال تقوية تدريس اللغة العربية في فرنسا، وتشبيك العلاقات في مجال
التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، ولاهتمام المشترك بالثقافة والتراث وكل
ما له صلة بالرأسمال المادي واللامادي.
السياق الدولي الذي يتحكم في العلاقة بين البلدين لم يعد هو نفسه الذي عمر العلاقة بينهما لعقود، فمكانة فرنسا تراجعت كثيرا في أفريقيا على وجه الخصوص، والمغرب جزء من هذه القارة، والمغرب لم يعد، بدوره، مغرب نهاية القرن العشرين، فقد غدا مع الألفية الجديدة قوة صاعدة، مسموع الكلمة، ومؤثرا على الصعيد القاري
يُعرف علماء السياسة؛ السياسةَ بأنها "فن تدبير المصالح"، وهو ما
يعني حضور العقل، أي القدرة على التمييز بين ما يدخل في باب المصلحة، وما هو مرتبط
بالعاطفة والوجدان والأخلاق في أحيان كثيرة. لذلك، أفضل سبيل لقراءة الصفحة
الجديدة في العلاقات المغربية الفرنسية هي زاوية المصلحة المتبادلة والمشتركة ليس
إلا. فعودة الدفء إلى العلاقات بين البلدين، وطي صفحة التوتر وتدشين صفحة الشراكة الاستثنائية
ليست نابعة من حب فرنسا للمغرب، ولا من عشق المغرب لفرنسا، فالبلدان معا خبِرا الحروب
والصراعات الدموية في التاريخ، وجربا التعاون غير المتكافئ، وفي وقت محدد وصلا إلى
اقتناع ووعي مفادهما أن العلاقة الحقيقية والاستراتيجية يجب أن تُبنى على التعاون
النافع، والخير المشترك والمقتسم.
ثم إن السياق الدولي الذي يتحكم في العلاقة بين البلدين لم يعد هو نفسه
الذي عمر العلاقة بينهما لعقود، فمكانة فرنسا تراجعت كثيرا في أفريقيا على وجه
الخصوص، والمغرب جزء من هذه القارة، والمغرب لم يعد، بدوره، مغرب نهاية القرن العشرين،
فقد غدا مع الألفية الجديدة قوة صاعدة، مسموع الكلمة، ومؤثرا على الصعيد القاري.
تحتاج الصفحة الجديدة، أي الشراكة الاستثنائية، بين المغرب وفرنسا إلى وقت
للحكم عليها وعلى نتائجها وتأثيراتها المنظورة وغير المنظورة، لكن من المؤكد أن
البلدين دشنا حقبة نوعية جديدة في تاريخ علاقتهما، وأنهما ولأول مرة أمسكا بالطريق
السالك، الذي سيمد علاقتهما بالقوة الضرورية والحيوية اللازمة لدوام استمرارهما متعاونين
ومستفيدين بقدر معقول من التكافؤ.