أبو يعرب المرزوقي: الإمام علي هو أول من سنّ آلية التوريث في الحكم

يفتح الباحث والفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي في هذه السلسلة من المقالات، التي ننشرها في "عربي21" بالتزامن مع نشرها على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، اللغة القرآنية بين الحقيقة والمجاز، ومحاولة الوقوف على أهم الدلالات الفكرية والفلسفية في ذلك..

الإسلام هو الحل..

لست غافلا عما يؤدي إليه كلامي في خاتمة الفصل الثاني من سخرية الساخرين من عبارة الإسلام هو  الحل لظنهم أن الإسلام الذي أتكلم عنه هو ما صار المتكلمون عليه يجدونه في أوروبا من دون مسلمين وتركوه في الشرق مسلمين من دون إسلام:

فقولي: "الاستعمار الغربي ليس تعميرا بل هو تدمير لكل شروط الحياة. والغرب بدأ يفهم ذلك. والشرق الذي يحاكيه ما يزال غافلا عن هذه الحقيقة التي غايتها في النهاية الحرب العالمية الأخيرة بين القطبين لتنهي العالم الإنساني ما لم ينته الأمر بهما إلى حل إلاسلام. وحينها يمكن القول إن ابن تيمية وابن خلدون قد فهما".

فهذا لا يمكن أن يقوله من وجد الإسلام في أوروبا دون مسلمين ووحد مسلمين في الشرق من دون إسلام. وكلا الوجودين خلب من جنس الخلب الذي يعيشه الشاب الذي يرمي نفسه في البحث للهجرة إلى الغرب. ومثل النخب التي تمدح الغرب وهي لا تدري ما يعاني منه وما جعل العالم يعاني منه وأخيرا ما ضاعف مفاعليه الشرق الذي يحاكيه وصار ينفاسه إنتاج شروط التسابق على الفساد في الأرض وسفك الدماء.

إذن ما الإسلام الذي هو الحل؟ إذا لم يكن ما توهم بعض الحمقى وجوده في الغرب دون مسلمين ومن هم المسلمون الذين تركهم الحمقى في الشرق من دون إسلام؟ لماذا أعتقد أن هؤلاء الحمقى هم من أفسد حركة النهوض بل ربما قتلوها؟ وإن كنت أعتقد أنها لا يمكن أن تقتل مهما تأخرت: فهي وعد من لا يخلف وعده أعني أن الأمة الوسط التي هي لا شرقية ولا غربية ستكون شاهدة على العالمين. فحفظ القرآن الموعود ليس المحافظة على حفظه في صدورهم فحسب بل حفظه في شروط بقاء البشرية لأن الآية السادسة بعد المائة من الإسراء تنتهي بـ"ونزلاناه تنزيلا" بمعنى أنه سيكون متعينا في التاريخ الفعلي للإنسانية  بمقتضى الاستئناف الإسلامي.

لذلك فكل أدعياء التحديث العنيف الذين يبررونه بمعرفتهم قبل غيرهم ـ أي مايسمونه ريادتهم ـ لا يختلف من ينتظر منهم استئناف الأمة دورها ويسمي ما يفعلونه نهوضا عمن يمكن أن  ينتظر إصلاح حال الأمة من باعة المخدرات والمسكرات من المهاجرين الذين وظفتهم المافية لترويج هذين البضاعتين.

الاستعمار الغربي ليس تعميرا بل هو تدمير لكل شروط الحياة. والغرب بدأ يفهم ذلك. والشرق الذي يحاكيه ما يزال غافلا عن هذه الحقيقة التي غايتها في النهاية الحرب العالمية الأخيرة بين القطبين لتنهي العالم الإنساني ما لم ينته الأمر بهما إلى حل إلاسلام. وحينها يمكن القول إن ابن تيمية وابن خلدون قد فهما

قد يخفي ذلك مفعول التاريخ القصير. لكن للتاريخ بعدا أهم هو التاريخ المديد: ويكفي للدلالة على مفعوله درس حال الأمة بعد قرنين من التحديث بطريقة محمد علي وكل من ماثلها. والنهاية هي حال مصر، وحتى ما يحصل في تركيا رغم ما فيه من إيجابيات لا ينكرها إلا معاند فإن التغير فيها وإن كان يستعمل الإسلام فهو مهدد لأن الإسلام فيها ينتسب إلى "هذه بضاعتنا ردت إلينا" لولا بعض التقدم في التحرر من التقليد على الأقل في المحافظة على بعض مميزات الإسلام التي تقف عائقا أمام التقليد الأعمى كالذي أدمنت عليه الحكومات العربية ونخبها قبلية كانت أو عسكرية.

فالتسابق العربي الحالي هو إنشاء المواخير وليس في التحضير. ولا علاقة لما يحدث عند المسلمين بما يقتضيه الإسلام من شروط الدور الكوني الذي على الأمة القيام به لإنقاذ نفسها والبشرية من التلويثين القاتلين للطبيعة والتاريخ والأبدان والأرواح تلويث الطبيعة وتلويث الإنسان أي ما يسميه ابن خلدون بإطلاق فساد معاني الإنسانية بالتربية والحكم العنيفين في العالم كله.

يصعب الكلام على كل المسلمين سأكتفي بالكلام على قلب الأمة أي ملتقى القارات الثلاث آسيا وافريقيا وأوروبا في حدودها التي كانت تابعة لفارس وبيزنطة وسارت تابعة للإسلام بعد الفتح لأدرس ما حدث ليجعل الأمة تصل إلى ما حل بها من فساد في معاني الإنسانية بسبب التربية والحكم العنيفين.

لماذا هذا المعيار الذي اخترته؟

لعلتين الأولى هي الإسلام لم يلغ التراث السابق عليه بل أراد إصلاحه بما طبق في الفتح من مبدأ هو عين ما طبقه الرسول عندما فتح مكة: مبدأ اذهبوا فأنتم الطلقاء.

لكن الجماعات التي صارت منضوية في دولة الإسلام مؤلفة ممن أسلم فصار تقيا أي تخلى عن الثأر من العرب والإسلام ومن أسلم دون تخل عن الثأر فاضمر التقية و منهم من لم يسلم وآثر العيش بسلام لأن الإسلام يحميه ويحمي معتقداته  ولا يحول دون وممارسة شعائرة ومعتقداته بنصوص صريحة. ومنهم أخيرا من لم يكن لهم ذكر في التاريخ فصار لهم دور فيه مثل العرب.

لذلك فهذا التنوع كان له أثر كبير على مصير دولة الإسلام لأن الصادق من المسلمين اصبحوا قلة في دولة الإسلام وباتت التربية والحكم معتمدين على الأقل في إدارتهما وفي التفرغ لهما تحت سلطان من اسلموا حقا ومن اسلموا تقية وخاصة من استفادوا من تجاربهم التاريخية لكي تصبح الدولة وكأنها مواصلة لسياسة فارس وبيزنطة لمدة قرن تقريبا.

فالعملة بقيت بيزنطية واللغة الإدارية فارسية. وليس للعربية إلا الوظيفة الدينية المتعلقة بالعبادات والفقه وربما تعليم عقائد الإسلام. لكن الدول لا تبنى التربية والحكم فيها بهذه العناصر التي باستثناء الفقه كلها تدور حول الآخرة أكثر من دورانها حول الدنيا.

وبذلك فحتى ثقافيا كان الشباب المسلم يربى ويحكم بالعنفين: اللطيف في التربية والحكم لأن السلطة العليا كانت بيد المسلمين الصادقين في البداية  لكن أدواتها كانت بيد المعادين للإسلام ولو باستعمال التقية. لذلك ففسا د معاني الإنسانية كانت تتم باللطيف من الدس والعنيف من التخريب.

وكانت النهاية المعلومة بكيفية القضاء على الدولة الأموية بوحشية لا يمكن أن تكون نابعة عن إيمان بل عن دس للسذج من العباسيين الذين لم يكونوا يعلمون أنهم كانوا يحفرون قبورهم بايديهم فلكأنهم نكصوا إلى الجاهلية بسبب الدس الذي شربوه منذ الفتنة  الكبرى وتاثير عملاء فارس ويهود الجزيرة التي طردوا منها.

لم أحص من أراد الإسلام ضمهم إلى دولته بمنطق اذهبوا فأنتم الطلقاء تحكما بل اعتمادا على ثلاث آيات قرآنية نجد فيها تصنيفهم إلى خمسة أنواع: في  البقرة 62 وفي المائدة 69 وفي الحج 17.

وهم من أرجأ الإسلام الحكم في ما يختلفون فيه إلى يوم الدين ولم يعد منهم إلا من كان إسلامه صادقا بعلامات ثلاثة هي الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ولم يتوعد حتى من لم يكن كذلك:

اليهود ليس كلهم بل من تظاهر بالإسلام تقية، النصارى ليس كلهم بل من تظاهر بالإسلام تقية، الصابئة ليس كلهم بل من تظاهر بالإسلام تقية، المجوس ليس كلهم بل من تظاهر بالإسلام تقية، المشركون ليس كلهم بل من تظاهر بالإسلام تقية، وذكر النوع الخامس مع زوال الوعد يعني أن الشرك نوعان: شرك ناتح عن تحريف إيمان ويتعلق باليهودية والمسيحية وهو ناتج عن تحريف مفهوم الألوهية وشرك ناتج عن عبادة الافلاك (الصابئة) وشرك ناتج عبادة النار مثل الشيطان (الفرس) وشرط منطلق عن عبادة الإلحاد االمطلق.  وكلها ضد الإيمان الذي هو الدين عند الله أي الإسلام ومع ذلك فهو يؤجل الفصل بينهم إلى يوم الدين وهو ما يطابق اذهبوا فأنتم الطلقاء في دول الإسلام.

لا علاقة لما يحدث عند المسلمين بما يقتضيه الإسلام من شروط الدور الكوني الذي على الأمة القيام به لإنقاذ نفسها والبشرية من التلويثين القاتلين للطبيعة والتاريخ والأبدان والأرواح تلويث الطبيعة وتلويث الإنسان أي ما يسميه ابن خلدون بإطلاق فساد معاني الإنسانية بالتربية والحكم العنيفين في العالم كله.

لكن ذلك سرعان ما انفرط بعد الفتنة الكبرى. فقد لعبت برأس الإمام علي فكرة أنه في نسبة أخي موسى في علاقته بمحمد فتوهم أنه فوق الشيخين ورفض أن يستخلف بهذا الشرط أي اتباع سياسة الشيخين وانتظر الفرصة التي وفرها له اغتيال عثمان ليقبل ببيعة مغتاليه الذين لم يشترطوا عليه اتباع سياسة الشيخين وينقل عاصمة الخلافة إلى العراق.. وعندما طعنه من غرروا به أوصى بالخلافة لابنه. فيكون هو أول من نقل الخلاقة من اختيارية إلى الإرث. وكان ابنه أكثر حكمة منه فتنازل لأنه لم يحصل على البيعة وحينها تمت بيعة معاوية فاستفاد من التوريث الذي سنه علي.

فأما عدم حصول علي على البيعة فذلك أشار إليه ابن خلدون. وأما اغتيال عثمان فلم يسنبه إلى تواطؤ علي بل إلى تآمر القبائل العربية الكبرى التي لم تكن قابلة بحكم قريش وهي ليست من القبائل الكبرى وخاصة من القبائل المتحضرة مثل التي كا نت تحت الاستعمار الفارسي والبيزنطي.

بداية من هذه الحصيلة التي نقلت المسلمين من سياسة دستورها القرآن إلى سياسة دستوره الضرورات تبيح المحظورات: أي حالة الطوارئ السياسية بعد الحروب التي نتجت عن الفتنة الكبرى. ومنذئذ صار منطق الأنظمة السياسة السائدة في الإقليم هي التي تنظم واقع المسلمين حتى وإن بقي الواجب في الأذهان، لكنه خاضع لفقه إسلامي بالاسم لأن التشريع لم يبق فعل  الجماعة التي تتشاور في امريها بل هونظريا إرادة الفقهاء والقضاة وعمليا إرادة من يعينهم. ولما كان من يعينهم ليس له شرعية بحكم قانون الطوارئ او الضرورة التي تبيح المحظور فإن كل الف قه صار غير شرعي بخلاف ما يتوهم حلاق.

وإذا كان طلقاء فتح مكة قد اندمجوا في ثورة الإسلام بل وهم من جعلها كونية لدروهم في حرب الردة أولا ثم خاصة في الفتوحات قبل الفتنة وبعد إخمادها فإن طلقاء الفتح انقسموا إلى من اندمج حقا في الإسلام فكان من دعائم دولته لكن من بينهم من كان حاقدا على ثورة الإسلام لأنها أطاحت  بسلطانهم وهم الخمسة الذين ذكرتهم.

فكانت بسببهم وبسبب ما حصل في الفتنة الكبرى انقسام المسلمين عامة والعرب خاصة فاختلط الحابل بالنابل ولم يكن من اليسير القبول بالرؤية الجديدة لدولة كونية تجمع بين الأديان والاعراق ممن كانوا أصحاب جاه وسلطان.

وكان من الطبيعي أن يحاولوا ما حصل فانهارت الخلافة الأموية وتفتت الخلافة العباسية حتى إن هارون الرشيد الذي اشتهر بنكبة البرامكة لهذه العلة كان قد حاول التحالف مع شارل العظيم في أوروبا ضد  الدولة الأموية الاندلسية.

وصلت إلى غاية هذا الفصل ولم يبق في المحاولة إلا فصلان: أولهما سيكون  للبحث في ما حصل للمجتمع الأهلي بسبب الاختلاط الذي لم ينضج والثاني للمجتمع السياسي بسبب بداوة العرب وحاجتهم إلى مساعدة الأقوام التي كانت أكثر تحضرا منهم فأخلدوا للراحة وتركوا الأمر للموالي..

ويكاد الأمر يتكرر اليوم وخاصة في بلاد العرب التي من الله عليها بالثروة البترولية لأن تربية الأطفال بالخادمات من كل أنحاء العالم والزواج من الأجنبيات من العالم يجعل نفس الظاهرة قد تتكرر فلا يبقى للعرب من العروبة والإسلام في الأجيال القادمة إلا العقال ومسخ التحديث الاستهلاكي.

كما حدث في تجربة "الذوات" في باشوات مصر إذ تصوروا الحداثة هي العيش وليس نمط الإبداع في الرعاية والحماية كما فعل اليابان مثلا فصار قوة عظمى في نهاية القرن التاسع عشر فهزم روسيا في بداية القرن العشرين.

لتكون الخاتمة للحال التي آل إليها الأمر أي الانحطاط والتبعية للاستعمار بعد أن هزمت الأمة في التنافس مع الامبراطوريات الاستعمارية الغربية بسبب :تفتيت الجغرافيا (سايكس بيكو)، وتشتيت التاريخ (الأنظمة القومية)، وزرع إسرائيل وإعادة تسلط إيران وصار أفضل ما يمكن أن يصله العرب هو دور السمسار بين المسيطرين على الديار من عتاة الاستعمار.