دعا أحد المحللين
السياسيين في
تونس جميع
اليساريين إلى الإقرار بأن الرئيس
قيس سعيد حقق إنجازا
سياسيا تاريخيا، تجاوز به السنوات الضوئية من التراكم النوعي والكمي الذي راهن عليه
الكثيرون طويلا، وذلك حين تمكن في عشر دقائق فقط أن يخلص البلاد من الإسلام السياسي
ومن التطرف الديني. لم يتساءل صاحب هذا الرأي عن الوسيلة التي تم اعتمادها للوصول
إلى هذه النتيجة، ولم يناقش الكلفة التي يمكن أن تترتب عن "حلول" من هذا
القبيل، وإلى أي مدى يمكن أن يؤدي هذا
النهج الإقصائي إلى التخلص الفعلي من
الإسلام السياسي على مدى طويل وحتى القصير.
يبدو أن هذه
الأسئلة وغيرها لا تعني كثيرا القائلين بمثل هذا الرأي، وإنما الذي يعنيهم هو
إزاحة خصم عنيد من الساحة بعد أن فشلت بقية الأطراف في القضاء عليه ديمقراطيا، وتعتبر
هذه من بين الخلافات القائمة حاليا في أوساط اليسار التونسي.
اليسار منقسم على نفسه منذ ظهوره لأسباب يطول شرحها، ولم يكن لهذا الطيف السياسي والأيديولوجي أي تعاطف مع أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد، باستثناء صديق قديم هو رضا شهاب المكي، أحد مؤسسي أقصى اليسار، وبعض الرفاق القدامى الذين قرروا الالتفاف حول المرشح الصاعد لمنصب رئاسة الجمهورية. أما بقية أطراف العائلة اليسارية، فقد تعاملت مع سعيد باستعلاء واستخفاف.
يعلم الجميع أن
اليسار منقسم على نفسه منذ ظهوره لأسباب يطول شرحها، ولم يكن لهذا الطيف السياسي
والأيديولوجي أي تعاطف مع أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد، باستثناء صديق قديم هو
رضا شهاب المكي، أحد مؤسسي أقصى اليسار، وبعض الرفاق القدامى الذين قرروا الالتفاف
حول المرشح الصاعد لمنصب رئاسة الجمهورية. أما بقية أطراف العائلة اليسارية، فقد
تعاملت مع سعيد باستعلاء واستخفاف كغيرها من العائلات السياسية، ولم تتوقع له أي مستقبل
سياسي، واعتبره البعض منهم سلفيا لا يختلف كثيرا عن بقية الإسلاميين.
بعد أن فاز الرجل
برئاسة البلاد، استمر موقف العائلة اليسارية مرتبطا عضويا بدرجة عدائه لحركة
النهضة، لكن عندما انفرد بالسلطة بعد الخامس والعشرين من تموز/ يوليو، ولم يشرك
أحدا في الحكم، اضطرب موقف اليسار الذي مالت أغلب مكوناته نحو البحث عن مبررات ما
حدث، باستثناء حزب العمال بقيادة حمى الهمامي، الذي التزم بموقف مبدئي حين اعتبر أن "تصحيح
مسار الثورة لا يكون بالانقلابات وبالحكم الفردي المطلق"، وأكد أن "التغيير
المنشود لا يمكن أن يكون بمساندة انقلاب قيس ولا بالتحالف مع حركة النهضة".
أما حزب الوطنيين
الديمقراطيين الموحد، فقد أيد الانقلاب في البداية بطريقة ما، لكن مع توجه الرئيس
سعيد نحو الانفراد الكامل بالسلطة، انفجر خلاف حاد داخل التنظيم، وأدى ذلك إلى حالة
انقسام بعد أن قرر تجميد أحد كوادره الرئيسية، منجي الرحوي، الذي اختار بدوره
الالتفاف على الحزب والتحدث باسمه.
هاتان العينتان
من داخل أبرز تنظيمين يساريين في تونس اليوم، تُظهران بوضوح أن المسألة
الديمقراطية وربطها بالهوية الطبقية بتعبيراتها وأطرافها المختلفة، لا تزال تشكل
عائقا نظريا وعمليا وحرمت اليسار التونسي من أن ينقذ نفسه من المطبات المختلفة
التي وقع فيها، وأفقدته توازنه ونجاعته، وجعلته غير قادر على تحديد وجهته بوضوح،
ولم تمكنه في الغالب من اختيار الموقف السليم في الوقت الصحيح.
لم يعد لمصطلح اليسار معنى في ضوء ممارسات الكثير من المنتسبين إليه وتصريحاتهم. من حق هؤلاء أن يناهضوا الإسلاميين بمختلف فصائلهم، لكن لا يحق لهم أن يتخلوا عن الحريات وعن الديمقراطية، ولا يجوز لهم أن يحرموا خصومهم من التمتع بالحد الأدنى من الحقوق الأساسية بحجة أنهم لا يستحقون ذلك. هذا منهج فاشي لا يجوز اعتماده.
بدأت هذه المعضلة
منذ أن رفع اليسار أو جزء منه في الجامعة شعار "لا حرية لأعداء الحرية"،
ويقصد بذلك حركة الاتجاه الإسلامي التي بدأت تتوسع وتزحف مع مطلع الثمانينيات.
ونشبت بسبب ذلك معارك طاحنة بين الطرفين المتعاديين، حتى أصبحت الخصومة معركة حياة أو
موت، وانتقل الصراع السياسي إلى درجة التفكير في "الحسم الجسدي". وبدل
أن تكون الأجواء الديمقراطية التي بشرت بها الثورة فرصة لتنضيج الخلافات، وتحويلها
إلى فرصة من أجل خدمة البلاد والارتقاء بالتنافس السياسي إلى مستوى أرقى، جاء
اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي ليقطع الطريق نهائيا أمام إمكانية
التقارب بين الطرفين، ويغذي من جديد الأحقاد بينهما. حصل ذلك على حساب الفرصة
التاريخية التي توفرت لهما ولجميع التونسيين، والتي بدأت تتجسد على أرض الواقع في
الديمقراطية السياسية.
لم تندثر الفرصة
نهائيا، حيث إن الأوضاع الراهنة تؤكد من جديد، أن إدارة الرئيس سعيد للسلطة والشأن
العام لن تؤدي إلى إنقاذ البلاد؛ فعدد الذين يدعمونه بقوة وحماس تقلص كثيرا، بمن
فيهم من يحملون هوية يسارية. هناك مراجعات تحصل يوميا داخل أوساط المدافعين على
مسار 25 تموز/ يوليو، وهو ما أضعف شرعية قيس سعيد، رغم أنه لا يزال يحتل المرتبة
الأولى في استطلاعات الرأي التي تنظم خلال هذه الفترة بسرية؛ نظرا لخضوع البلاد
للزمن الانتخابي الذي يمنع ذلك.
لم يعد لمصطلح
اليسار معنى في ضوء ممارسات الكثير من المنتسبين إليه وتصريحاتهم. من حق هؤلاء أن
يناهضوا الإسلاميين بمختلف فصائلهم، لكن لا يحق لهم أن يتخلوا عن الحريات وعن
الديمقراطية، ولا يجوز لهم أن يحرموا خصومهم من
التمتع بالحد الأدنى من الحقوق
الأساسية بحجة أنهم لا يستحقون ذلك. هذا منهج فاشي لا يجوز اعتماده، لأن اليسار
الحقيقي لا يتنكر للحرية والديمقراطية والعدالة للجميع.