كتاب عربي 21

مقدمات في الظاهرة الانتفاضية على طريق المقاومة الحضارية.. قاموس المقاومة (52)

سيف الدين عبد الفتاح
"القوة لا تكون فقط عتادا وسلاحا؛ بل روحا مقاومة وإرادة لا تنكسر"- جيتي
"القوة لا تكون فقط عتادا وسلاحا؛ بل روحا مقاومة وإرادة لا تنكسر"- جيتي
أتذكر هنا أحد تلامذتي من أرض فلسطين الحرة الدكتور بشير أبو القرايا، وقد ناقشه أستاذنا المرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري وأستاذتنا القديرة المرموقة الأستاذة الدكتورة نادية مصطفى؛ وقد أنجز رسالته حول "النموذج الانتفاضي" باحثا عن ذاكرته وحقائقه اللغوية. فلكل ظاهرة ذاكرة، والظاهرة الانتفاضية في فلسطين أمر لازم الفلسطينيين في كل آن وفي كل مكان؛ ذاكرة حضارية ممتدة تؤشر على أستاذية مبدعة في أشكال المقاومة وأوعيتها، والتي واجهت محتلا متسللا مُكن له من بعد غصب استيطاني وإحلالي بعد انتهاء هذه الظاهرة من كل أنحاء المعمورة.

تمثل الظاهرة الانتفاضية في المجتمع الفلسطيني واحدة من أهم الظواهر السياسية والاجتماعية التي عرفتها الأمة الإسلامية خلال الأعوام المئة والعشرين الماضية، وما زالت قائمة تزداد فاعلية وتواصلا بصورة تؤكد نماءها وارتقاءها الحضاري وسعيها المكين لتحقيق كامل أهدافها التي انطلقت من أجلها.

وإذا كانت "انتفاضة أطفال الحجارة"، وهي "الانتفاضة الكبرى" التي دامت سبع سنوات من 1987 وحتى العام 1994، الحدث الأوسع نطاقا وتأثيرا في أواخر القرن العشرين الميلادي، و"انتفاضة الأقصى" التي انطلقت عام 2000 وتعد الحدث الأبرز دوليا والأعظم عربيا وإسلاميا مع مطلع الألفية الثالثة من القرن الواحد والعشرين، وقد سُميت "انتفاضة الاستقلال" إشارة لاستمراريتها حتى إنجاز التحرير الكامل لأرض فلسطين، إلا أن ذلك لا يعني أن الظاهرة الانتفاضية لم تكن موجودة في فلسطين من قبل، بل إن الفلسطينيين عرفوها مع بدايات العقد الثامن من القرن التاسع عشر، عندما استشعروا ظهور علامات تغير الصفة القومية لأرض فلسطين، مع تزايد الهجرات السرية لليهود القادمين من أوروبا وروسيا القيصرية، وزيادة استيلائهم على الأراضي الفلسطينية.

تمثل الظاهرة الانتفاضية في المجتمع الفلسطيني واحدة من أهم الظواهر السياسية والاجتماعية التي عرفتها الأمة الإسلامية خلال الأعوام المئة والعشرين الماضية، وما زالت قائمة تزداد فاعلية وتواصلا بصورة تؤكد نماءها وارتقاءها الحضاري وسعيها المكين لتحقيق كامل أهدافها التي انطلقت من أجلها

والذاكرة تسكن في عمق التاريخ اللغوي والدلالي لتطور مفردة الانتفاضة، هذا الاسم الذي أُطلق على سلسلة من مقاومة أهل فلسطين للعدو الغاصب المحتل نركز فيها عن كل معنى ومغزى يتصل بتلك الحقيقة الانتفاضية للجذر اللغوي "نَفض"، الذي يتضمن العديد من الاشتقاقات؛ ومما ورد فيه: نفض الثوب ينفضه نفضا، حركه ليزول عنه الغبار ونحوه.. النفض مصدر وعند الفقهاء النفضة: الجماعة يُبعثون في الأرض لينظروا هل فيها عدو أم لا. واستنفض الشيء استخرجه. وهو يستنفض طرُفه القوم؛ أي يرعدهم بهيبته.. والنفيضة الجماعة من الناس، ويصح إطلاق النفيضة على دورية الجند لحفظ الأمن في الطريق. ومن المجاز أيضا نفضت المرأة كرشها، إذا كثر ولدها، وهي َنُفوض: كثيرة الولد؛ ومنه نفضت المكان، إذا نظرت إلى جميع ما فيه حتى تعرفه؛ فالانتفاضة صفة إيجابية لعمل يمس الأغوار ولا يكتفي بتحريك وتحوير الشكليات.

وتشير هذه المعاني المرتبطة بالفعل نفض إلى جملة من العناصر الأساسية منها: الحركة، والمفاجأة في المواجهة، والتخلص من الأذى والسوء (الإزالة). وتدل من ناحية أخرى على كثرة التوالد، والنظر والبحث، والاستخراج، والارتعاد من الهيبة، والتأمل، والقراءة، وإرسال الطليعة، والبرء من المرض والتخلص من الأسقام، والتناثر.

ويرى علماء اللغة أن أغلبها معان مجازية يمكن أن تنسحب على تطبيقات واقعية أخرى، وتأتي لفظة "انتفاضة" في إطارها الاجتماعي والسياسي المعاصر مقبولة ضمن هذا السياق، ليتشكل منها محتوى فكري وعملي ذو دلالات سياسية ترتبط بالظاهرة الانتفاضية الفلسطينية؛ فإن الفعل نفض يتضمن مشاركة خلّاقة وفعالة للمجتمع ككل في مجموعة واسعة من الاستجابات الفاعلة، التي تتضمن في حالة النموذج الانتفاضي الفلسطيني استمرارية مواجهة الاحتلال، وبناء شبكة العلاقات الانتفاضية المعقدة داخل المجتمع الفلسطيني، والتغلب على الفساد والانحراف والأمراض الاجتماعية، لبناء مجتمع انتفاضي متماسك وقادر على الحركة والتصدي للتخلص من الظلم الواقع عليه وتحقيق استقلاله السياسي والاعتراف بحقه في تأسيس دولته المستقلة.

ومن المسائل الجديرة بالإشارة في هذا المقام وفي سياق مقولة في باب المفاهيم أن "المفاهيم تبنى على الأرض وتستند إلى قوة الحق وقوة العمل في معترك الميدان". كانت مفردة الانتفاضة من تلك الكلمات التي فرضت نفسها على الساحة السياسية والإعلامية ليس فقط في بلادنا، بل وفي بلاد الغرب التي اضطرت لكتابة الكلمة في وثائقها وإعلامها بالأحرف اللاتينية "INTIFADA" فصارت علما على حركة ونشاط ومقاومة.

كنت أتأمل في مقولة شاعت نسبت للنبي عليه الصلاة والسلام؛ ألا وهي "الضعيف أمير الركب"، وقد وجدت معناها في مسند أبي داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير فيسجي الضعيف ويردف ويدعو لهم"، فكان المعنى المتبادر "سنّة فعلية" للنبي عليه الصلاة والسلام. إلا أن بعض علماء الحديث قالوا إنه لا أصل له من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يحكى في كتب العرب من قول عمر رضي الله عنه بلفظ "المُضْعِفُ أمير على أصحابه".

وكان يشدني في هذا القول المأثور معاني الرحمة بالضعيف في المجتمع، والسير على مشيته وتمهله في المجموع والجماعة؛ رأفة به وعدم إشعاره بتخلفه عنهم أو بعجزه عن اللحاق بهم مهما كان ذلك في اهتمامه وهمته، فمجمل الفعل والمأثور جعل الضعيف مقدما في صحبه؛ كان ذلك هو المعنى المتبادر لذهني ألتمس فيه معنى الرحمة به كعضو في جماعة أو مجتمع، إلا أنني لم ألتفت إلى تنصيبه معنويا وعمليا كـ"أمير" في الركب؛ وما تعنيه الإمارة من معاني السبق والقيادة وأن يكون الضعيف هو المتصدر للقوم الحافظ لهم، فكيف يقود من تصوره الناس ضعيفا قليل القوة والمنعة؟

وفي سفر التاريخ للمقاومة الفلسطينية وجدت الجواب الشافي والكافي؛ في مُنشئ ومُؤسس حركة حماس وكتائبها القسامية، إنه الشهيد الشيخ أحمد ياسين؛ كنت أشاهده على كرسيه مُقعدا فكان من أفعاله ومكانته العاجز في هيئته كما يراه عموم الناس؛ ولكنه في مقامه كان "العاجز المعجز" المقاوم الكبير والمجاهد الجليل؛ قائدا وأميرا لركب المقاومة؛ الذي كان حجة على أمته ومن بعض ناسها الذين يدّعون العجز عن الفعل والمدافعة والمجاهدة؛ ما بال هذا الشيخ الكبير يتقدم الصفوف أميرا للجهاد والمقاومة في مواجهة الاحتلال والعدوان!

واكتملت لديّ الصورة من كتاب أستاذية المقاومة لأبناء أحمد ياسين وأهله؛ حينما امتشق الطفل الصغير حجارته في "انتفاضة أطفال الحجارة"؛ ولعمري لم يكونوا أطفالا ولكنهم كانوا "فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى".. الفتى الصغير الضعيف يرمي بحجره العدو المدجج بكل أنواع الأسلحة؛ اختار سلاحه الضعيف وحمله قاذفا بساعده الأضعف؛ تحثه أمه كل صباح على الخروج بكامل عدته؛ قاذفا حجره في وجه عدوه المحتل الغاصب.. ارتعب العدو منه ومن حجره ومقلاعه رغم ضعفه، مواجها قوة سلاح عدوه الغاشم والطاغي.

واستمرت الانتفاضة سبع سنين وحار العلم في الظاهرة وتسميتها، ولكن فتية الحجر أثبتوا معادلتهم الراسخة؛ أن "للقوة سقفا وللضعف سقوفا"، وأن القوة لا تكون فقط عتادا وسلاحا؛ بل روحا مقاومة وإرادة لا تنكسر ليضع رسالته الحاسمة للأمة قبل العدو والعالم؛ أن الفتى الصغير حينما يشب عن الطوق سيستمر في مقاومته، وأكد للجميع أن المستقبل المتمثل في هؤلاء الفتية الذين صاروا شبابا يافعا على العهد موفون وللمقاومة سائرون؛ حكمة الفتى الضعيف في هيئته حينما يكون أميرا للركب وفي صدارته؛ المستقبل لنا.

تكتمل تلك المشاهد بعد أن منع العدو الشباب فيما دون الأربعين من الصلاة في المسجد الأقصى أو باحاته، وانتهكت قطعان المستوطنين وجحافل جنودهم الحامين أرض المسجد وباحاته؛ من كان يدفع عن تلك الأرض المقدسة سوى النسوة والعجائز والشيوخ؛ يفتدون المسجد الأقصى بأجسادهم الواهنة؟ مرة أخرى يأتي الدرس الضعيف والضعفاء أمراء ركب المرابطة والرباط.

هل يمكننا الآن أن نتدبر معنى المرابطة والرباط؛ والنفرة والاستنفار؛ والانتفاضة والانتفاض؛ والمقاومة والجهاد؟ هل أدركنا معاني أرض الرباط؟ هل تعرفنا على بركة المقاومة والمدافعة والجهاد "الذي باركنا حوله"؟ إنها الظاهرة الانتفاضية المستمرة، والتي تستعد من جولة بعد جولة، وتستعاد جذوتها فترة بعد فترة، وتزداد نضوجا مرة بعد مرة؛ بعد أن صار للأمة جهاز للمقاومة يناجز العدو الصهيوني في معارك عظيمة وكبيرة؛ فليس أقل من أن تكون الأمة لهم عونا وظهيرا؛ لا متغافلة أو متجاهلة؛ أو متخاذلة أصابها الوهن وحال الغثائية.

وعلى الذين منا ومن لحمتنا المرجفون في الأمة والمدعون الحكمة بأثر رجعي؛ يُحدثون الجلَبة بخطابهم الواهن المنبطح والمستسلم الخانع، ويتحدثون بكلمات العدو ليل نهار متصهينة العرب والمسلمين؛ كيف يعدّل على المقاومة من يرفل في الشهوات وتغرقه الأهواء؟ أهذا له من نصيب ينصح بالتخذيل وقد ملأته الهزيمة والهوان أو يفتي القاعد قعودا والمستسلم الخانع عقودا؛ ذلك القائم بالجهاد والمدافعة والانتفاضة والمجاهدة؟! شاهت وجوه المرجفين؛ وأضاءت وأنارت وجوه المقاومة والمنتفضين؛ أو المرابطين في المسجد الأقصى وحوله؛ ويدفعون عن بيت المقدس آناء الليل وأطراف النهار..

x.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)

خبر عاجل