يبدو السؤال غريبا في هذه المرحلة، فالانقلاب ينظم انتخاباته البرلمانية في دور أول ويستعد
للدور الثاني، وقريبا يعقد جلسة القسم لبرلمان جديد طبقا لأجندة التصحيح الرئاسي،
فكيف يستقيم السؤال عن نهايته؟ لكن رغم هذا المسار الذي يبدو ثابتا فإننا نلتقط
مؤشرات كثيرة على أن الطبقة السياسية أيقنت عجزه ونهايته، وربما تلقّى بعضها أوامر
خارجية بالاستعداد لما بعد الانقلاب. متى يصفر الحكم الدولي لنهاية الانقلاب ومن
سيحكم بعده؟ وهل تعلم
التونسيون شيئا مفيدا من الانقلاب أم إنهم سيعودون إلى ما كانوا
فيه من فشل قبل الانقلاب ليمهدوا بكل غباء لانقلاب آخر؟
هناك حركة في الداخل
اتفق جميع المتكلمين في الشأن العام من موقع المعارضة ومن جبهة إسناد
الانقلاب على فشل العملية الانتخابية التي نظمها الانقلاب، وحظيت النتائج المعلنة
بأكبر كمية من السخرية في السوشيال ميديا. كل بيانات الأحزاب على اختلافها رأت
عبثية ما يجري وأكدت على غياب الأفق السياسي لنظام الانقلاب، بما في ذلك النقابة
التي ظلت تحميه وتناوش عنه متوسلة تكتيكات متعدّدة، لكنّ أمين عام المنظمة هاجم
الرئيس، هذه المرّة، بلغة غير معتادة تذكر بنقابة ثورية. لقد قرأ الجميع الانتخابات
ونتائجها كمؤشر على نهاية مشروع الرئيس.
كل بيانات الأحزاب على اختلافها رأت عبثية ما يجري وأكدت على غياب الأفق السياسي لنظام الانقلاب، بما في ذلك النقابة التي ظلت تحميه وتناوش عنه متوسلة تكتيكات متعدّدة، لكنّ أمين عام المنظمة هاجم الرئيس، هذه المرّة، بلغة غير معتادة
بالتوازي حدثت تصدعات في خماسي المعارضة الذي يزعم احتكار الديمقراطية، فقد
استقال أمين عام حزب التيار ونائبه احتجاجا على توجه شق من الحزب إلى التحالف مع
حزب الفاشية استعدادا لما بعد الانقلاب، كما عقدت بعض مكونات هذا الائتلاف ندوة
صحفية لوضع تصورات ما بعد الانقلاب منفردة عن بقية المكونات، بما يوحي أنه في طريق
إعادة التشكل ويرجح حدوث فرز عميق على قاعدة مع الفاشية والانقلاب أو مع الثورة ضد
الانقلاب. وكنا ننتظر تمايز السيد عصام الشابي والحزب الجمهوري بالانفصال عن
التحالف المحتمل مع الفاشية، لكن الأخوين الشابي دأبا على توزيع أدوارهما؛ قدم في
جبهة الخلاص المعارضة وأخرى في ركاب سلطة أخرى محتملة.
عقدة التحالف مع حزب النهضة
هذه الترجيحات تظل معلقة بجوهر الموقف من حزب النهضة؛ هل يقوم تحالف واسع
ضد الانقلاب يعمل على ما بعده بالتحالف مع حزب النهضة بصفته الحزب الأظهر في
الشارع والقادر على التجنيد والتجييش في الجهات وفي المركز (رغم الهزات الداخلية
التي تعرض لها)؟
إننا وإن كنا نرى هذا الإمكان إلا أننا على يقين أن هذا الاحتمال يمر حتما
بمراجعة الموقف من حزب النهضة، أي الخروج من الموقف الكسول الداعي دوما إلى إجبار
حزب النهضة على مراجعات لم تعد في الواقع واضحة، فلا أحد قدم للنهضة مطلبا محددا
للمراجعة بل ظل الحديث دوما يصر على تحميل الحزب وزر أخطاء السنوات العشر التي
تذرع بها الانقلاب، وهي الدعوة التي تتجاهل أن حزب النهضة لم يحكم وحده طيلة
العشرية بل كان في بعض ردهاتها أقليا في الحكومات المتوالية خاصة في فترة برلمان 2014-2019.
فضلا عن ذلك، إن كثيرا من مكونات المعارضة الحالية وخاصة النقابة، كان يشتغل مع
المنظومة ويستهدف فقط حزب النهضة، والجميع يتذكر برلمان 2019-2021 الذي تحالف فيه
حزب التيار مع حركة الشعب مع الفاشية التجمعية، رغم أنهما (التيار والحركة) كانا في حكومة الفخفاخ مكونا رئيسا، وهو ما سميناه
جبهة الاستئصال الدائمة.
لم نصل بعد إلى الاتفاق حول الجملة التالية: "لقد أخطأ الجميع في حق الثورة، كما شارك الجميع في تفريغ الانتقال الديمقراطي من مضمونه وإضعاف جبهة الثورة لصالح المنظومة"، وهي الجملة المفتاح التي لا يمكن البناء إلا عليها للتقدم في اتجاه محو آثار الانقلاب ومحو ما قبله، ثم العودة إلى مسار بناء الديمقراطية
لم نصل بعد إلى الاتفاق حول الجملة التالية: "لقد أخطأ الجميع في حق
الثورة، كما شارك الجميع في تفريغ الانتقال الديمقراطي من مضمونه وإضعاف جبهة
الثورة لصالح المنظومة"، وهي الجملة المفتاح التي لا يمكن البناء إلا عليها
للتقدم في اتجاه محو آثار الانقلاب ومحو ما قبله، ثم العودة إلى مسار بناء
الديمقراطية على قاعدة تشاركية.
هذه الجملة تفتح بالقوة على تحالفات يكون حزب النهضة جزءا منها، هنا مفتاح
الحل، وهنا يتجلى الخطر على الحزيبات لأن التشارك مع حزب النهضة سينتهي إلى
الصندوق الانتخابي الذي لا تملك مكونات المعارضة رصيدا كافيا لدخوله، خاصة بعد أن
هزها الانقلاب وغربلها فلم يبق منها إلا النزر اليسير.
لم تثب مكونات المعارضة إلى حقيقة موضوعية فاجعة، وهي أنها معارضة أسماء لا
معارضة كتل وجماهير وأنها بدون النهضة في الشارع لن تصل إلى أية وجهة، وستظل كما
كانت تحت نظام بن علي معارضة صالونات وندوات مرفهة وإن رفعت الصوت ونطقت بخطاب
ثوري.
كما لم تصل إلى حتمية القبول بأن لجمهور النهضة حقوقا على هذه المعارضة،
وأن خروجه للشارع بكثافة في عشرين مظاهرة ضد الانقلاب هو من منع الانقلاب من
الاستقرار والتصرف كما لو أنه حاكم شرعي. فجمهور النهضة هو الذي سحب شرعية الشارع
من الانقلاب، ولهذا ثمن تخشى المعارضة كلفته على مستقبلها في سلطة قادمة.
المنظومة تحزم أمرها وتستبق
خارج معركة المعارضة الداخلية وهلوستها بتوزيع أقساط سلطة لم تمتلكها بعد؛
نلتقط مؤشرات على اجتماع مكونات المنظومة. ونرجح أن قانون المالية (أمر رئاسي)
الذي صدر دون نقاش برلماني -كما جرى به الأمر زمن العشرية- سيسرع حركة المنظومة
استباقا لخطره على ثرواتها ومراكز نفوذها المالي. يقوم هذا القانون على نظام ضريبي
جديد يمس خاصة العقارات الثابتة، وتطبيقه سيكشف أولا حجم الثروات المسكوت عنها
ويحمّل الملاك العقاريين وزرا ماليا لم تعتد دفعه. وتبدو لنا هذه خطوة جبارة
للإضرار بثروات مكونات طبقة الريع التي أثرت زمن بن علي وظلت بمنجاة من كل محاسبة
فعلية.
لقد شاغلت هذه الطبقة الانقلاب بلعبة احتكار المواد الأساسية في محاولة
لدفع الشارع للتمرد على الانقلاب، لكن الشارع تدبر أمره بحيل كثيرة وظل يعاني في
صمت ولم يستجب. وكان الإعراض عن الانتخابات رسالة مفادها نقاطع بصمت ولا نعيد ثورة
اجتماعية ثانية لا نقطف ثمرتها. (في نفس السياق نقرأ انفجار الحرقة أو الهجرة
السرية كرسالة أيضا فحواها نحرق الحدود ولا نحرق أجسادنا على طريقة البوعزيزي من
أجل طبقة أثرياء السياحة والتهريب).
مكونات منظومة بن علي/ التجمع أذكى من أن تنتظر سقوط النظام من تلقاء نفسه
أو بقوة الشارع الاجتماعي المُعرض عن الحركة، واجتماعها الأخير (اجتماع شارع
باريس) يأتي خطوة استباقية لما قد يفضحه قانون المالية فيجعلها تحت رحمة جامعي
الضرائب. ونقرأ حضور حزب عبو (الزوجان بعد استقالة الأمين العام ونائبه) كعلامة إسناد
من فرنسا.
المرجح في تقديرنا أن المنظومة تتحين اللحظة وستنقلب بوسائلها وبما تملك من أجهزة صلبة على منظومة سعيد، ولن تعوزها اللغة الوطنية والغيرة على الوطن ومصلحة الشعب. إن سلطتها على الأجهزة الصلبة لم تضار بالانقلاب، وقد استعملتها للانقلاب بواجهة سعيد وتركت له العبث بالمؤسسات الجديدة
ولا يخفى على أحد أن طبقة المال التونسية هي واجهات للشركات الفرنسية في
مختلف القطاعات، والنظام الضريبي الجديد يهدد وجودها.
المرجح في تقديرنا أن المنظومة تتحين اللحظة وستنقلب بوسائلها وبما تملك من
أجهزة صلبة على منظومة سعيد، ولن تعوزها اللغة الوطنية والغيرة على الوطن ومصلحة
الشعب. إن سلطتها على الأجهزة الصلبة لم تضار بالانقلاب، وقد استعملتها للانقلاب
بواجهة سعيد وتركت له العبث بالمؤسسات الجديدة، مثمنة قدرته على محو آثار الثورة
وقطع مسار الديمقراطية ودستور 2014، لكن ليس إلى حد التمادي في الإضرار بثرواتها.
لقد أنجز الكثير مما تريد لكنه الآن يمس خطوطها الحمراء.
انقلاب جزء من الدولة على جزء آخر بعملية خاطفة (14 كانون الثاني/ يناير)
سيعيد لها السلطة دون المعارضة اللطيفة التي تتحرك في الشارع منذ سنتين بلا فعالية
تذكر، وخاصة دون حزب النهضة الذي لم يمت رغم المضايقات. أما جبهة الخلاص الوطني
فقد وضعها السيد نجيب الشابي في جيب معطفه الكشمير المكوي بعناية، تاركا لشقيقه
التنسيق من خلف الخطوط مع المنظومة المتربصة. أما القوى الدولية وخاصة صديقنا تبون،
فسيصدرون بيانات التفهم، فالأمر داخلي يهم الشعب التونسي الحر الأبي. مرة أخرى ولن
تكون الأخيرة، معركة الاستئصال التي توجهها السفارة الفرنسية ستنقذ منظومة بن علي
وتعيدها إلى السلطة.