استمراراً لما بدأناه معك قارئنا الكريم، إذ وضعنا بين يديك خاطرات السيد
جمال الدين الأفغاني(1)، التي قيَّدها رفيقه في الأستانة محمد باشا المخزومي؛ فإننا هذا العام نضع بين يديك سفراً آخر من الأسفار النفيسة، التي خلفها هذا الرجل الرباني، الذي ما زالت حقيقة فكره وجهاده، بل ومعالم سيرته ونشاطه؛ مجهولة مُعمَّاة على أجيال، حتى من كبار الدراويش الذي لا يكفُّون عن التسبيح بحمده. إذ بقدر نشاط الدارسين الغربيين في تتبع نشاطه وقراءة مشروعه المركزي، لكن ما زالت الكتابات العربيَّة عن الرجل هزيلة سقيمة، لا تكُفُّ عن لَوك الكلام الخطابي.
ومكمنُ تفرُّد طبعتنا لـ"
العروة الوثقى"، أنها هي الطبعة الوحيدة - خلال قرن ونيف - "المطابِقَة" لأقدم أصل مطبوع أمكَن العثور عليه إلى اليوم. وهي النسخة المطبوعة بمطبعة التوفيق في بيروت، لصاحبها نسيب صبرا؛ سنة 1328هـ ق (حوالي 1910م)، وذلك بعد وفاة السيد بثلاثة عشر عاماً تقريباً (1897م)، ووفاة محمد عبده بخمسة أعوام فحسب (1905م). وقد دُوِّنَ التاريخ الهجري وحده في آخر صفحاتها، دون الغريغوري، وطُبِعَت هذه الطبعة على نفقة الصحافي اللبناني المعروف الشيخ حسين مُحيي الدين الحبَّال (المتوفى 1954م)، صاحب جريدة: "أبابيل"، كما كُتِبَ على غلافها؛ الذي حمل اسم السيد جمال الدين الأفغاني "مديراً لسياستها"، واسم محمد عبده "مُحرراً أول". والعجيب أن الحبَّال أسقَط اسم ميرزا باقر بواناتي من غلافه، رغم أنه يُترجِم له ترجمة مطوَّلة نسبيّاً، مؤكداً على دوره المركزي بوصفه مُحرراً للجريدة. أما "الأعجَب"، فهو أنه يتبنَّى الصورة المكذوبة، التي رسمها مواطنه رشيد رضا، كاملة غير منقوصة؛ إذ يؤكد في تقديمه المادِح للجريدة أنها: "إلهام سماوي" أُنزِلَ على دماغ جمال الدين، وسال على يراع الشيخ محمد عبده!
بقدر نشاط الدارسين الغربيين في تتبع نشاطه وقراءة مشروعه المركزي، لكن ما زالت الكتابات العربيَّة عن الرجل هزيلة سقيمة، لا تكُفُّ عن لَوك الكلام الخطابي
وقد وصَلَ إلينا - من الطبعة المذكورة - نُسختين مُتطابقتين، وكل منهما عبارة عن مُجلَّد واحد بغُلاف خارجي واحد، ينقسِم داخليّاً إلى جزأين: يضم الجزء الأول نصف أعداد الجريدة، من افتتاحيَّة العدد الأول (الصادر في يوم الخميس 15 جمادى الأولى 1301هـ ق/ 13 آذار/ مارس 1884م)، إلى نهاية العدد التاسع. أما الجزء الثاني فيضم النصف الثاني من أعداد الجريدة بالتمام، وذلك ابتداءً بافتتاحيَّة العدد العاشر، وإلى نهاية العدد الثامن عشر والأخير (الصادر في يوم الخميس 26 ذي الحجة 1301هـ ق/ 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1884م). وبذلك تكون طبعة تنوير للنشر والإعلام - المطابِقة لهذه النسخة - هي أوَّل طبعة تشمَل ثمانية عشر عدداً بالكامل، مُرتَّبة حسب تاريخ صدورها، وذلك منذ أكثر من قرنٍ من الزمان.
وقد احتفظنا بترتيب الأعداد والمقالات كما هو في الأصل المذكور، بغير تلاعُبٍ أو تغيير؛ فإن هذا الترتيب نفسه شديد الأهميَّة في الكشف عن نسق الأفغاني
الفكري، وإعادة رسم صورة جديدة له، تُخالِف اللغو الشائع بين الدارسين العرب.
ولم يتوقَّف جهدنا في تحقيق هذا السفر ومراجعته عند قراءة المادَّة حرفاً حرفاً أكثر من مرَّة، ومعالجة التصحيف، وعمل معجم للأعلام، بل أضفنا عدداً كبيراً من الحواشي؛ لوضع طائفة من الأخبار والنصوص داخل سياقها التاريخي، الذي قد يكون القارئ العام غير مُلِمٍّ به، كما شرحنا غامض الألفاظ، خصوصاً التي غابَت عن استعمالنا اليوم. بيد أننا لم نتطرَّق لاستعمال الأفغاني المطَّرد لمفاهيم سيوسيولوجيَّة مركزيَّة في مُعجمه؛ مثل: "جامعة" و"مِلَّة" و"أمَّة"، إذ هي استعمالات تُخالِف ما عليه الشائع اليوم، بدرجة أو بأخرى، ومن ثم؛ تستحق أن تُفرَد لها الدراسات. وهو ما يسري بدرجة أكبر على استعمال السيد لمفاهيم أخرى، جرى تسييسها وأدلجتها لاحقاً، وتحريفها عن مواضعها؛ مثل: القوميَّة والوطنيَّة.
لم يذكر السيد من الآية سوى ذيلها فحسب. بل إن ذكر ذيل الآية وحده قد جعلنا أشد حرصاً على التخريج، بعد إذ كشفَت لنا قراءتنا المتأنية للنص أن جمال الدين الأفغاني لا يَستدعي الآيات القرآنية دعماً ﻵرائه، مما قد يُفضي إلى الاعتساف أو التسطيح - على طريقة المحدَثين - خدمة لنسقٍ حداثي، غريب على القرآن وتصوراته؛ وإنما يبني نسقاً معرفيّاً داخل إطار الوحي الإلهي
كذلك، عنينا أشد العناية بتخريج الآيات القرآنية، حتى إذا لم يذكر السيد من الآية سوى ذيلها فحسب. بل إن ذكر ذيل الآية وحده قد جعلنا أشد حرصاً على التخريج، بعد إذ كشفَت لنا قراءتنا المتأنية للنص أن جمال الدين الأفغاني لا يَستدعي الآيات القرآنية دعماً ﻵرائه، مما قد يُفضي إلى الاعتساف أو التسطيح - على طريقة المحدَثين - خدمة لنسقٍ حداثي، غريب على القرآن وتصوراته؛ وإنما يبني نسقاً معرفيّاً داخل إطار الوحي الإلهي، مُستعيناً بكافَّة عناصره وأدواته. ومن ثم، فهو حين يُورِد ذيل آية في نهاية فقرة أو عبارة، بوصفه دُعاء أو استشرافاً أو تعييناً لمآل النسق أو الفكرة، التي عبَّر عنها؛ فإن هذا يعني أن ما قبله عبارة عن نسق فكري- حركي بُني داخل نطاق اﻵية نفسها، وفي إطار رؤيتها، وأحياناً داخل سردية مقطع مُترابِط، مُكوَّن من عدد من اﻵيات، ويتناوَل موضوعاً بعينه؛ فإذا هو يبني حركته وفكره داخل إطار السرديَّة القرآنيَّة لمجموعة اﻵيات المختارَة، جاعلاً مآله أو مُنتهاه أو غايته هو عين الأفق المعرفي الحركي الذي عيَّنه القرآن بذيل الآية المذكور، وهي تقنية كاشِفة لمدى تشرُّب السيد للرؤية السُّننيَّة للقرآن وتعاليمه، واستيعابه داخلها.
وهو بهذا ينأى عن توظيف القرآن اعتسافاً خدمة لرؤيته، وإنما يسحب الواقع كله - فكراً وحركةً - إلى داخل الإطار الذي تنزَّل به القرآن ابتداءً، مادّاً ظلال الآيات المعصومة لتتسع للواقع المتغير، وهذا هو جوهر عمليَّة الاجتهاد. وسيكتشف القارئ أن اطراد هذه الطريقة الفذَّة دليل لا على قوة نسقه الفكري وواقعيَّته فحسب، وإنما دليل إضافي على تمام ارتباط الفكر باللغة، لا بالحركة وحدها، وأن السيد - قدس الله روحه - كان يُملي/ يُنتج/ يَبني نسقاً مُتكاملاً مُترابطاً، ولا يصوغ بنية بلاغيَّة محضة، أو يوحي بأفكار نظريَّة مُجرَّدة، تحتاج من يصوغها عنه بلُغته!
لعلَّ أبرز ما في البناء الفكري القرآني للسيد أنه نسق تحريضي صريح، لا بالمعنى الأيديولوجي الضيق، الذي أُسِرَ له جمهرة مُفكري الإسلام بعده، وإنما بالمعنى الحركي الإسلامي التقليدي، الذي لا يحبسُ اﻵلة الكلاميَّة في كونها مُجرَّد آلة حجاجية ساكنة مُثقَلَة، كما فعل متأخرو المتكلمين، وإنما يجعل منها آلة حيَّة لبناء تصور معرفي-حركي
ولعلَّ أبرز ما في البناء الفكري القرآني للسيد أنه نسق تحريضي صريح، لا بالمعنى الأيديولوجي الضيق، الذي أُسِرَ له جمهرة مُفكري الإسلام بعده، وإنما بالمعنى الحركي الإسلامي التقليدي، الذي لا يحبسُ اﻵلة الكلاميَّة في كونها مُجرَّد آلة حجاجية ساكنة مُثقَلَة، كما فعل متأخرو المتكلمين، وإنما يجعل منها آلة حيَّة لبناء تصور معرفي-حركي، مثلما نزع مؤسسو المذاهب الكلاميَّة الكُبرى، خصوصاً المذاهب الأميَل إلى القدَر؛ إذ ترفُض القعود والاستكانة للأمر الواقع. وبعبارةٍ أخرى، فإن الأفغاني المؤمن بعقيدة القضاء والقدر، التي أفرَد مقالاً طويلاً لبيان مذهبه فيها؛ يجعل من جهده الكلامي حركة جوانيَّة تدفع إلى الحركة البرانية دفعاً، إيماناً بحُريَّة الإنسان، ونعمة إجراء المولى - سبحانه وتعالى - لقدره من خلال التكليف؛ أي أنه يجعل من الكتابة مُنطلقاً ربَّانيّاً للحركة، وبداية لها.
ومن ثم، تكشِفُ لنا النصوص الكاملة للجريدة، حين توضع إلى جانب نصوص الأفغاني الأخرى، الثابتة نسبتها إليه، أن دور محمد عبده في هذا السِفر - بوصفه مُحرراً - لم يكُن يتعدَّى دور المصحح اللغوي، أو المستَملي، وهو دور لا يختلف كثيراً عن دور المخزومي في "الخاطرات"، كما لا يختلِف عن دور المحرِّر الثاني للجريدة، الذي يتجاهله كل المشتَغِلين العرب بهذه المسألة؛ ألا وهو المثقف الإيراني غريب الأطوار: ميرزا باقر بواناتي، الذي ربما كان دوره التحريري أكبر بكثير من دور عبده - خصوصاً في ترجمة الأخبار والرسائل - بما أنه كان يُجيد خمس لُغات على الأقل!
والله نسأل أن يجعل عملنا كله خالصاً لوجهه، وأن يتقبَّله منا.
__________
(1) خاطرات السيد جمال الدين الأفغاني، تقرير: محمد باشا المخزومي، تنوير للنشر والإعلام (القاهرة، 2020م).
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry