هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا تزال الأزمة السياسية في تونس تراوح مكانها رغم أن الوقت ليس في صالح البلاد على كل المستويات وخاصة الصحي منها بسبب انتشار وباء الكورونا وما يسببه يوميا من خسائر في الأرواح إلى جانب انعكاساته الاقتصادية والاجتماعية هذا إضافة إلى مخاطر الانهيار المالي وتداعياته المحتملة.
وقد بدت البلاد في الأشهر الأخيرة عالقة كما يقال في عنق الزجاجة فعناصر الأزمة متعددة ومتداخلة بين مؤسسات الدولة والمجتمع السياسي والمجتمع المدني وبين السياسي والاقتصادي والاجتماعي والصحي وهي متنافرة متضادة وكل عنصر منها يمكن أن يمثل صاعقا لانفجار قد لا تحمد عقباه.
فعلى مستوى مؤسسات الدولة لا يزال تعطيل الرئيس لمنظومة الحكم في تناقض صارخ مع ما انتخب على أساسه وأقسم على الالتزام به يفعل فعله السلبي في حياة المواطنين دون أي بادرة أمل في تراجع لتدارك الأوضاع.
أما الحكومة فإن أداءها لم يرتقِ إلى ما تتطلبه المرحلة من تحديات رغم الدعم والإسناد الذي تجده من البرلمان، وهو راجع بالأساس إلى أسباب ذاتية أهمها غياب الرؤية والبرنامج وضعف القدرة على القيادة وعدم الجرأة في اتخاذ القرار. أما الأسباب الموضوعية فأهمها إعاقة الرئيس لعمل الحكومة وعدم انسجام حزامها السياسي وتراكم إخفاقات عشرية الثورة خاصة في المجال الاقتصادي والاجتماعي وبالخصوص في العلاقة بالشركاء الاجتماعيين.
أما البرلمان فإن استهدافه لا يزال متواصلا من بقايا اليسار التجمعي الاستئصالي وداعميهم الإقليميين والدوليين وكل من يتقاطع معهم موضوعيا مهما كانت منطلقاته، وذلك بالترذيل ومحاولات التعطيل والتهديد بالحل. والمستهدف الأساسي من وارء ذلك هو موقع البرلمان في منظومة الحكم الذي ضمن عدم العودة إلى التسلط والانفراد والرئاسوية تحت عنوان النظام الرئاسي. وما يصدر الآن عن مؤسسة الرئاسة خير دليل على ضرورة الاستفتاء على تحويل النظام السياسي الحالي المختلط إلى نظام برلماني كامل مع الاستثمار في تنمية الديمقراطية بدعم بناء الأحزاب وتغيير نظام الاقتراع.
إن البلاد اليوم في جاجة إلى وضوح في الرؤية في إطار الديمقراطية التي لا بديل عنها لتحقيق التنمية والازدهار الاقتصادي ومن أجل منع عملية الانهيار التدريجي للدولة والمجتمع والتحول إلى الفوضى والفشل الكامل
أما في علاقة بمنظومة الحكم فإن نقاط الضعف التي وقع فيها النواب المؤسسون تحتاج إلى مراجعة وإصلاح وإن كانت مبررة بطغيان هاجس الخوف من عودة الاستبداد فإن ذلك لا يبرر عدم الانتباه لإسقاط جملة من الآليات الضرورية لاستمرار الديمقراطية في حالة الانسداد السياسي التام أو لما عليه بناء المؤسسات الدستورية من تعقيد أو لما عليه النظام السياسي من تلفيق مخل أتاح الفرصة لفرد لإعاقة الدولة في ظروف صعبة.
أما بخصوص المنظومة السياسية التي أفرزتها نتائج انتخابات 2019، فمع ضعفها وتشتتها وترهلها بسبب نظام الاقتراع الذي لا يمكن من إفراز أغلبية حكم واضحة ومع ضعف الأحزاب واستهدافها المتواصل في ظل تصاعد المد الشعبوي والتقاطع الموضوعي بينه وبين الطرف الاستئصالي من بقايا المنظومة القديمة. فقد باتت منظومة 2019 غير قادرة على الاستجابة لتحديات المرحلة وفتحت باب الرهان على إسقاط الديمقراطية والعودة للرئاسوية والاستبداد وفي الحد الأدنى على أوهام الديمقراطية الانتقائية الإقصائية (ديمقراطية بدون إسلاميين). هذا إلى جانب التجاذبات والمناكفات واحتداد الصراعات الهامشية دون اعتبار لاهتمامات المواطنين وانتظاراتهم ولقيم العيش المشترك والقبول بالآخر.
إن البلاد اليوم في جاجة إلى وضوح في الرؤية في إطار الديمقراطية التي لا بديل عنها لتحقيق التنمية والازدهار الاقتصادي ومن أجل منع عملية الانهيار التدريجي للدولة والمجتمع والتحول إلى الفوضى والفشل الكامل، وذلك باعتماد الآليتين الآتيتين:
الأولى- توافق استراتيجي: على غرار توافق 2013 وما تبعه من حوار وطني وذلك لإعطاء فسحة من الأمل والاستقرار للبلاد عبر الانطلاق في حوار وطني سياسي بإشراف المنظمات الاجتماعية الوطنية (الاتحادات الثلاث) وبمشاركة جميع الأطراف البرلمانية وغير البرلمانية والرئاسة في أجل لا يتجاوز الستة أشهر ويتولى في بداية أشغاله تحديد جدول أعماله في علاقة بإصلاح منظومة الحكم وتعديل القانون الانتخابي وخاصة نظام الاقتراع وتشكيل المحكمة الدستورية وتخلي رئيس الدولة عن تعطيله لسير عمل الحكومة ودواليب الدولة وتطويرها بما يمكنها من العمل اثاء فترة الحوار من اجل تدارك الوضع الصحي والمالي والهدنة الاجتماعية والاصلاحات الاقتصادية.
الثانية- الرجوع للشعب صاحب السيادة الأصلية، وهو أمر بديهي وديمقراطي في حالة الانسداد السياسي التام ويمكن من خلاله تجديد الشرعية وتغيير التوازنات في اتجاه مؤسسات مستقرة ومنسجمة وما يتم التوافق عليه من إصلاحات ديمقراطية من داخل منظومة الحكم الحالية أو من خارجها تتم إما إجازته في البرلمان أو التوافق على الرجوع به للشعب عبر الآليات الديمقراطية بالاستفتاء أو الانتخابات الرئاسية والتشريعية السابقة لأوانها.
هذه المقاربة تقدم حزمة من الحلول تأخذ بعين الاعتبار كل عناصر المعادلة السياسية الحالية من تعطيل الرئيس لمنظومة الحكم إلى ضعف الحكومة إلى تشتت البرلمان واستهدافه إلى ضعف الأحزاب السياسية وما بينها من تنافي إلى ضرورة الهدنة الاجتماعية ودور المنظمات الوطنية إلى التعجيل بتدارك الوضع الصحي والمالي، وذلك في إطار الديمقراطية وعلى أساس رؤية تؤكد قدرة التونسيين بكل مكوناتهم على تدارك أمرهم بالحوار والخروج من عنق الزجاجة قبل السقوط في الهاوية. فهل تدفع الأزمة الصحية وانعكاساتها السلبية الطبقة السياسية التونسية إلى تجاوز صراعتها، وتجميع جهودها في مواجهة الوباء والجلوس إلى طاولة الحوار؟
*قيادي في حركة النهضة التونسية